❤️اللهم صلي وسلم على نبينا محمد❤️
مضت على ذلك أيامٌ والولدان ينموان في جوهما نمو النبات المحيط بهما، وينمو معهما طيب أخلاقهما وحسن سجاياهما، فبينا فرجيني جالسة في الكوخ ذات يومٍ تهيئ طعام الإفطار لأسرتها كعادتها، والشمس لا تزال في خدرها، وأمَّاها قد ذهبتا مع دومينج لأداء صلاة الأحد في كنيسة «بمبلموس» وبول في الحديقة يشذِّب بعض أشجارها، وماري وراء الكوخ تشتغل ببعض شئونها، إذ دخلت عليها زنجيةٌ مسكينةٌ آبقة كأنها الهيكل العظمي نحولًا وهزالًا، ليس عليها من الثياب إلا خرقةٌ باليةٌ تدور بِحَقْوَيْها فجثت على ركبتيها بين يديها باكيةً منتحبةً وأنشأت تقول لها: الرحمة يا سيدتي فإني أكاد أموت جوعًا، وقد مر بي يومان وأنا أجوب هذه الأحراش والغابات أتوارى مرة وأظهر أخرى، وأقتات كل ما هو فوق التراب؛ مخافة أن تقع عليَّ عيون بعض الفضوليين من الصيادين فيعيدوني إلى سيدي، والموت أهون علي من أن أعود إليه، فهو رجلٌ قاسٍ غليظٌ لا يزال يجلدني ويمزق لحمي بسوطه كلما بدا له أن يفعل ذلك.
ثم كشفت ثوبها عن جسمها وأشارت إلى مواضع الضرب منه فإذا خطوطٌ حمراء ملتهبة لا يستطيع نظر الناظر أن يثبت أمامها لحظةً واحدة، ثم قالت: ولقد حدثت نفسي كثيرًا بالانتحار فما كان يمنعني منه إلا الخوف والجزع، ثم سمعت الناس يحدثون عنكم حديثًا حسنًا، ويقولون إنكم وإن كنتم من هذا الجنس الأبيض المخيف ولكنكم قومٌ محسنون راحمون، فأضرع إليك يا سيدتي أن ترحميني وتعودي علي بلقمةٍ أتبلَّغ بها، وأن تحولي بيني وبين الشقاء! وهنا اشتد بكاؤها ونحيبها فأوت لها فرجيني ورقت لها رقةً شديدة، ونهضت إلى الطعام الذي كانت أعدته لأسرتها فأتتها به، فالتهمته في لحظاتٍ قليلةٍ، وأخذ وجهها يتطلق فرحًا وسرورًا، فقالت لها فرجيني: أتحبين أن أذهب معك إلى سيدك وأشفع لك عنده عله يعفو عنك ويرحمك ويكون لك في مستقبله خيرًا منه في ماضيه؟ وما أحسبه إلا فاعلًا حين يرى بؤسك وشقاءك ومنظر جسمك المعذب المقروح؟ فشكرت لها الجارية فضلها ورحمتها وقالت لها: سأتبعك يا سيدتي حيث شئت، فأنت ينبوع الرحمة والإحسان.
فهتفت فرجيني ببول فحضر، فحدثته حديث الجارية والرأي الذي رأته لها، فوافقها على رأيها واقترح عليها أن يرافقها في رحلتها، ثم سارا معًا والجارية تتقدمهما وتخترق بهما الغابات والأجمات في ممرات مستدقةٍ غامضة تعرفها. وكانت تعترضهما في مسيرهما بعض هضباتٍ عالية كانا يجدان مشقة عظمى في تسلقها حتى أشرفا وقت الظهيرة على ضفة النهر الأسود حيث مقام الرجل، فانحدرا إليه، وهناك شاهدا بنيةً عظيمة فخمة تحيط بها حدائق غناء، وأدواح ملتفةٌ، ومزارع منبسطة، وعبيدٌ كثيرون منتشرون في كل مكانٍ يحرثون ويحصدون، ويحفرون وينقبون، ويخوضون الأوحال، ويحملون الأثقال، ويقطعون الصخور، ولمحا صاحب المزرعة يتمشى بينهم مشية الخيلاء و«غليونه» في فمه ينفث منه الدخان، وبيده عصا خيزران طويلة، وهو رجلٌ طويل القامة، مهزول الجسم، غائر العينين؛ مقرون الحاجبين، أخضر اللون، مقطب الجبين، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه واستعدت للوثوب على كل من يدنو منها، فارتاعت فرجيني لمنظره المرعب المخيف، إلا أنها لم تجد بدًّا من التقدم.
أنت تقرأ
الفضيلة
General Fiction❤️اللهم صلي وسلم على نبينا محمد❤️ هذه الرواية للكاتب مصطفى المنفلوطي تتحدثُ هذه القِصةَ عن بول و فرجيني الصبيآن الذآن ربيا معاً في مكان ناءٍ بعيدا كل البعد عن الترف حيث كانا منذ الصغر يلعبآن و يلهوان معا و يقضيآن جل اوقاتهما في زرع النباتات و رعاي...