الطبيعة

59 5 1
                                    

وهنا قلت للشيخ: هل لك يا سيدي أن تحدثني قليلًا عن نفسك، فإني أشعر مذ جلست إليك أني أجلس إلى رجلٍ من عظماء الرجال، ليست مثل هذه الأرض مما تنبت مثله في وفور عقله، وسعة مداركه، واكتمال أهبته، وكثرة تجاربه واختباراته، ولا بد أن حادثًا من حوادث الدهر العظام قد قذف به إلى هذه الجزيرة النائية فعاش فيها كما أرادت المقادير أن يكون.

فرفع رأسه إلي وقال: نعم سأحدثك عن نفسي قليلًا يا بني، فلا أحَبُ للمرء من أن يجد إلى جانبه جليسًا يستطيع أن يسكب نفسه في نفسه، ويفضي إليه بسريرة قلبه، ثم اعتدل في جلسته وأنشأ يقول: إني أسكن يا بني على بعد فرسخ ونصف من هذا المكان على ضفة جدولٍ صغيرٍ ممتدٍّ بجانب ذلك الجبل الذي يسمونه «الجبل الطويل»، وهناك أقضي أيام حياتي منفردًا، لا زوج لي ولا ولد، ولا أنيس ولا عشير، وعندي أن سعادة المرء لا تعدو إحدى حالتين: أن يوفَّق إلى زوجٍ صالحة تحبه ويحبها، وتخلص إليه ويخلص إليها، فإن أعوزه ذلك فسعادته أن يهجر العالم كله إلى معتزلٍ ناءٍ كهذا المعتزل، يتمتع فيه بجوار نفسه وعشريتها، وقد قضى الله أن أُحرم الأولى، فلم يبقَ لي بدٌّ من اختيار الثانية.

والعزلة هي المرْفَأ الأمين الذي تلجأ إليه سفينة الحياة حين تتقاذفها الأمواج، وتصطلح عليها هوج الرياح، وهي الواحة الخصبة التي يفيء إليها السفر بعد الأَيْنِ والكَلال، فيجدون في ظلها الظليل راحتهم من سموم الصحراء، ولوافح الرمضاء، وهي المنزلة الأولى التي ينزلها المرء في طريقه من الدنيا إلى الآخرة؛ ليستجم ذهنه، ويجمع أمره، ويعد عدته للقاء الله، تعالى؛ لذلك كانت العزلة دائمًا في الشعوب الشقية المضطهدة التي لا إرادة لها أمام إرادة حاكميها الظالمين، وملوكها المستبدين، كما كان شأن المصريين والرومان واليهود فيما مضى من التاريخ، وكما هو شأن الهنود والصينيين والإيطاليين والشعوب الشرقية اليوم.

وقد يكون ذلك أحيانًا في الأمم المتمدينة المتحضرة، فإن للمدنية شقاءً كشقاء الهمجية، لا يختلف عنه إلا في لونه وصبغته، فإن وقوف الإنسان في وسط ذلك المزدحم الهائل بين الجواذب المختلفة والدوافع المتعددة، وحيرة عقله بين مختلف المذاهب والشِّيَع والآراء والأفكار، يحاول كلٌّ منها أن يجذبه إليه ويسطير عليه ويستأثر به، وهو فيما بينها كالريشة الطائرة في مهاب الرياح لا تستقر في قرارٍ، ولا تهبط في مهبطٍ، متعبةٌ عقلية لا قِبَل له باحتمالها، ولو أنه كان أسيرًا في قوم متوحشين، وقد شده آسروه إلى جذعٍ من جذوع النخل، وأخذ كل منهم بعضو من أعضائه يجذبه إليه جذبًا شديدًا ليمزقوه إربًا إربًا، لكان ذلك أهون عليه من هذه الحالة التي يستطيع أن يتمتع فيها بهدوئه النفسي وسكونه الفكري، كما تتمتع السائمة على وجهها في مسارحها ومرابعها، فلا يجد له بدًّا من الفرار بنفسه إلى حيث يجد نفسه، ويظفر بكيانه، ولا سبيل له إلى وجدان نفسه والعثور بها إلا في مثل هذه الصخرة النائية المنقطعة التي يستطيع أن يجمع في ظلالها ما تفرق من أمره، وتبعثر من قوته، ويُضغِي في وسط ذلك السكون والهدوء إلى صوت قلبه حين يحدثه أصدق الأحاديث وأجملها عن الخالق والمخلوق، والحياة والموت، والبقاء والفناء، وطبيعة الكون، وأسرار الخليقة؛ فيشعر بالراحة بعد ذلك العناء الكثير والكد الطويل، كالسيل المنحدر من أعالي الجبال، لا يزال يحمل في طريقه الأقذاء والأكدار، حتى إذا بلغ الحضيض استحال إلى بركةٍ هادئةٍ ساكنة يتلألأ في صفحتها الصقيلة اللامعة جمال السماء وبهجة الملأ الأعلى.

الفضيلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن