جزى الله الإيمان عنا خيرًا، فلولاه لثقلت على عواتقنا هذه الهموم التي نعالجها، ولولاه لعجزنا عن أن نتنفس نفس الراحة الذي يعيننا على المسير في صحراء هذه الحياة القاحلة، فهو النجم الخافق الذي يلمع من حينٍ إلى حينٍ في سماء الليلة المظلمة المدلهمة فينير أرجاءها، وهو الدوحة الفَيْنَانَة التي يلجأ إليها المسافر من حرور الصحراء وسمومها فيجد في ظلالها راحته وسكونه، وهو الجرعة الباردة التي يظفر بها الظامئ الهيمان فيَنْقَع بها غلته، ويَفْثَأ لوعته، وهو المطرة الشاملة التي تنزل بالأرض القاحلة فتهتز تربتها، وتحيي مواتها وتبعث في صميمها القوة والحياة، وهل كنا نستطيع أن نبقى لحظةً واحدة في هذه الدار التي لا نفلت فيها من همٍّ إلا إلى همٍّ، ولا نفزع من رُزْءٍ إلا إلى رُزْءٍ، لولا يقيننا أن هذه الطريق الشائكة التي نسير فيها إنما هي سبيلنا الوحيد الذي يفضي بنا إلى النعيم المقيم الذي أعده الله في جواره للصابرين من عباده؟ وهل كان في استطاعة مريضنا الذي يئس من الشفاء، وفقيرنا الذي عجز عن القوت، وثاكلنا التي فقدت واحدها من حيث لا ترجو سواه، أن يحتفظوا بعقولهم سليمة، ومداركهم صحيحة، وعزائمهم متماسكة، لولا أنهم يعلمون أن حياتهم لا تنقضي بانقضاء أنفاسهم على ظهر الأرض، وأن هناك حياةً أخرى في عالمٍ غير هذا العالم، لا سقم فيها ولا مرض، ولا بؤس ولا شقاء؟
لذلك استطاعت هيلين ومرغريت في أواخر أيامهما أن تحتفظا بسكونهما وهدوئهما أمام هذه الحوادث المؤلمة التي تَفُضُّ أصلاد الصفا، وتذيب لفائف القلوب، فكنت إذا دخلت عليهما رأيتهما في فراش مرضهما صابرتين محتملتين كأنهما لا تعالجان في أعماق قلوبهما أشد الآلام النفسية وأهوالها، فإذا نظرتا نظرتا إلى السماء، وإذا نطقتا نطقتا باسم الله وسألتاه العفو عنهما والرحمة بهما، ثم لا تلبث أعينهما أن تتلألأ بنور الأمل والرجاء، كأنما قد وقع في نفسهما أن الله قد استجاب دعاءهما، وتقبل قربانهما، ووعدهما المثوبة العظيمة في دار نعمته وجزائه.
ولقد دخلتُ صباح يوم على مرغريت للحظة التي استيقظت فيها من نومها فقصَّت علي أنها رأت فرجيني في منامها تسبح في غمرةٍ من النور، وقد لبست قميصًا أبيض فضفاضًا كأنما قد نُسج من خيوط الشمس، ولم تزل تهبط من أوجها رويدًا حتى أصبحت في حرم الأرض، فمدت يدها إلى بول فأخذت به من ضَبُعَيْه وطارت في جو السماء فتشبثتُ بردائه فطِرتُ وراءه، ولا أعلم كيف طرت، ثم نظرت تحتي فإذا هيلين طائرة ورائي، وإذا ماري ودومينج طائران وراءها، ثم دخلت على هيلين في كوخها في الساعة نفسها فقصت علي هذه الرؤيا بعينها؛ فعجبت لذلك أشد العجب! وأيقنت أن الله قد اصطفى هؤلاء القوم لنفسه، وأنزلهم منازل الأبرار الصالحين، وأنهم وإن كانوا لا يزالون على قيد الحياة فقد لحقو بالعالم الآخر، وأصبحوا ملائكةً بين ملائكته المقربين.
ولقد صدقت هذه الرؤيا كما هي، أما بول فقد مات بعد ذلك بثمانية أيامٍ، وكان قد خرج في بعض خرجاته التي اعتادها بدون أن أراه، فافتقدته عدة ساعاتٍ فلم أجده، فانحدرت إلى حي بامبلموس فوجدته جاثيًا على قبر فرجيني وقد ضم إلى صدره صورة بول الرسول التي خلفتها له، فحركته فإذا هو ميتٌ، فحفرنا له ودفناه معها في قبرها، وأما مرغريت فقد لحقت بولدها بعد ثلاثة أيامٍ من وفاته قضتها صابرةً متجلدةً لا تذرف لها دمعة، ولا تصعد لها أَنَّة، وكان وداعها لصديقتها وداعًا هادئًا ساكنًا لم تزد فيه على أن قالت لها: «سنلتقي هناك»، كأنما تفترقان على ميعاد، ثم أسلمت روحها، وأما هيلين فقد ماتت بعد شهرٍ من ذلك التاريخ على ذلك الفراش الحقير، في ذلك الكوخ البسيط، لا يحيط بها غيري وغير ماري ودومينج، بعد ذلك الملك الكبير، والجنة والحرير، والنعمة السابغة، والمتعة الواسعة، أما أنا … وهنا سكت سكتةً طويلةً كانت أوصاله ترتعد فيها ارتعادًا شديدًا ثم قال بصوتٍ خافت متهدج: «فقد بقيت وحدي!» وانفجر باكيًا بكاء ثاكل فجعها الدهر في أفلاذ كبدها جميعًا في ساعة واحدة، فلا صبر لها ولا عزاء، وبعد لأيٍ ما استطاع أن يعود إلى حديثه فقال: وهنا لم أجد بدًّا من أن أنقل ماري ودومينج إلى كوخي، فلم يعيشا بعد مواليهم إلا بضعة أشهرٍ ثم لحقا بهم، فخلت الأرض منهم جميعًا، حتى من كلبهم، وماشيتهم، وطيورهم وعصافيرهم، وأصبحوا تحت التراب أجسادًا هامدةً، وعظامًا نخرة، تسفي عليهم السوافي، وتدور عليهم الدوائر، ويتحدث عنهم المتحدثون كما يتحدثون عن الشعوب الغابرة، والأمم الخالية، ولم يبق من آثارهم غير تلك الجدران المتهدمة التي تراها، وقد خلد أهل الجزيرة ذكرهم في كثيرٍ من الأماكن التي عاشوا فيها، فسموا الرأس الذي عجزت السفينة عن اجتيازه فكان في ذلك هلاكها «الرأس البائس»، والخليج الذي وُجدت جثة فرجيني على شاطئه دفينةً في الرمل «خليج القبر»، والمضيق الذي غرقت فيه السفينة «مضيق سان جيران»، وسموا مخدع فرجيني التي كانت تخلو فيه بنفسها «كهف الفتاة»، وشجرة الخيزران التي ظللت قبرهم جميعًا «الشجرة المقدسة»، والوادي الذي عاشوا فيه «الوادي السعيد»، ثم لم تلبث الأيام أن ذهبت بهذه الذكرى كما ذهبت بأصحابها؛ لأن الناس أصبحوا ينطقون بهذه الأسماء ولا يفهمون معناها، فوا رحمتاه لهم! لقد ضن الدهر عليهم بكل شيءٍ حتى بالذكرى!
أنت تقرأ
الفضيلة
General Fiction❤️اللهم صلي وسلم على نبينا محمد❤️ هذه الرواية للكاتب مصطفى المنفلوطي تتحدثُ هذه القِصةَ عن بول و فرجيني الصبيآن الذآن ربيا معاً في مكان ناءٍ بعيدا كل البعد عن الترف حيث كانا منذ الصغر يلعبآن و يلهوان معا و يقضيآن جل اوقاتهما في زرع النباتات و رعاي...