وحسبك الآن يا بني ما عرفت من شأني، فلَأَعُدْ بك إلى شأن ذلك الولد المسكين، فقد حدثتك عنه أنه كان يختلف إليَّ كثيرًا بعد سفر فرجيني ليطلب عندي عزاءه وسلواه وراحة نفسه من بلابلها ووساوسها.
فوفد إلي ذات يومٍ، وكنت جالسًا تحت شجرةٍ قصيرةٍ كانت قد غرستها فرجيني فيما غرست من الأشجار الكثيرة؛ التي كانت تحمل معها بذورها حيثما ذهبت وأينما حلت، قائلة لعل الله يمنحها النماء والنضرة فيهتدي بها ضالٌ، أو يفيء إليها حائر، أو يتعلل بها ظامئٌ، فجلس بجانبي وأطرق إطراقةً طويلة ثم رفع رأسه وقال: أنا حزين جدًّا يا والدي، ويخيل إلى أن فرجيني قد نسيتني وأن يدي قد أصبحت صفرًا منها إلى الأبد، فلقد مر على سفرها ثلاثة أعوامٍ لم ترسل إلي فيها إلا كتابًا واحدًا منذ ثمانية أشهرٍ، ثم انقطعت رسائلها بعد ذلك، ولا أعلم ماذا دهاها، وماذا دهاني عندها، ولقد حدثتني نفسي اليوم أن أسافر إلى فرنسا وأسعى إلى مقابلة ملكها لأتولى خدمته، وأتوصل من طريقه إلى جمع ثروةٍ طائلة أستطيع أن أتقدم بها إلى جدة فرجيني فلا ترى مانعًا - وقد جمعت في يدي بين حاشيتي المجد والشرف - أن تزوجني من حفيدتها.
قلت: ألم تحدثني يا ولدي قبل اليوم أنك لا تتصل بنسبٍ شريف أو أنك لا تعرف لك أبًا؟
قال: وأية علاقة للأبوة والبنوة بما نحن فيه؟ إنني لا أريد أن أتقدم إلى الملك بحسبي ونسبي، بل بكفايتي وجدارتي وخدمتي التي أقدمها لوطني، وهل يوجد في الناس من يأخذني بذنبٍ لست صاحبه ولا صاحب الرأي فيه، بل لم أكن حاضره ولا شاهده؛ لأنه وقع قبل وجودي في هذا العالم؟ على أنني لا أَعَدُّ ما كان ذنبًا؛ لأن والدتي أطهر وأشرف من أن تقترف الجرائم والذنوب.
قلت: إنك تحدثني بلسان الحقيقة، أما لسان الاصطلاح فهو أن من كان مثلك مغمور النسب أو مقطوعه فلا سبيل له إلى أن يلمس بأطراف قدمه أدنى درجة من درجات المجد، بل لا سبيل له أن يأخذ لنفسه مكانًا مطمئنًا بين الطبقات العالية الرفيعة التي يسمونها طبقات الأشراف والنبلاء.
قال: إنك قد قلت لي قبل اليوم - كما قرأت في كثيرٍ من الكتب - إن عظمة فرنسا إنما حملت على عواتق أولئك الرجال المغمورين الذين لا يمتون إلى الناس بحسبٍ ولا نسب، ولا شأن لهم في حياتهم سوى أنهم قد أدوا لوطنهم خدماتٍ جليلة كانت هي وسيلتهم الوحيدة إلى بلوغ ذروة المجد التي بلغوها، فهل كنت تخدعني فيما قلت لي وكان يخدعني أولئك الكاتبون؟
قلت: لم أخدعك يا بني ولا خدعوك، وإنما كنت أحدثك عن الماضي، أما اليوم فالملوك متكبرون متغطرسون لا يؤثرون مزيةً من المزايا على مزية الحسب والنسب، ولا يعرفون مفخرةً يفخرون بها سوى أنهم من سلالة أولئك الملوك الماجدين، فهم لا يُقَرَّبُون ولا يُدْنُون إلا من أمسك بطرف سلسلة يمسك بطرفها الآخر أميرٌ من الأمراء أو قائدٌ من القواد أو نبيلٌ من النبلاء، هؤلاء هم أعوانهم وأنصارهم، ووزراؤهم وقوادهم، وولاتهم وعمالهم، وجلساؤهم وسمارهم، ومواضع ثقتهم وأمناء أسرارهم، أحاطوا بهم إحاطة السحب الكثيفة بالكواكب النيرة، فلا يأذنون لشعاعٍ من أشعتهم أن يتصل بأحد من الناس سواهم؛ فكانت نتيجة ذلك أن ماتت المواهب والمزايا، وقَبِرَت العزائم والهمم، وأصبح كتاب الأمة وشعراؤها وحكماؤها وعلماؤها ورجال الفنون فيها أضعف الناس شأنًا، وأهونهم خطرًا، وأدناهم منزلة في ترتيب درجات الإنسانية؛ لأنهم قد حرموا الاتصال بتلك الشمس المشرقة التي تمدهم بالقوة والحياة، وتبعث فيهم روح النشاط والعمل.
أنت تقرأ
الفضيلة
General Fiction❤️اللهم صلي وسلم على نبينا محمد❤️ هذه الرواية للكاتب مصطفى المنفلوطي تتحدثُ هذه القِصةَ عن بول و فرجيني الصبيآن الذآن ربيا معاً في مكان ناءٍ بعيدا كل البعد عن الترف حيث كانا منذ الصغر يلعبآن و يلهوان معا و يقضيآن جل اوقاتهما في زرع النباتات و رعاي...