أوروبا

49 5 0
                                    

مرت ثلاثة أعوامٍ ولم يرد على هيلين كتابٌ من ابنتها ولا من عمتها؛ فقلقت لذلك أشد القلق؛ لأنها لم تعرف عن ابنتها شيئًا منذ سافرت حتى اليوم سوى ما كانت تسمعه من حينٍ إلى حين من أفواه بعض الطارئين على الجزيرة، أنها وصلت سالمةً إلى بيت عمتها، وأنها تعيش في ذلك البيت عيشًا سعيدًا يحسدها عليه الحاسدون، ثم ورد عليها منها بعد حينٍ ذلك الخطاب، ولا أزال أحفظ صورته حتى اليوم: 

والدتي

كتبت إليك قبل اليوم كتُبًا كثيرة، ثم علمت من عهدٍ قريبٍ أنها لم تصلك، فأرسلت إليك هذا الكتاب من طريقٍ آخر غير الطريق الذي كنت أرسل إليك منه.

لا أحدثك كثيرًا عن سفري وأدوار، سوى أن أقول لك إن فراقك كان له تأثيرٌ على نفسي عظيمٌ ما كنت أُقَدِّرُه من قبل، فقد بكيت كثيرًا، وتألمت كثيرًا، حتى رحمني من كان معي، وكان يُخيل إلي والسفينة تمخر بي في عباب البحر؛ أنني إنما أفارقك فراقًا لا رجعة لي منه أبد الدهر، ولقد شعرت بوحشةٍ عظيمة في الساعة التي دخلت قصر عمتي، فقد خيل إلي أنه على جماله ورونقه، وحسن نظامه، وبديع هَنْدَمِهِ، وكثرة الذاهبين والآتين في أبهائه وحجراته، مقبرةٌ موحشة لا نأمة فيها ولا حركة.

ولقد سألتني عمتي حين وقفت بين يديها بصوتٍ خشنٍ جاف لا تجول في أديمه قطرةٌ واحدة من الرحمة: ماذا عَلِمْتُ في صغري؟ فلما عرفت أنني لم أتعلم شيئًا حتى القراءة والكتابة قالت: إنك لا تزيدين في شأنك على شأن هؤلاء الخدم الوقوف بين يدي، ولم تنشِئي منشأً خيرًا من منشئهم. ثم أمرت بإرسالي إلى دير في ضواحي باريس أتعلم فيه أنواع العلوم، فعلموني القراءة والكتابة؛ فسرني منهما أني أستطيع مراسلتك وقراءة رسائلك، ثم أخذوا يعلمونني التاريخ وتقويم البلدان والحساب والهندسة والرسم والعلوم الدينية وبعض الألعاب الرياضية، فلم أحفل بشيء من هذا كله؛ لأني شعرت ببغضه والنفور منه، واعتقدت أن لا فائدة لي فيه، فوصفني أساتذتي ورفيقاتي بالبلادة وعسر الفهم، فلم أُبَلْ بذلك؛ لأني ما دخلت الدير لأرضيهم، ولا لأنال الحظوة في عيونهم، على أن عمتي تُعْنَى بي عناية كبرى، وتبذل في سبيل راحتي ورفاهيتي وتيسير جميع مرافقي وحاجاتي مالًا كثيرًا.

وقد خَصَّصَت لخدمتي فتاتين متأنقتين من وصائفها لا عمل لهما نهارهما وليلهما إلا القيام على زينتهما وحليتهما، وقضاء ما يتبقى من أوقات فراغهما في أحاديث تافهةٍ مرذولةٍ لا لب لها ولا ثمرة، كأنما تمثلان على مسرح، أو تلعبان في ملعب، ويُخيل إلي أن عمتي قد أوعزت إليهما ألا تدعواني بلقبي الذي أحبه وأوثره، فهما تسميانني دائمًا «الكونتة فرجيني» بدلًا من «فرجيني دي لاتور»؛ أي إنها تأبى علي أن أحمل اسم والدي الذي أحبه وأعطف عليه وأفخر به كل الفخر، ولا أستطيع أن أنسى ما كابده في حياته من شقاءٍ وألم في سبيلك وسبيل سعادتك؛ حتى سقط في مصرعه المحزن المؤلم في صحارى مدغشقر غريبًا وحيدًا لا يعطف عليه عاطفٌ، ولا يبكي عليه باكٍ، ويخيل إلي فوق ذلك أنها أمرتهما ألا تسمحا لي بالتحدث عنكِ، وعن حياتي الماضية معك، فإذا ذكرتك أو ذكرت شيئًا عن تلك الجزيرة التي قضيت فيها زهرة حياتي نظرتا إلي نظرات الهزء والسخرية، وقالتا لي: إنك باريسية يا سيدتي فلا يجمل بكِ أن تتحدثي أمثال هذه الأحاديث عن تلك الأصقاع المتوحشة.

الفضيلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن