الخفقة الأولى

61 3 1
                                    

ما لفرجيني حزينة مكتئبة لا تضيء الابتسامات ثغرها كما كانت تضيئه من قبل؟!

ما لها واجمةٌ صفراء تمشي مطرِقةً وتجلس واهنةً، وكأن همًّا من هموم الحياة الثقال يملأ ما بين جانحتيها ولا هم هناك ولا حزن؟! ما لها تلجأ إلى الخلوات والمعتزلات وتتجنب جهدها أن تخالط الناس حتى أسرتها وقومها، وحتى صديقها الوحيد الذي هو أعز عليها من نفسها التي بين جنبيها؟!

ما لهذه الخضرة الزاهية البديعة، ولتلك السماء الصافية المتلألئة، ولذلك المنظر البديع الجذاب، منظر الشمس في طلوعها وغروبها، والطير في غدوِّها ورواحها لا يروقها ولا يستثير سرورها وبهجتها، ولا يسرِّي عنها همومها وآلامها كما كان شأنها قبل اليوم؟!

ذلك لأن قلبها خفق الخفقة الأولى، والحب إذا خالط قلب الفتاة لأول عهدها به نقلها من حياة السرور والبهجة إلى حياة الهموم والأكدار.

نعم قد تحولت الصداقة في قلب فرجيني إلى حبٍّ، وللحب شأنٌ غير شأن الصداقة، وحالٌ غير حالها، وشعورٌ وإحساسٌ غير شعورها وإحساسها، وكما أن المرأة الفارغة تشعر بتغيرٍ في جميع حالاتها الجسمية إذا بدأت بذرة الجنين تنمو في أحشائها، كذلك الفتاة الخالية تشعر بتغيرٍ في جميع حالاتها النفسية إذا أحست بدبيب الحب في قلبها، وربما كان هذا الشعور هو دليلها الوحيد على أنها قد أحبت قبل أن تعرف ما الحب وما الغرام؟

لقد كانت فرجيني تجهل في مبدأ أمرها حقيقة الحال التي طرأت عليها ولا تفهم منها شيئًا سوى أنها قلقةٌ مستوحشة، لا تأنس بالناس أنسها الأول، ولا تجد في الجلوس إلى أسرتها ولا في الذهاب إلى «مخدعها» الراحة التي كانت تجدها من قبل، فكانت تهيم على وجهها في القفار والغابات وضفاف الأنهار وقمم الجبال، ما تكاد تستقر في مكانٍ واحد، فإذا وقع نظرها على بول في بعض غدواتها أو روحاتها طارت إليه فرحًا وسرورًا، وبسطت إليه يدها لتعانقه، فإذا دانته انقلبت فجأةً من سرورٍ إلى حزنٍ ووقفت في مكانها جامدة جمود الدمية في محرابها يَتَلَهَّب وجهها حمرةً، ويَرْفَضُّ جبينها عرقًا، فيعجب بول لشأنها، ويظل يقول لها: إن الخضرة اليوم زاهيةٌ جدًّا، وإن الشمس ساطعةٌ متلألئة تضيء كل شيءٍ حتى الأنفاق والأغوار، وكل ما في الوجود ضاحكٌ مستبشرٌ ما عداكِ يا فرجيني، فهل لك أن تحدثيني ما الذي ألمَّ بك؟ وما هذه الغبرة القاتمة التي تلبس أديم وجهِكِ؟ ثم ينقض عليها ليضمها إلى صدره كعادته فتَمَلَّسُ من يديه إملاسًا، وتركض هاربةً إلى أمها لتضع رأسها في حجرها، فيظل بول واقفًا مكانه يعجب لأمرها عجبًا شديدًا، لا لأن الذي يضمر لها من الحب أقل من الذي تضمر له، ولا لأن نفسه خاليةٌ من الهم الذي يخالط نفسها، ولكن المرأة ضعيفة خائرةٌ لا تملك من الصبر والجلد بين أيدي النكبات النفسية التي تنزل بها ما يملك الرجل، فإذا أحبَّت لأول عهدها بالحب وكانت شريفةً فاضلةً خرج بها الحب إلى حالةٍ أشبه بالجنون والخبل، وما هي بجنونٍ ولا خبل، ولكنها حيرة النفس وضلالها.

الفضيلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن