وفي عصر يوم ٢٤ ديسمبر سنة ١٧٤٤ رأى بول العلم الأبيض يخفق على قمة جبل الاستكشاف، فعلم أن سفينةً قادمةٌ إلى الجزيرة، فطمع أن تكون السفينة التي تحمل فرجيني، فانحدر إلى شاطئ البحر فيمن انحدر إليه من سكان الجزيرة ليتعرف شأنها، فعرف أن دليل المرفأ قد ركب زورقه إليها منذ ساعات، وأنه لم يعد حتى الساعة، فجلس في انتظاره حتى عاد وحده، فأخبر أن السفينة اسمها «سان جيران» وربانها اسمه المسيو «أوبن»، وأن الريح لا تساعدها على دخول المرفأ الليلة، ولا يمكنها الوصول إليه إلا في الغد، وكان يحمل في يده عدة رسائل لبعض سكان الجزيرة، بعضها آتٍ من فرنسا، وبعضها مرسلٌ من ركاب السفينة أنفسهم.
فسمع بول فيما سمع من الأسماء اسم مدام دي لاتور «هيلين»، فاختطف الرسالة من يد الرجل اختطافًا، وقرأ عنوانها فإذا هو بخط فرجيني، فطار بها فرحًا وسرورًا، وأخذ يعدو إلى المزرعة عدو الظليم، فرأى على البعد أفراد الأسرة واقفين على رأس هضبةٍ عالية ينتظرونه، فرفع يده بالرسالة وصار يلوح بها في الجو كأنما يحمل رايةً بيضاء، حتى بلغ مكانهم، فقدم الرسالة إلى هيلين ففضت غلافها وأمَرَّت عليها نظرها فعلمت أن ابنتها قادمةٌ على هذه السفينة نفسها، وأن السبب في عودتها من فرنسا أن عمتها حاولت كثيرًا أن تغير من طباعها وأخلاقها، وتذهب بها في حياتها مذهبًا غير مذهبها الأول فعجزت عن ذلك، وأنها عرضت عليها أن تزوجها من عظيمٍ من عظماء البلاط فرفضت، فنقمت عليها نقمةً عظيمة، وأصبحت تحتقرها وتزدريها، وتنظر إليها بالعين التي تنظر بها إلى فتاةٍ مخبولة العقل، فاسدة الذهن، أسيرة الأوهام والأحلام، ثم ما لبثت أن حرمتها من ميراثها، وسلبتها كل ما كانت تسبغه عليها من النعم، ولم يبق إلا أن تطردها من منزلها طردًا، فلم تجد بدًّا من الرجوع، فركبت أول سفينةٍ علمت أنها ذاهبةٌ إلى إفريقيا، ثم ختمت رسالتها بقولها: إنني أكتب لك هذه الرسالة وأنا على ظهر السفينة «سان جيران» وبيننا وبين الشاطئ أربعة فراسخ، ولا نستطيع الدخول إلى المرفأ إلا في الغد كما أخبرنا بذلك الدليل، وفي الغد نلتقي إن شاء الله تعالى.
وما إن انتهوا من قراءة الرسالة حتى استُطيروا فرحًا وسرورًا، وأخذ الزنجيان يرقصان ويقفزان ويهتفان بصوتٍ عالٍ: قد عادت فرجيني! لقد عادت فرجيني، وكان أول ما مر بخاطر بول في هذه الساعة أن يذهب إليَّ في كوخي ويبشرني برجوع فرجيني، ويشكر لي نبوءتي التي تنبأت له بها في أمرها، وكانت قد مضت هدأةٌ من الليل، فأستأذن أمه في ذلك فأذنته، فمشى ومشى أمامه دومينج يحمل مشعلًا كبيرًا حتى وصل إلي بعد ساعتين، وكنت قد أويت إلى مضجعي، فأيقظني من نومي وألقى إلي ببشراه، فلم يكن سروري بها بأقل من سروره، وقال: هيا بنا نذهب إلى الشاطئ لننتظر فرجيني فإن السفينة تصل في الصباح.
فقمت إلى ثيابي فأسبلتها علي وذهبت معه، وكانت الليلة حالكةً مدلهمة قد احتجبت كواكبها وراء قطع الغمام الكثيفة الآخذ بعضها بأعناق بعضٍ كأنها القافلة السائرة في الصحراء، فمشينا لا نهتدي بشيءٍ سوى غريزتنا التي تقود خطواتنا دائمًا في مفاوز الأرض ومجاهلها، وكنا نسمع من حينٍ إلى حينٍ قرقعةً هائلة آتية من ناحية البحر تشبه دمدمة الرعد وليست بها، فلا نفهم منها شيئًا.
أنت تقرأ
الفضيلة
General Fiction❤️اللهم صلي وسلم على نبينا محمد❤️ هذه الرواية للكاتب مصطفى المنفلوطي تتحدثُ هذه القِصةَ عن بول و فرجيني الصبيآن الذآن ربيا معاً في مكان ناءٍ بعيدا كل البعد عن الترف حيث كانا منذ الصغر يلعبآن و يلهوان معا و يقضيآن جل اوقاتهما في زرع النباتات و رعاي...