ليالي الشتاء

78 3 1
                                    

وكان إذا جاء الشتاء وسالت الأجواء بردًا وقُرًّا، وأوت الطيور إلى أوكارها، والوحوش إلى أحجارها، قضوا داخل أكواخهم ليالي سمرٍ جميلة يجتمعون فيها حول منضدتهم العارية على ضوء مصباحٍ ضئيل يلقي أشعته الصفراء الخفافة على ما نيط بجدران الكوخ من معاول وفئوسٍ وقواطع ومناشير، وما كُدِّس في أركانه من حقائب وجوالق وقِربٍ وزوايا، فتتراءى كأنها الأشباح الجاثمة، أو الوحوش الرابضة، فيتحدث بول عن حقوله وأغراسه، وغلَّاته وثمراته، وأحواضه ومستنبتاته، وما نضج من أزهاره وما لم ينضج، وما نقل منها إلى الظل وما أبقى تحت أشعة الشمس، وعن الكروم وعناقيدها، والقمح وسنابله، والذرة وأعوادها، وتحدِّثهم فرجيني عن عصارة القصب، ومنقوع الشعير، وشراب الليمون، وأمثال ذلك من الأشربة التي تعلمت من أمها صنعها وإجادتها واعتادت أن تقدمها لأسرتها صباح كل يومٍ ومساءه.

وقد تحدثهم أحيانًا عن حديقتها الصغيرة، فتظل تصف لهم نبعها المتفجر الثَّجَّاج، ونخلتيها الباسقتين المتعانقتين، وما نبت حولهما من ألوان الزهر وصنوف العشب، وما يختلف إلى خمائلها وأشجارها من أسراب الطير وجماعاتها ليلها ونهارها صادحةً مترنمة كأنها فرقة موسيقية تتحد نغماتها وتختلف رناتها، وتقص عليهم مرغريت بعض القصص الغريبة المملوءة هولًا ورعبًا، كقصة السائح المسكين الذي ضل به طريقه في إحدى الليالي الداجية المدلهمة في بعض غابات بريتانيا الموحشة، فخرج عليه بعض اللصوص من مكمنهم فسلبوه ماله وراحلته، ثم خافوا جريرتهم فقتلوه وألقوه في أحشاء الغابة. أو قصة السفينة التي عصفت بها الريح في بحر الشمال وأحاط بها الموج من كل جانبٍ، وأخذت عليها جميع السبل فغرقت وغرق معها ركابها، ولم يبق من آثارها إلا بضعة ألواحٍ ألقاها الموج على جوانب بعض الصخور الناتئة. فيتأثر بول وفرجيني لسماع أمثال هذه القصص تأثرًا شديدًا، وينفجر في قلبيهما ينبوعٌ صافٍ من الرقة والرحمة بهؤلاء البائسين المنكوبين، ويتمنيان بكل ما تملك أيديهما أن لو وُفِّقَا في يومٍ من أيام حياتهما إلى هداية سائحٍ ضالٍّ عن طريقه، أو إنقاذ غريقٍ من مخالب الموت.

وكثيرًا ما كانت تقرأ عليهم هيلين شيئًا من قصص «العهد القديم»، وبعض آيات من «العهد الجديد»، فيسمعها الآخرون ساكنين خاشعين، تسيل نفوسهم أسًى وعيونهم أدمعًا، إلا أنهم ما كانوا يحفلون كثيرًا بتَفَهُّم مضامينها، واكتناه أسرارها، كأنما يشعرون في أنفسهم أنهم أغنياء عن هذا كله بما وهبهم الله من إيمانٍ فطريٍّ بسيط لا يحتاج إلى تفسيرٍ ولا توضيح، ومن يقينٍ راسخٍ في أعماق قلوبهم يثلج صدورهم ويملأ فضاء نفوسهم راحةً وسكينةً، حتى كان يُخيَّل إليهم أحيانًا أن الفضاء الذي بين أيديهم إنما هو معبدٌ مقدسٌ يصلون لله في أية بقعةٍ من بقاعه شاءوا، ويرون الله في أي مطلع من مطالعه أرادوا، وكأن الطبيعة بين أيديهم إنجيلُ مفتوح تقوم فيه الآيات المنظورة مقام الآيات المتلوة، والبراهين الحسية مقام البراهين التوفيقية المقروءة، وهل الرحمة الإلهية إلا تلك الثمرات التي نبتت لهم في أرضٍ مقفرة مجدبة لا يُنبت مثلها غير الجهد والشقاء؟ وهل القدرة الربانية إلا تلك الجنة الأرضية الزاهرة التي اختلفت أوضاعها وأشكالها وطعومها وروائحها، وقد سُقيت بماءٍ واحدٍ وأشرقت عليها شمسٌ واحدة؟ وهل العناية الصَّمَدَانِيَّة إلا ذلك التوفيق الغريب الذي ضم بعضهم إلى بعضٍ على بُعد ديارهم واختلاف مواطنهم؟ فتكونت منهم أسرةٌ واحدةٌ متحابة متآلفة، يغنيها اجتماعها واتفاقها عن الأهل والوطن، والمال والنَّشَب.

الفضيلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن