مواساة

67 8 1
                                    


استلقيت على السرير بمساعدة الممرضة التي غادرت بعد ذلك تاركة لي المجال لأرتاح قليلاً، حدقت مطولاً بسقف الغرفة الأبيض بينما أتسائل بداخلي 'ماذا سيحدث إن أغلقت عيناي هذه المرة؟..هل سأفتحهما وأجده يطل من زاوية الباب؟ أم سأقضي أعواماً في خوفي دون أن يتحقق' .
يقولون إن أفضل طريقة للتخلص من خوفك هو أن تحبه، ليس الأمر أننى لم أحاول، لكن يبدو أن طريقتي في حُبه خاطئة .

أغلقت عيناي، واستسلمت للنوم نافضة عن عقلي أى تفكير آخر، أرغب فقط في أن أرتاح من كل شيء.



...

صوت صراخ مشوش وبعيد لامرأة غاضبة، طغى هذا الصراخ الغاضب على قراءة الشيخ في المذياع، شيئاً فشيئاً اقترب الصوت واتضح أكثر:

"ما هذه العلامات المتدنية، إن لبث مستواكِ على هذا الإنحدار لن تكوني شيء أبدا، أه يا إلهي لما لم أرزق بفتى متفوق، لما عليها أن تكون فتاة غبية وفاشلة مثلها"

استمرت المرأة بإطلاق كلماتها التي كانت كالرصاص، يخترق قلب الطفلة الصغيرة أمامها، كانت الطفلة تُخفض رأسها بضعف وخجل، تشعر بأنها ارتكبت أكبر جُرم في العالم، فتنتحب بصمت بينها وبين نفسها.

انتهت المرأة من صراخها، ثم ألقت ورقة الإختبار بوجه الطفلة، وغادرت وهى تتمتم بالشتائم والدعاء على الطفلة المسكينة.

أخذت الطفلة الورقة، وجرّت قدميها إلى غرفتها، تحتمي بها من قسوة كلمات والدتها التي تدكّ قلبها بقوة، وتزجر روحها بغلظة.

ألقت نفسها على السرير، وغفت بسرعة لتهرب من الواقع، أو من والدها الذي إن علم عن علاماتها فلن يرحم جسدها الصغير.


استيقظت الطفلة على صوت صرخات حادة، ونحيب مرتجف، فتحت باب غرفتها بحذر، وإختلست نظرة من زاويته بخوف، لكن عينيها وقعت على منظر بشع، أبشع بكثير من أن يتم ضربها.

رأت والدها يجر والدتها من شعرها بوحشية، وكأنه يسعى في انتزاعه، بينما يُلقى عليها بالشتائم الشنيعة، واللعنات البذيئة، لم يهتز فؤاده لدموعها التي تلطخ وجهها، ولا لتوسلاتها المريرة أن يتركها، بل استمر بجرها من شعرها بطول الغرفة وكأنها كيس قمامة.

أسندت الطفلة ظهرها على الباب، وجثت بهلع على الأرض، تضغط على أذنيها بقوة، وتتمتم بداخلها أن هذا كابوس وستستيقظ منه قريبا، كانت تحتاج أن يُربت أحدهم على رأسها، ويخبرها أن كل شيء بخير، لكن صرخات والدتها في الخارج وشتائم والدها كانت تطعنها بعنف، وتوسوس لها أن لا شيء بخير حقا، كانت تشعر أن العالم من حولها ينهار، وأنقاضه تسقط فوق رأسها بقوة.

...




انتشلني صوت الممرضة من هذا الكابوس المزعج، الذي حاولت الخروج منه كثيراً دون فائدة، لا أدري أهذا قانون الأحلام أم أنه خاص بي فقط، حيث أن الأحلام الجميلة تنقطع بسرعة بينما الكوابيس تدوم طويلا.
أجلستني الممرضة، ثم وضعت فوق قدماي طاولة صغيرة عليها بعض الأطعمة، تناولتُ القليل ثم استلقيتُ مرة أخرى أفكر في سيل الذكريات الذي يتبعنى أينما ذهبت، حتى في أحلامي يقفز أمامي كالعفريت الذي كلما هربت منه وجدته أمامي.

وبينما أفكر اقتحم عقلي صورة قديمة لمشهد جسد مُعلق بالسقف، انتفضت بسرعة، أُزيح عن فكري هذه الذكرى الشنيعة، لا أريد التفكير في الماضي.

لماذا لا نفقد الذاكرة عندما نريد ذلك، في المقابل ننسى الأشياء الجميلة التى نحتاج تذكرها، ولا نتذكر إلا الذكريات المؤلمة والأحداث الموجعة.



ولكن.. ماهذا الصوت الطيب الذي انبثق فجأة؟!..
أهى أغنية ما؟!...لا، هذا الترتيل الشجي، والصوت الرقيق والكلمات المقدسة، لم تكن كلمات بل مواساة.
رغبت فقط في إغلاق عيناي والنوم تحت وطأة هذا الترنيم الحلو، لكن الفضول جذبني لمعرفة صاحب هذه التلاوة الخاشعة، هذه بلا شك تلاوة قرأنية.
من قد يتلو القرأن في هذه الساعة المتأخرة من الليل في المشفى!..

___

يتبع.

زهرة نازفةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن