وحيدة

29 3 2
                                    

راقبت هدية روح وهى ترحل بهدوء وتفكيرها منشغل بكيف تساعدها ظلت تفكر كثيرا ولم تلحظ مرور الوقت حتى دخلت ممرضتها الخاصة:

"أنتِ مستيقظة؟..طرقت الباب كثيراً ولم يجب أحد لذا ظننتكِ نائمة"

انتبهت هدية من شرودها وقالت:

"أسفة كنت شاردة ولم أنتبه"

"لا عليكِ"

قالتها الممرضة بينما تزيل أنبوب المحلول من زراع هدية، وأزاحت حامل المصحف من فوق قدميها وساعدتها بالتمدد على السرير.

"تصبحين على خير"
قالت الممرضة قبل أن تخرج، وسمعت هدية تقول:
"وأنتى من أهل الخير"
ابتسمت وخرجت بعد أن أغلقت الأضواء.

أغلقت هدية جفنيها لتنام، ولكنها فتحتهما بسرعة عندما تذكرت الورقة التي أخذتها من روح، دست يدها تحت الوسادة وأخرجت الورقة، ثم مدت يدها ببطئ وأضاءت المصباح الصغير فوق المكتب وبدأت بقراءة الورقة:

«ظلام مُهلك يملئني..كثيراً ما تمنيت الخروج منه لكن لا منفذ، تشدني الأفكار السوداوية إلى نفسي الحالكة وتغرقني في سراديبها الدهماء، كلما حاولت الخروج أنجرف أكثر إلى القاع، والكهوف المهجورة هى ملاذي الوحيد، وأنا وحيدة داخل عالم مليئ بالبهارج والزينة بينما السواد يغلفني من رأسي لأخمص قدماي..
عيناي باهتتين ترى كل شيء باهت..ضعيف..وحزين.»

تنهدت هدية بثقل بعد قرائتها لهذه الكلمات، وأغلقت المصباح بعد أن وضعت الورقة داخل درج المكتب، وظلت طوال الليل تفكر بأمر روح.

***

في الصباح..
جلبت الممرضة سيرين طعام الإفطار لروح، تركته على المنضدة القريبة من السرير، وشرعت في إزاحة ستائر الغرفة لتقدم دعوة خاصة لأشعة الشمس لتنير الغرفة وتمنحها بعض الانتعاش، كانت هذه الأشعة البراقة تخطف نظر روح، فراقبت انسدالها بخفة من النافذة وسيرانها عبر الفراغ، في حين كانت الممرضة تبدل الشاش المحيط بمعصمها وتضع المعقمات عليه وتتفقد بقية الجروح ولاحظت أن بعضها بدأ في الالتئام.

"مارأيكِ أن نخرج للحديقة سويا"
اقترحت الممرضة هذه الفكرة بينما تعيد الغيارات والأدوات إلى الحقيبة الطبية، وتساءلت روح: "يوجد هنا حديقة لم ألحظ ذلك"

استقامت الممرضة وقالت:
"وكيف ستفعلين وأنتى طول اليوم نائمة هنا بلا حراك، هيا يوجد هناك العديد من الأزهار أنا واثقة أنها ستعجبكِ"

كانت روح قد ملت من البقاء في الغرفة، وترغب في التحرك قليلا وجعل جسدها يتنفس، فأخذتها الممرضة وخرجتا سويا إلى الحديقة.

بعيداً عن أجواء المشفى المتعبة، ورائحة المعقمات، وأصوات الأجهزة وآهات المرضى، كان هناك ركن عامر بالخضرة وتملئه رائحة الزهور والتربة المُعطرة، في منتصف الحديقة تقبع نافورة يتدفق من ثناياها شلال صغير وتحيط بها العديد من زهور الإقحوان المبهجة، وعلى جوانب الحديقة وُضعت كراسي خشبية ذات أطراف حديدية مُموجة تفصل بينهم الحشائش الخضراء وتبعثرت في الأرجاء العديد من زهور البلسم الملونة، كان منظرا جميلا لا يوحى أنها حديقة في مشفى، عندما تدخلها لا تسمع إلا زقزقة العصافير من بين الشجيرات المتراصة على الجوانب.

جلست روح وسيرين على أحد الكراسى، وقد مرت نسمة هواء لطيفة، شعرت روح بها تداعب شعرها وتمر من خلال عنقها ووجهها وتمنحها شعور لا يُوصف، وكأن حالتها المزاجية قد تعدلت تماماً، استمتعت بكل لحظة قضتها في الحديقة حتى لاحظت من بعيد طفل صغير، ملابسه مهترئة وجسده نحيل تبرز عظامه من خلال الثقوب التي تملأ ملابسه، راقبته بشفقة وهو يتسول من أحد الجالسين في الحديقة ولكن ما قبض قلبها هو تعامل الرجل العنيف والفظ مع الطفل الصغير المسكين.

حولت عينيها عن هذا المشهد المؤلم لقلبها، وحاولت تجاهله قدر الإمكان لكنها لم تستطع منع المشاعر السوداء من التغلغل بداخلها، شابكت يديها ونظرت نحوهم وقالت بملامح مظلمة
"أتعلمين أيتها الممرضة!
في السابق كنت أظن أن لا أحد يعاني مثلما أفعل كنت لا أصدق أن هنالك من هم أبأس مني، فكرت أن العالم يُسئ معاملتي، إحساس أني لم أخذ حقى كان أكثر شيء مؤلم...

لكن مع مرور الأيام أصبحت أصدق في وجود البؤس في هذا العالم..
أصدق أن في اللحظات التي ضحكت فيها حد الإنتشاء، كان هنالك بائس ما يبحث عن الطعام في القمامة، كان هناك مشرد يرتجف تحت المطر، كنت أرفع صوت ضحكاتي حتى يملأ عقلي ليتوقف عن إنتاج مثل هذه الأفكار.

كيف أستطيع الابتسام وهناك في العالم من حولي من يتألم ويبكي ويتشرد ويموت!.."

لم تغفل عيني الممرضة عن نظراتها الحزينة لذلك الطفل المتسول، تنهدت بتفكير ثم قالت بابتسامة:
"عزيزتي، أنتي لن تستطيعي إيقاف سير العالم، وقضاء حوائج الناس، هؤلاء الذين يتألمون ويبكون ويتشردون لهم خالق يرعاهم ويلطف بهم وينظر إلى حوائجهم ليقضيها بحب وعطف، أفكارك هذه ماهي إلا من وساوس شيطانك، يزرعها بداخلك لتشكي بقدرة الخالق ولطفه، لا تدعي مثل هذه الأفكار تطرق قلبك وتنشر السواد فيه، لكل إنسان في هذه الحياة اختباره الخاص، وكان هذا اختبار الله لهم، إذا رأيت بائس ما وأحزنكِ أمره، فليس لك إلا الدعاء له، ومساعدته بما تستطيعين، واليقين التام أن الله لن يضيعه أبدا"
أنهت الممرضة كلامها واستقامت بعد أن قطفت وردة بيضاء جميلة، وذهبت بها ناحية الطفل، وقد لاحظت روح أنها أخرجت بعض النقود من ملابسها ودستهم بيد الطفل مع الوردة بلطف، لفتت ابتسامة الطفل البريئة نظر روح فرددت بداخلها "الله لن يضيعه أبدا!.."

***

يتبع.

زهرة نازفةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن