تسللتُ خارج غرفتي، وسرتُ في الممر المظلم، أتّبع هدى ذلك الصوت، حتى قادني إلى باب غرفة قريبة من غرفتي، وقفت أمام الباب بتردد، هناك شيء بداخلي يحثني على الدخول، وشيء آخر يسأل 'ما الذي جاء بي إلى هنا'.
حسمتُ أمري، ورفعت قبضة يدي لطرق الباب ولكن، فجأة بُكمت التلاوة وتوارت أضواء الغرفة، و إِكْتَنَفَ السكون أرجاء الممر المظلم، الذي شعرت بنسيمه البارد يصفعني كما صفعتني خيبة المحاولة.
...
الأبواب المغلقة ليست بالشيء الذي قد يحبه المرء، خاصة لو كان طفلاً تمتلئ روحه بالحيوية، والنشاط، والرغبة في الإنطلاق واللعب، كذلك كانت الطفلة الصغيرة تحب رؤية باب منزلهم مفتوح، وتسعى دائما في الهروب والخروج من خلاله، كانت تحب أيضا أن تُفتح لها أبواب الجيران والأصدقاء، لكن الباب الوحيد الذي كانت تريده موصد دائما هو باب غرفتها، عندما تغلقه على نفسها، كانت تراه كالدرع الحامي والسند الوحيد الذي تحتمي فيه من كلمات والدتها القاسية ونظراتها المرعبة، وضربات والدها المؤلمة.
وفي هذه اللحظة، كان باب غرفتها هو حاميها؛ حيث ارتمت بظهرها على الباب فى محاولة لتثبيته حتى لا يُفتح، بينما هناك ضربات وحشية تصيبه من الخارج، وصوت خشن يصرخ :
"إفتحي الباب اللعين"
إنزلقت الطفلة على الأرض بخوف، ووضعت يديها على فمها لتكتم شهقاتها المنكسرة، وأغلقت عينيها بقوة، مُطلقة العنان لدموعها الغزيرة أن ترتحل بأريحية على خديها الناعمين، بينما تردد من أعماق قلبها المرتجف ٫٫كل شئ سيكون بخير،،
لكن لا شيء كان بخير حقاً، فعندما توقفت الضربات على الباب، واختفى صوت الصراخ، ظنت الطفلة أن الأمر انتهى أخيراً، لكنها لحظات قليلة مرت قبل أن ينتشر صوت تحطم الزجاج العلوي لباب غرفتها، وقد غُرزت بعض شظايا الزجاج المتناثر في زراعيها ووجهها، مُخلفة جروح عديدة تخرج منها بعض الدماء.
زحفت الطفلة بسرعة إلى الخلف متجنبة الزجاج الذي يسقط فوقها، وتوجهت ببصرها إلى فتحة الباب العلوية المربعة، وهناك...رأت رأس والدها يدسه دساً من خلالها، غير مبالي بقطع الزجاج الحادة التي غُرزت في وجهه، صرخ في حنق بعيون تشتعل غضباً:
"أقسم إن لم تفتحي هذا الباب، سأحطمه فوق رأسك"
تحجرت الدموع في عينيها، وقلبها كان يقفز بعنف في قفصها، وكأنه يحاول تحطيمه والهروب، رفعت يديها الصغيرتين تغطي عينيها عن هذا المنظر البشع والمرعب، وعلى الرغم من حالة الشلل التي أصابت جسدها، إلا أنها لم تستطع إلا التحامل على نفسها والإفراج عن القفل الذي يغلق بابها.
صوت رنين الجرس يملأ البيت الكئيب، يتبعه صوت الأطفال المبتهج وضحكاتهم العارمة طغت على المكان، ثم علا صوتهم وهم يقولون في وقت واحد:
"هيا نلعب"
ثم ضحكوا سوياً بمتعة، ومع أن الباب لم يُفتح كما هى العادة، لكنهم ظلوا ينادوا ويرنوا الجرس باستمرار وإزعاج.
في الجهه المقابلة من الباب، وقفت الطفلة تنظر إليه بصمت، وهناك الكثير من الرضوض الزرقاء والبنفسجية تملأ جسدها ناهيك عن الجروح الكثيرة التي تستعمر وجهها، كانت عينيها الزرقاوتين تحدق في الباب وكأنها تخترقه وتستطيع الرؤية من خلاله بوضوح، عقلها كان يصور لها المشاهد الكثيرة التي وراء هذا الباب المغلق، الكثير من الأطفال يمرحون بصخب في الخارج، العشب الأخضر الجميل يغطى التربة، ولا بد من وجود بعض الأزهار الزاهية تزين المكان، والشمس تبتسم للأرض من بعيد، وتمنحها الحب والأشعة الدافئة.
في الخارج، يوجد العديد من الغيوم والبيوت الملونة، كل هذه المشاهد كانت تراها من زجاج سيارة والدها أثناء ذهابها إلى المدرسة في الصباح، لكنها كانت تراها مُعتمة بفعل الزجاج الاسود.استيقظت من خيالاتها على صوت الأطفال ينادونها للعب، كانت لتهرع بسرعة للخروج، لولا والدتها التي تقف جهة الباب، تنغزها بنظرات صارمة وتحرك رأسها بالنفى، إلتوت شفاه الطفلة بحزن، ثم قالت بصوت منكسر سمعه الأطفال:
"ل..لا أستطيع اللعب اليوم""أنتِ هكذا دائما، لا تريدين اللعب معنا"
"نحن لن نأتي لأخذك مرة أخرى"
"القدوم الى هنا مضيعة للوقت حقا"
قال الأطفال هذه الكلمات دفعة واحدة ثم رحلوا جميعاً، تاركين ورائهم الطفلة البائسة، وشعور الحرمان يتغذى على كل خلية من روحها.
___
يتبع..
أنت تقرأ
زهرة نازفة
Historia Cortaكنتُ أتساءل، كيف لهذا الكيان الطيني-جسدي-ألا يُزهر، فيُحيل اليأس داخلي إلى ربيع وردي، بدلاً من أن ينزف دماً تسوّد له جوارحي...