"أسفة هل أزعجتكِ بصوتي"
وجهت الفتاة كلامها لي، أجبتها بارتباك حاولت إخفاؤه، وأنا لازلتُ عند الباب:
"كلا بل أنا يجب أن أعتذر لتطفلى، سأغادر حالاً"استدرتُ للمغادرة، ولكن:
"مهلاً، لما جئتِ إلى هنا؟"
صمتُ قليلاً قبل أن أجيب بتعجب:
"لا أدرى!"
أمسكتُ مقبض الباب وفتحته:
"انتظري هل يمكنكِ البقاء قليلاً"نظرتُ إلى وجهها، ورأيتُ تلك الابتسامة الجميلة تزينه، فأغلقتُ الباب، وقلت بينما أتوجه ناحية سريرها
"ولكن الوقت متأخر"قهقهَتْ بخفة، وقالت:
-"حتى أنتِ لا ترغبين في الذهاب صحيح؟"="يبدو ذلك"
أشارت لب بالجلوس على حافة السرير ثم قالت بتفكير: "من ملابس المشفى عليكِ اذا أنتِ مريضة، صحيح؟"
أومأتُ بخفة، ولاحظتُ تركز نظرها على معصمي، ولحسن الحظ كانت أكمام الملابس طويلة ولم ترى بقية الجروح.
قربتْ أناملها ببطئ غريب ولامست الشاش الأبيض الذى يغلف يدي وقالت: "هل هي جراحة؟"ازدردتُ ما في حلقي ثم أومأتُ بالسلب وأجبت بنبرة : "بل جرح إفتعلته بنفسي"
ارتفعت أناملها عن معصمي ورأيت معالم الصدمة تتربع على وجهها وهي ترمقني بعيونها الواسعة."تمزحين!"
قالت ببطئ بنفس الملامح، وعندما لم تجد رد مني شدت ببطئ على الغطاء فوق قدميها من تحت الحامل، ثم قالت: "لما فعلتي شيء كهذا؟!!"بعد سؤالها هذا شعرتُ بعقلي يُشعل النار، وفي الوقت الذي أشعل فيه عقلي النار، اجتمعت كل جوارحي لتلقي بقلبي في جوفها، كنتُ أحترق، كان كل شيء بداخلي يحترق وينزف، وانتهي بي الأمر إلى إعادة التفكير في كل شيء.
كل يوم كان شغلي الشاغل أن أجعله يمضي بسرعة ليأتي اليوم الذي يليه، ثم ماذا؟ مالذى أردته من تتابع الأيام؟..
الموت!!..إذا سأذهب إليه بنفسي، لما علي البقاء داخل هذا البؤس والحياة المهينة بلا سبب، في النهاية سأموت.هذا ما فكرت به في البداية ولكن، بعد إلقاء نظرة قصيرة إلى ما بعد الموت، بتُ أخافه، أن أموت وأنا على هذا التقصير تجاه ربي..صلاتي..نسكي..حياتي، لقد قصرت تجاههم كثيرا لست مستعدة للموت بعد أن جربته لمرة.
أجبتها بعد تفكير قصير: "لقد تعبت، تعبت من الحياة، تعبت من التنفس، عشت أيام طويلة في هذا التناقض والتشتت، والوحدة المؤلمة، والذكريات الموحشة، كل شيء كان يعصف داخل رأسي بألم"
أنا فقط:
"لا أدري ما أصابني..
أشعر بالعجز، والقرف، والرغبة في خياطة فمي وعيني وأذني وأنفي، وإغلاق كل حواسي، والإستلقاء في مكانٍ ما حتى توافيني المنية، ثم لا أريد البعث بعد الموت، التحول لذرات غبار تذروها الرياح لا تبدو فكرة سيئة أيضا..قلبي مهشم، روحي محطمة، وعيناي بهما شيء ضعيف يبكي، أشعر بالإختناق الشديد، وكأن ملايين الأصابع السوداء تطبق على صدري وتعتصرني...
أريد أن أنسى كل شيء، أغمض عيناي وأرتاح من هذا كله."لحظات من الصمت مرت بعد إفراغي لهذه الكلمات، خلالها هدأت الفتاة، واستكانت في مهجعها في صمت، نظرتْ لي بملامحها التي زالت الصدمة عنها لتحل محلها التشوش والكآبة:
"لما كل هذا؟!.."
قالت بهمس حزين بينما توجه عيونها نحو يديها المتشابكتين في حِضنها.لم أجد ما أجيبها به فاكتفيت بالتحديق مطولاً على أرضية الغرفة حتى سمعتها تقول:
"إحكي لي"نظرت نحوي باصرار فأجبتها بهمس:-"لا شيء لأحكيه"
="أنا مستمعة جيدة، يمكننى أن أزيل أحزانكِ، جربي مما تخافين"
"لا شيء، لا أرغب في الحديث الآن"
سكنتْ قليلاً قبل أن تمد ذراعيها لدرج المكتب بجوار السرير، وأخرجت منه ورقة وقلم ومدتهم لي، وقالت:
"إذاً أكتبي ما تشعرين به هنا"نظرت إليها بتساؤل لتكمل: "إذا لم ترغبي في الحديث، إذاً أكتبي عما بداخلك"
تعجبت قليلاً لكنها لاتبدو فكرة سيئة، أمسكت القلم وبدأت بضخ مشاعري داخل الورقة، كان حبر القلم يَرص الكلمات داخل الورقة، هذه الكلمات حملت شيء من خوالج نفسي لم أكتب الكثير لكني شعرتُ بالراحة قليلاً بعدما فعلت، أعطيتها الورقة حينما انتهيت فرفعت إصبعها الخنصر نحوي بعد أن دست الورقة تحت وسادتها، وقالت:
"عديني!"صمتت قليلاً لتكمل بملامح جدية بدت لطيفة بعد كل شيء:
"عديني أن تأتي لزيارتي كل يوم"أدهشني هذا الوعد الذي ترغب في عقده فسألتها: "لماذا؟"
فأجابت : "سنحاول سويا الخروج من هذه الحالة، ألا ترغبين في أن تعيشي بسعادة؟ ألا تتمنين أن تموتي بشعور الرضا عن نفسك؟..سنحاول سويا أن نغير حياتنا للأفضل، أرجوكِ لا تحرميني هذا الثواب وعديني بذلك.."
قالت دفعة واحدة بعينان تشعان أملاً، كانت عيناي تتسع مع كل جملة تنطقها، نعم أرغب في أن أتغير، لكني لا أعرف الطريق الصحيح، هل هذه إشارة لي لأتغير، هل الله أرسل هذه الفتاة لي لتأخذ بيدي إليه!..
في مثل هذا الموقف ليست لدي فكرة عما أفعله، لم أعي بنفسي إلا وأصابعنا تتعانق تحت وطأة هذا الوعد، وشفتاي تنطقان بإمتنان: "أعدكِ"
بعد وقت هممت بالرحيل، أدرت مقبض الباب وقبل أن أخرج، سمعتها تقول: "لحظة لم أعرف إسمكِ حتى الأن"
"صحيح لقد نسيت تماما"
تقدمتُ من سريرها ومددتُ يدى إليها قائلة: "إسمي روح، سررتُ بمعرفتكِ"
ابتسمت مصافحة يدي: " ياله من إسم جميل، وأنا أُدعي هدية، أسعدتنى زيارتكِ يا روح"وهبت نسمات خفيفة من النافذة الصغيرة بجوار السرير، داعبت شعري بلطف، ومنحت هذا التصافح جو من الدفء، كان هذا أول لقاء لطيف بأول صديقة لي في حياتي.
_____
يتبع.
أنت تقرأ
زهرة نازفة
Storie breviكنتُ أتساءل، كيف لهذا الكيان الطيني-جسدي-ألا يُزهر، فيُحيل اليأس داخلي إلى ربيع وردي، بدلاً من أن ينزف دماً تسوّد له جوارحي...