صوت تلاوة تصدح من المسجد قرب المشفى، في خشوع عذب نطق الشيخ : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً).
لطالما كان يضطرب فؤادي لهذه الآية، كنت أتساءل : هل سأكون ضمن تلك النفوس المطمئنة؟..
هل سأموت على هداية، أم ستبقى حياتي تسير بنفس الوتيرة الخاطئة حتى الممات.تنهدت بثقل، وأغمضت عينياي، مطلقة سمعي وقلبي يرفرفان بحرية مع هذه التلاوة الخاشعة لشيخ المسجد.
عكر صفو هذا الجو من السكينة طرقات خفيفة على الباب، لتدخل بعدها الممرضة وعلى وجهها ابتسامة مشرقة.
"أراكِ استيقظت باكراً اليوم"
تابعتها ببصري، وهى تتحرك ذهابا وإيابا، تفتح النافذة وتحرك الستائر، لتقتحم أشعة الشمس الغرفة وتضيؤها، مر وقت طويل قبل أن أرى هذا المشهد المبهج لأشعة الشمس وهى تخترق الستائر، وتقتحم الحواجز لتضيء العالم بحب وتنشر الدفء في كل مكان.
"لم أنم من الأساس"
"لما؟ هل شعرتي بالألم في أى مكان؟"
اقتربت الممرضة تتفحصني بعيون قلقة لكني أوقفتها قائلة:"ليس هكذا، فقط كنت أفكر"
"تفكرين! يبدو شيئا مهما لتسهري الليل بطوله للتفكير فيه"
صمت قليلا، وحدقت في أصابعي المتشابكة بينما أحكها ببعضها، هل على أن أخبرها بما أشعر، هل سأرتاح بعد أن أتكلم مع أحدهم عن ما يخالج نفسي من أفكار، لكني لم أرتح أبدا عندما فعلت هذا في الماضي، ولا أعتقد أن الأمر سيتغير الأن، آه هذا لا يهم، أحتاج أن أفصح قليلا، لقد تعبت من الغوص في بحر من التشتت وحيدة دون وجود بصيص نور لشط النجاة.
"الموت..إنه مخيف جدا"
تبدلت تعبيرات الممرضة لشيء أشبه بالتعجب، لا ألومها لا بد أنه أمر غريب أن تسمع كلام كهذا من فتاة أقبلت على الإنتحار، بل وصل بها الأمر إلى جرح معصميها كلما شعرت باتساع فجوة الفراغ داخلها، أو بانقباض قلبها، كانت تترك جروح عميقة ومختلفة على زراعيها كلما داهمها شعورٍ محبطٍ ما، عندما ترى شخص كهذا ستتولد تدريجيا فكرة أن هذا الشخص بائس من الحياة، لا يريد العيش ولا يهتم بطريقة موته، هو يرى الموت طوق النجاة من ضنك الحياة ولا يرى فيه ذرة خوف واحدة.
"وما المخيف في الموت"
طرحت سؤالها بينما تجذب الكرسى القريب، وتجلس بجوار سريري، تبدو ملامحها جدية أكثر من اللازم وكأنها تناقش مسألة مهمة جدا.
أجبتها قائلة: "الموت مخيف جدا مع أننا نعيشه في كل يوم في حياتنا، إلا أنه يظل فكرة مُرة المذاق، نحن أشبه بالموت من الحياة، بل إن هذه الحياة كلها زائفة والموت هو الحقيقة الأبدية التي يهرب منها الجميع إلى اللا مكان، فلا مكان يُنجي من الموت"
خائفة أنا من الموت، خائفة أن أموت على هذا التقصير وهذه المعاصي دون أن تواتيني الفرصة للتوبة، خائفة من أن يداهمني الموت على حين غرة، ويسلبني روحي المدنسة قبل أن أتمكن من تنقيتها من هذا الدنس.
ببساطة لم أستطع نطق هذه الكلمات، لساني أصابه الشلل، ولم يرغب بالإعتراف بحقيقة خوفي، لا أدري لما فجأة بدأت يداي في الإرتجاف، وشفتاي في الإرتعاش، شعرت بجسدى كله يصيبه البرد، وأطرافي تتنمل، هذه المحادثة بدأت تصبح ثقيلة على نفسي، الأمر ليس مريحا، ليس مريحا أبدا أن تناقش أكبر مخاوفك مع شخص ما.
لاحظت الممرضة إهتزاز جسدي بضعف، فأخذت يداى بين يديها بلطف، وربتت عليهما بخفة، وهى تقول:
"نعم الموت حقيقة كل الأشياء، وما يجعله مخيف أكثر أنه حقيقة مجهولة المعالم، نعيش نحن موقنين بحقيقة موتنا الذي لا نعرف ماهية زمانه ومكانه، كل شيء سيموت، الشمس تعرف هذه الحقيقة لكنها لازالت تضئ وبشدة أكثر من أي شيء آخر، والقمر مازال مشعا يجابه بنوره الشمس.والعالم مازال يتحرك، لم يتوقف عند حقيقة فنائه؛ لأنه يعلم أنه ليس فناء أبدي، فما الموت إلا قناع يخفي ورأه حياة أبدية، ونحن بأيدينا أن نجعلها شقية أو سعيدة، حياة أخرى حيث نلتقى بمن تفرقنا عنهم حيث لا حزن ولا فراق.
إذا أليس الأجدر من التفكير في الموت، أن نستمر ونقاوم ضد الحياة، ونفكر كيف نجعل أبديتنا تلك سعيدة."
استقامت الممرضة، وإتجهت نحو الباب، لكنها استدارت فجأة كمن تذكر شيء :
"هل يمكننى معرفة إسمكِ؟"
قالت بابتسامة لأجيبها:
"إسمى روح"
زادت ابتسامتها وقالت بحماس:
"ياله من إسم جميل، وأنا سيرين إذا إحتجتى شيء اضغطى على الزر الأحمر في الحائط وسآتي، حسنا؟"
أومأت بخفة لتكمل كلامها بينما أمسكت مقبض الباب:"روح، أتمنى ألا تترددى في إخباري بأى شيء يزعجك"
وخرجت مغلقة الباب خلفها.___
يتبع.
أنت تقرأ
زهرة نازفة
Short Storyكنتُ أتساءل، كيف لهذا الكيان الطيني-جسدي-ألا يُزهر، فيُحيل اليأس داخلي إلى ربيع وردي، بدلاً من أن ينزف دماً تسوّد له جوارحي...