ابتسامة

126 10 2
                                    


هل جربت ذلك الشعور يوماً؟
شعور اقتراب النهاية، وأن حياتك كلها أصبحت شريط يتكرر أمام عينيك.
كل ذكرياتك .. أحلامك و آمالك.. دموعك وضحكاتك تتكسر كالزجاج وتصبح مقتطف عابر بين ثنايا هذا الشريط!..

تشبعتُ وجعاً من هذا الشعور، في كل مرة أُغلق فيها عيناي أظن أنها المرة الأخيرة ولن تُفتحا مجدداً، كانت تنتابني حالة رعب شديدة كلما فكرت أن الموت ينتظرني لأغمض عيناي لينقض على روحي ويسلبني إياها.

كنت أخاف أن أفتح عيناي فأجده يُطل من زاوية الباب بظله الأسود وابتسامته الدهماء تغشى على وجهه، كنت أخشى من أن يكون حقيقة أكثر من إدراكي أنه سراب.

لهذا السبب أردت أن أختصر الأوجاع على نفسي، وقررت أن أواجه مخاوفي، ذهبت للموت بقدماي، ربما أعثر عليه وربما يعثر علي، في كلتا الحالتين لن ينتصر من يرى الآخر أولا، بل ستكون روحي ثمنا لهذا اللقاء.

عقلي مشوش تغزوه الكثير من الأفكار السوداء، ولم تمنحني الحياة وقتاً لأفكر؛ فعندما وجدت السكين أمام عيني رأيت فيها خلاصي أمسكت بها وبدأت بنحر معصمي.

عندما أمسكت السكين شعرت أني أمسك بتحفة فنية، حاولت استشعار قطعها الثمينة، كل جزء منها يحمل قوة غامضة، وهذة القوة حكمتها بين يداي، حافتها المعدنية فيها شيء يشدك وكأنك ممسوس، إن لم تقدر على التحكم بنفسك فلن تعي ما حولك إلا والدم يسيل من معصمك.

وها أنا ذا قد غدرت بى سكينتي.. يدي.. نفسي.. حياتي.. كلهم قادوني للموت، ثم رموا بي في جوفه ورحلوا، تركوني وحدي في الظلمة، في القاع سقطت ولم تكن هناك ثمة يد لتمسك بي.

أغلقت عيناي بضعف بعد أن تهاوى جسدي الدامي على الأرض، وظننت يقينا هذه المرة لن تفتح عيناي أبدا..
ها قد انتهت معاناتي، ها قد انتهت حياتي.

...







صوت بعيد متقطع يخترق أذني، أنفاس ثقيلة تدخل وتخرج، هل هذا حقيقي؟..
ضوء أبيض يداهم الظلمة المحيطة بي وينتشلني من عتمتها، أخذني هذا الضوء إلى مكان آخر، فتحت فيه عيناي لأجد نفسي في غرفة بيضاء وسرير أبيض، وأجهزة كثيرة وأسلاك وأنابيب مغروزة بي.
أين أنا؟.. لماذا مازلت في هذه الدنيا، حتى بعد أن ذهبتُ للموت بقدمي لم يأتي؟...

ليس لدى القدرة حتى لأُعبر عن سخْطي؛ جسدي ثقيل جدا، كل شيء يتعبني، حتى الصوت المتقطع لجهاز ضربات القلب كان يؤلمني،  تمنيت فقط لو يتوقف.. لو يتوقف قلبي فيتوقف الصوت معه.

سمعت صرير الباب بجانب أذني، تبعه دخول امرأة بشعر أصهب وعيون فاتحة ونمش خفيف تحت عينيها، كانت جميلة، و ترتدي زى ممرضة، ابتسمت لي، واقتربت بهدوء وهى تقول:

"استيقظتِ!"

لم يبدو كسؤال لذلك اكتفيت بالنظر إليها وهى تزيل جهاز التنفس من على وجهي، ثم سالت بحذر:

"تستطيعين التنفس بدونه؟"

أومأت بضعف وأنا آخذ نفس عميق، ليس وكأنى كنت أرغب فى أخذه لكن، طالما كُتب لي العيش فلا يمكنني إلا التشبث بالحياة.

فحصت الممرضة الأجهزة من حولي، ونزعت الأنبوب الموصول بكيس الدم الفارغ من معصمي، ثم همت بالخروج لكني أوقفتها:

"لو سمحتِ أحتاج الذهاب للحمام"

نظرت لي بتفهم وقالت:

"هل تستطيعين السير، إذا لم تقدري فسأحضر..."

"كلا أستطيع الذهاب"

تحاملت على جسدي وهممت بالوقوف، لكني شعرت بالدوار فأجلستني الممرضة: "إجلسي قليلا حتى يعتاد جسدك على الحركة، وبعدها سنذهب"

جلست قليلا ثم ذهبت للحمام والممرضة تساندني حتى الباب، كدنا أن ندخل، ولكن:

"هل يمكنني الدخول بمفردي"

بدت مرتبكة بعض الشئ، ثم استأذنتني ودخلت قبلي، أنا واثقة من أنها تتأكد من عدم وجود أشياء حادة في الداخل، ليتها تعلم أني لن أُقدم على الانتحار مرة أخرى، مثل هذه المحاولة تحدث مرة واحده اعادتها هو شيء عديم النفع حقا.

دخلت الحمام بعد أن خرجت، وقد تركتُ الباب مفتوح قليلا كما طلبتْ، وقفت أنظر لانعكاسي فى المرآة الكبيرة أمامي، مرآة كبيرة كهذه لن تستطيع الممرضة إخراجها من الحمام لهذا طلبت مني ألا أغلق الباب.

كنت أبدو شاحبة، مقروحة الجفن، بشعر متشابك وعينين زرقاوتين ضعيفتين وباهتتين، كل هذا كان لا شيء، لم يجذب نظري إلا الجروح الكثيرة التي تملأ معصماي، أتذكر كل جرح، وأتذكر أيضا الشعور الغريب الذي انتابني بعد هذه الجروح، لم يكن الأمر مؤلم بل كان مريح، مريح بطريقة مؤلمة، كنت أتخلص من كَمَد روحى عبر انتهاك جسدى.

تحسست قطعة الشاش التي تغلف معصمي عند شرياني الأيسر، كانت محاولة فاشلة بالفعل، لا أدرى لما أقدمت عليها الأن بعد كل المعاناة التي تحملتها، لكني أدركت أني بتُ أخشى الموت أكثر.

نظرت لانعكاسي مرة أخرى، ولمحت شفتاي البائستين، رسمتُ بسبابتي على المرآة ابتسامة، وتخيلتها تجري على شفتاي، كانت فكرة عقيمة، لكني تمنيت حقا لو أستطيع الابتسام مرة أخرى.

___
يتبع.

زهرة نازفةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن