اذهبي للصلاة

26 3 8
                                    

مرت روح خلال الممر أثناء عودتها لغرفتها، بعد محادثتها مع الممرضة في الحديقة شعرت ببعض التحسن وأن جزء من روحها بدأ يطمئن، لكن لازلت تشعر بذلك الفراغ المرير والحزن الغامض يملأ كيانها، تشعر أن هناك ثقب في قلبها يبتلع كل مشاعرها ويؤرقها.

بطريقة ما وجدت قدميها قد قادتها لغرفة هدية، وقفت أمام الباب بحيرة وتشوش، وبعد دقائق من التردد رطمت الباب بطرقات خفيفة لتسمع صوت هدية من الداخل يخبرها بالدخول.

ألقت السلام على هدية التي استقبلتها بابتسامة ودعتها للجلوس، فجلست على حافة السرير بالقرب منها.
"كيف حالكِ اليوم"
سألت هدية بحذر وهى تترقب ملامح روح الخالية من التعبير، وقد أجابتها بتلك الكلمة المعتادة "بخير".

لم تخفى على هدية نظرات الكآبة في عينيها فقالت "لقد وعدتيني أن تخبريني بكل شيء يؤرقكِ، ألم تعهدي لي بالتغيير، كيف سأفعل إذا أخفيتى عني مشاعركِ، صارحيني بكل شيء أريد أن أعرف مايدور بداخلكِ"

وحقاً كانت روح تحتاج لأن تفعل، كانت تريد أن تجد من تثق به لترمي إليه بكل حزن تشعر به، بداخلها فجوة عميقة تحتاج من يملئها وإلا فلن تستطيع العيش، كثيراً ما حاولت الخروج من صندوق كآبتها السوداء، ولكن الكثير من القيود تشدها بقوة كلما تحركت، كانت تشعر بروحها تندثر باندثار اللحظات والثواني وتضمحل باضمحلال الوقت، تنتهي حياتها بسرعة وهي تنظر من بعيد غير قادرة على اللحاق بها، لا تشعر بمرور الوقت، حقيقةً لا تشعر بشيء.

انسلت الكلمات من بين شفتيها الشاحبتين:
"يوجد بداخلي شيء ما مفقود..
يمر يوم، ويليه آخر وهذه الرقعة الفارغة تزداد اتساعاً.
شعور دائم بالتيه والفقدان يعتريني، والعالم من حولي لا يبالي.
بتُ لا أقوى على تحريك عضلة لساني، أصبحت الكلمات تمزقني، والأصوات تبعثرني..
صدري يحرقني من كبت دموعي، وعيناي بركان خامد.
جسدي مثقوب، وقدماي بهما ثُقل يحول دون تحريكهما.
بداخلي فوضي من اللاشيء، وخارجي عالم ينهار.
والعجز كل ما أملك لمواجهة هذه الحياة."

وضعت يدها بالقرب من قلبها وتشبثت بملابسها فيما دنت بنظراتها نحو الأرض، من ناحية أخرى غُلّ لسان هدية ولم تعرف ما تقول، وظلت عاصفة من الأفكار تتقاذف برأسها من موجة لأخرى، لم تهدأ العاصفة إلا بعد سقوط قطرة من الماء، لكنها لم تكن قطرة مطر بل قطرة مالحة استقرت على يد روح بعد أن أفرجت عنها عينيها اللامعتين، بدت أنها تجاهد دموعها ألا تخرج، ولكن بمجرد هروب هذه القطرة اليتيمة تبعتها قطرة..وقطرة..وقطرات، لم تستطع إيقافها حتى بعد أن مسحت بكفيها على عينيها.

دمعت عينا هدية ثم رفعت يدها ببطئ ووجهتها ناحية وجه روح الباكي، لاحت الكآبة على وجهها بعد أن شعرت بالعجز لعدم مقدرتها على الوصول لدموعها وإزالتها عنها، حاولت كثيراً رفع جسدها ولكن لم تستطع حتى إزاحة قدم واحدة عن موضعها، كانت روح ساهية عنها وعن محاولاتها بالحرب ضد دموعها وتحاول السيطرة على هذه الأمواج التي استباحت عينيها.

سكنت هدية بجسدها بعد إدراكها بفشل محاولاتها، وركزت ببصرها ناحية النافذة الصغيرة بجوار السرير والتي كانت تُظهر قطعة صغيرة من جو السماء وقالت "أنا أحسدكِ"

جذبت جملتها الغريبة انتباه روح وقد هدأت عاصفتها فجأة وأنزلت يديها عن عينها التي وجهتهما ناحية هدية التي أردفت قائلة "من هذه الغرفة لا يمكنني إلا رؤية هذه القطعة الصغيرة من السماء، مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيت فيها المطر، لا يمكنني مغادرة هذا السرير"

وجهت عينيها إلى عيني روح الدامعتين مباشرة فيما استكملت حديثها قائلة:
"مرت ثلاث سنوات منذ دخلت هذه المشفى، لا زلت أذكر ذلك اليوم، كنت في الخامسة عشر عندما اكتشفت مرضي والذي بسببه أصبح جسدي ضعيف جداً"

حكّت يديها ببعضهما وهى تقول في توجس: "يقول الطبيب أن أعضائى تضعف، ومع الوقت ستتوقف بالتدريج، ليس لدي وقت طويل لأعيشه"

توسعت عيني روح بصدمة وبرق شيء من الرَوْع في داخلها، وسمعت هدية تقول: "لا أدرى لما اختارني هذا المرض، لكني أدري أنه إختبار الله لي، التفكير في أن الله يحبني كثيراً ليبتليني بمثل هذا الإبتلاء العظيم، لذلك لن أرضى إلا بالنجاح في هذا الإختبار، سأصبر كثيراً لأني أعلم أن الله سيجازيني بأضعاف هذا الصبر.
شعور أن الله يحبك، الدنيا كلها تافهة، لا تساوي مثل هذا الشعور"

إِنْسَكَبَت الدموع من عيني هدية وارتسمت على ثغرها ابتسامة وهى تقول:
"تعلمين أكثر شيء أتمناه في هذه الحياة!.. أتمنى أن أرى السماء من خارج هذه الغرفة، أخبرتني الممرضة ذات يوم أن هناك حديقة جميلة في الخارج، وصفتها لي وقالت أنها مليئة بالزهور، أتمنى أن أراها مرة قبل أن أموت"

زُعرت روح بعد سماعها لآخر كلمة، فاقتربت من هدية بسرعة وأمسكت بيديها وهى تقول بود: "يوماً ما سنذهب لرؤيتها سوياً، أعدكِ"

ضحكت هدية بمرح ثم قالت بعد وقت وهي تمسح على عينيها بنبرة جادة: "قبل هذا يجب أن نتخلص من هذا الحزن الذى يعتريكِ"

مسحت روح آخر قطرات من عيونها وهى تقول:

-"ماذا أفعل؟"

="اذهبي للصلاة"

-"الصلاة؟!"

="نعم، إنها لقاء الحبيب، عندما تحتاجين أحد تطلبين لقائه، كذلك الصلاة، اذهبي للقاء ربكِ واطلبي منه المغفرة..الهداية..والثبات".
___

يتبع.

زهرة نازفةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن