رغم انني لست ممن يتأثرون بسهولة الا ان هذه الحادثة قد أثرت علي وبشدة ، لدرجة ان الاستياء بدى واضحا على وجهي وقد لاحظه الجميع ... سأكذب ان قلت انني أتذكر ذلك اليوم و سأكذب أيضا إن قلت أنني لا أتذكر منه شيئا .. لكنني تذكرت كيف سحبني صديق طفولتي لمكان منعزل ليشرح لي الأمر ، وكيف كان يجوب القاعة ذهابا وايابا ، يجر الارض بحذائه ، ولا يستطيع رفع ناظريه إلي ، إلي أنا التي أرتعش أمامه وأنظر إليه متمنية ، بل ومترجية أن يكون الأمر مزحة .. يتوقف وينظر إلي من حين الى آخر ، بعينين محمرتين وجاحدتين ، مرعبتين لدرجة تجعل الدموع تتحجر في خاصتي ... وتذكرت أيضا تلك الوجوه التي كانت تضحك سرا وتدعي القلق علي .. تذكرت بعض مشاهد فقداني للسيطرة وتلفظي ببعض الكلام الذي لم يجب علي قوله .. تذكرت كيف نزلت بعض دموعي امام صديق ثالث إعتاد رؤيتي مبتسمة طوال الوقت ، بل واضحك عندما أتذكر كيف ارتعب و توتر عندما لم يعرف ما الذي يجب عليه فعله ، وكيف كان يتلعثم عندما خانته الكلمات .. وأنا في غرفتي مساءا ، فكرت في كل شيء و استحظرت بعض التفاصيل التي أغفلتها .. فرغم أنها تبدو مجرد حادثة بالنسبة لك ، فإن هذه الحادثة كانت نقطة التحول في حياتي .. كانت كصفعة فتحت عيني على الحقيقة.. ادركت حينها الكثير من الأشياء .. ادركت مدى اختلافنا و بعدنا عن بعض .. كانت مكنوناتنا مختلفة لكن ليس من النوع الذي يكمل بعضه بل من النوع الذي لا يتجانس .. ادركت حجم خطئي ، وأدركت أنه أيضا ذلك النوع من الأخطاء الذي لا يمكن تصحيحه فكل ما امكنني فعله حينها هو تجنب الوقوع في المزيد من الأخطاء .. ..
رفعت رأسي بجهد كبير لأتسمر مكاني عندما لمحتها في وسط الظلام .. هناك عند الزاوية .. وبريق غريب في عينيها سرعان ما اختفى عندما بدأت بالإقتراب .. سرت قشعريرة غريبة في كل أنحاء جسدي الملقى على الفراش ، كالتي أحسست بها عندما ظهرت أول مرة .. الأمر الذي دفعني للجلوس معتدلة وانا لا ازال أحملق فيها ... ولم أستطع سوى أن أنطق بكلمة واحدة " أ.. أ .. آبي !! " ... خرجت بصعوبة بالغة ..
آبي .. آبي ... يا لسخرية القدر .. الآن تظهرين ! ... بالرغم من أنني لم أرك منذ سبع سنوات إلا أنني لم أشتق اليك .. . لكنك كنت دائما موجودة أليس كذلك ..
وراء ذلك الوجه البشوش ، الابتسامة المربعة ، والعينان اللامعتان ، كنت أخفيها ... وبما أنكم لا تستطيعون رؤيتها سأصفها لكم .. كانت تشبهني كثيرا ويمكنكم القول نسخة مطابقة عني .. غير أن وجهها كان شاحبا وعيناها غائرتان تتدفق منهما الدموع مشكلة شلالا لا ينبض .. و بالإضافة لتدفقها المستمر والمتواصل ، كان بالدموع شيء غريب آخر وهو لونها ، فقد كان أحمرا دمويا يميل الى السواد ، والأغرب أن تلك الدموع تختفي فور تجاوز وجهها ، فلم تكن تسقط على الأرض ولا على فستانها المخملي ...
لمحت في عينيها بعض العتاب وهي تخاطبني "ألم تكتفي ؟ أم أنك تريدين المزيد ؟ ... دعيني ألقنه درسا .. و سأحميك .. فلن يتجرأ على ايذائك مجددا .."،" أنا لست سيئة يا آبي .. ولا أريد ايذاء أحد ، لكنني لا أريده أن يستمر بإيذائي ،ولا أريد أحدا آخر أن يفعل " تحدثت مع نفسي لكن من الواضح أنها سمعتني ... " أششش .. لا لن يتجرء أحد على الاقتراب منك مجددا صغيرتي .. والآن فلتنالي قسطا من الراحة ودعيني أتولى بعض الأمور " وهكذا انزويت أبكي نفسي .. بينما إستعادة آبي السيطرة ... استيقظت في اليوم التالي بصداع رهيب في رأسي ... لم أعرف ما الذي حصل لي وكيف وصلت الى سريري ..جل ما أتذكره هو بعض المشاهد واللقطات المشوشة .. كذهابي للاستحمام وتصفيف شعري دون أن أفعل ذلك بنفسي .. آه لقد نسيت .. آبي من فعلت ..
سرت غدا للمدرسة وانا ارتعد داخليا .. لكنني لم اظهر ذلك .. عذرا قصدت أنها لم تظهر ذلك .. لم تلق التحية على أحد يومها ، ولم تتكلم سوى مع صديقتي المقربة باصرار مني ، كانت ترد على من يسألها عن أحوالها بايماءة من رأسها مع ابتسامة مصطنعة .. يومها جلست في مكان غير مكاني ، كان قريبا منه نوعا ما .. وهي جالسة .. تبتسم بكل ثقة وجرأة ، دون أن تهتم بأحد ، بل كانت مهتمة ، كانت تنتظر الفرصة فحسب ... أخرجها من شرودها صوت زميلتها التي تجلس بجانبها " أأنت على ما يرام ... تبدين .. مختلفة ؟ " وهي تسأل بتعجب ... " لا أنا على ما يرام " ردت عليها بنفاذ صبر .. بالتأكيد هي مختلفة .. يالحماقة البعض .. فقط لتستدير و تتفحص الجالسين بالقرب منها وترمقه بنظرة شر .. انتظرت اللحظة المناسبة ، التي يعلق فيها عن أي شيء .. وبوووم .. لقد سخرت منه أمام الجميع .. فقط لتعدل جلستها وابتسامة رضى تعلو محياها .. فقط لتستمع لتلك الضحكات التي جابت القسم حينها.. صحيح انه يستحق ذلك لكن ما فعلته يا آبي هو جعلي مثله .. لست أنا من فعل ذلك .. أنا لست مثله .. ولن أكون .. أنا لست سيئة .. ألا تفهموون !!...
لقد أخطأت آبي ... لقد أخطأت مجددا ... لم يكن علي أن أوليك المسؤولية .. عندما ظننت أنك أخيرا صرت تفهمينني .. أخطأت مجددا ... منذ اليوم لا مزيد منه ولا من آبي .. سأبتعد بهدوء ... سأقاوم ذلك السيل الجارف من المشاعر .. من الشعور بالخيانة وتأنيب الضمير ... فقط لأخلص نفسي منكما ...
مر أسبوعان .. لقد صار يتحاشاني .. يحاول جاهدا لألا ينظر الي علنا حتى لا تلتقي نظراتنا ، بالرغم من أن ذلك ما كنت أريده إلا أنه أشعرني ببعض الضيق ... أنا لم أعتد الأمر بعد .. لكن ... لا تنتظروا مني أن أبدي ذلك ...
مر يوم ، ويومان ، وثلاثة ، لم أشعر بمرورها .. وبعد أسبوع بدءت ألاحظ الإختلاف الذي طرأ عليه ، لقد فقد لمعان عينيه ، ولم أجد أثرا لتلك الابتسامة التي كانت تستفزني ، كل ما أراه هو بعض ابتسامات المجاملة التي يرسمها على وجهه من حين لآخر حتى لا يلاحظ الآخرون انقلابه ذاك ... آه لو تعرف فقط.. كم آلمتني رؤيتك بتلك الحالة ، آه لو تعرف فقط كم أردت مكالمتك ،التهوين عليك ،ومساعدتك في حل تلك المشاكل أيا كانت ... آه وألف آه من الحالة التي أوصلت كلانا إليها ... وبنهاية ذلك الأسبوع ساءت حالتك الى أقصى الحدود .. أتظنني لم ألاحظ ... يا لغبائك... لقد كنت أراقب كل حركة تقوم بها ، وأسمع كل تنهيدة خرجت منك ... لكنني ببساطة لا أستطيع الإقتراب .. لن أقترب منك ...
يوم الخميس .. وهاهو جرس الفسحة قبل آخر حصة ..نهضت أجر رجلاي لخارج القسم متظاهرة بالنشاط والكياتة ، لكنني إنتظرت مغادرة الجميع لأعود للقسم أرتمي بجسدي المنهك على مقعدي وأجالس صديقي الوفي ، الذي لم يخني يوما ،ليس مثلما فعلت أنت ... أخرجت ورقة بيضاء وأنا على وشك تدنيسها بذنوبي وأفكاري السوداء ، وأطلقت العنان لقلمي الذي خط عليها جملا وسطورا تبكي حزنا وتصرخ ألما .. مما أزال بعض الثقل عن كاهلي ، لكن التفكير في الأمر قد أزال الابتسامة من على وجهي أيضا ... لطالما واجهت مشكلة في التعبير عن مشاعري للغير ولكن ليس له ! .. لأنني لم أكن أرغم نفسي على الكلام، بل كنت أسترسل في الكلام كلما جلسنا دون أن أشعر ، حتى أنتبه في نهاية الحديث الى أنني قلت الكثير.. لكن الأمر تغير منذ رحيله فأنا أكتم الكثير والكثير ، وصارت الكتابة متنفسي الوحيد...
وأنا أغوص في بحر همومي ، أفرغ ما استطعت منها على تلك الورقة وأحتفظ بالباقي لنفسي ..
مع تنهيدة عميقة رفعت رأسي لأجده فوقه ينظر الي بغباوة ...
أنت تقرأ
كيف_انتهت_صداقتنا
Non-Fictionالكتاب عبارة عن مذكرات فتاة عن علاقتها بصديق مراهقتها اقتباسات من الكتاب : *علاقة غريبة ومميزة ، لم تكن حبا ولا صداقة لكنها تجاوزتهما الى علاقة أعمق من ذلك ، علاقة لا يمكن وصفها ، علاقة اجتذبت نظرات الاعجاب والحسد أينما حلت ... لقد كانت مميزة لحد ب...