سهوا يا جماعة نسيت أنزله هنا
العاشر
كانت تنتظره بلهفة وترقب . تعلم أنه بحاجتها . أنه مشوش يعانى التخبط . ولابد أنه يعانى صراعا داخليا . إنه رفيع الذي لا يتحمل أن يطال أحبته سوءا .
والمصاب جلل . إنه هيبة . ليس مجرد ابن عم يهتم لأمره . بل هو كضلع فر من بين ضلوعه ليسكن جسدا اخر . جميعهم كذلك . حتى حجاج الذى يثير فوضته هنا وهناك . تعلم أنه يخشى عليه من نفسه رغم كل ما يسببه له من حرج .
تنهدت بحيرة وهى تتذكر تبدل أحواله فى الآونة الأخيرة ، لم يعد يرسو بسفن ألامه على شواطئ امانها ، لم يعد يلقى بمخاوفه فى ابحر حنانها ، أصبح بعيدا ..بعيدا للغاية .
كم تفتقده !!!
تفتقد قلبه الدافئ . تفتقد عقله الواعى الذى آلف بين قلبيهما بقوة تعجب لها الجميع .
عادت تزفر تخبطها مع أنفاسها المضطربة . ماذا عليها أن تفعل لتعود به لسابق عهده !!؟
لطالما كان داعما لكل محاولاتها للتقارب بينهما .. أما اخيرا أصبح يقاوم محاولاتها تلك بطريقة تنفر منها بشدة .
علاقتهما لم تكن يوما علاقة رجل وامرأة . بل كانت تآلف للقلوب ، تفاهم للعقول واندماج للارواح .
عله يأتيها الليلة كما إعتادت أن يأتيها يبحث عن عقلها ليستمع إلى شكواه .يبحث عن قلبها ليضمد جروحه .يبحث عن روحها ليستشفى بين ثناياها .
استمعت لصوت إغلاق باب المنزل فهبت تستقبله بلهفة قلب محب يعلم أن حبيبه يتألم .
فتحت باب الغرفة قبل أن يصل إليها ليستقبلها مبتسما . نظرت له بصدمة
رفيع يبتسم !!! فى يوم عصيب كهذا يبتسم !!!
تساءلت لهفة قلبها بلسانها : رفيع انت كويس؟؟
اتسعت ابتسامته وهو يقول: الحمدلله بخير .
تجاوزها وبدأ يبدل ملابسه بينما اوقفتها صدمتها عن اللحاق به .
اين حبيبها ؟؟
كيف ضاع منها وكيف سمحت بذلك ؟؟
لما يخفى أوجاعه عنها ؟؟ هل وجد بر أكثر أمانا من برها هى ليرسو فوق شطآنه ؟!
ألم تعد له الأمان !!
ألا يرغب في سكب أحزانه فوق صدرها !!
آفاقها من شرودها تساءله : مالك يا رنوة ؟ واجفة ليه إكده ؟
لم تجب فهى لم تعد تعلم ما الذى يحدث معه . تحركت نحو الفراش وقد تمكن منها الإحباط ليوقف ذراعه تقدمها تتبعه همسته المتلهفة : اتوحشتك جوى .
ثار قلبها فور ملامسته لها .
اهكذا أصبحت !!
مجرد وسيلة لتفريغ طاقته السلبية !!
اقبل عليها بلهفة اعتادت عليها مؤخرا وتنفر منه .. أم تنفر منه !!! سؤال تخشى البحث عن إجابته .
______
كان بحاجتها . ليست حاجة جسدية كما تظن أنه يحتاج .
يحتاج لأمانه الذى استوطن صدرها مذاك اليوم ولم يعد يجده إلا بالغرق بين ذراعيها .
يحتاج ربتات كفها فوق قلبه قبل جسده لتخبره أن كل شئ سيكون على ما يرام.
يحتاج للعثور على روحه الشاردة التى تهرب من الدنيا كلها لروحها هى .
لكنه عاجز ...
لم يعد قادرا على تحميلها المزيد من أوجاعه ؟؟ ربما !!!
لم يعد قادرا على تحميلها ضعفه ؟؟ ربما !!!
لم يعد قادرا على تحميلها شرود روحه ؟ وصراخ عقله ؟ واستغاثة قلبه ؟ ودموع عينيه ؟؟؟
ربما !!! وربما !!! وربما !!!
كل ما يفهمه أنه توقف فى نقطة ما عاجز تماما عن الوصول إليها إلا عبر هذا السبيل الممتع والمؤلمة متعته .
بالفعل مؤلمة .قلبه يتألم ..روحه تتألم ..وعقله يحذر وكلما عزم على العودة من ذاك الطريق يتذكر ما يجعله يمضى فيه خطوات مبتعدا عنها ..عن نفسه.
يغرق وبر نجاته أقرب إليه من الهلاك ويتجه نحو الهلاك .
وكعادته مؤخرا .
يلجأ لاسهل وسيلة تشعره أنها لازالت هنا .
أن الأمل في نجاته لم ينتهى .
يغرق بشوق يمزق ضلوعه ، يكوى جسده ، يحرق روحه أملا في العثور على بعض الراحة التى لم تعد تتواجد سوى هنا . معها . بها .راحة للحظات خير من الاحتراق الدائم .
___
لم تعد تتحمل . هى لا تريد رفيع هذا .. بل تريد رفيع الذى قربه يحيها ، دفعته عنها بعنف ليفيق من سكراتها مرغما . نظر لها بأعين متسعة وتحدث بصوت بالكاد خرج من حجرته مهزوزا : حوصل ايه ؟؟ مالك ؟؟
أشارت إلى صدرها بغضب : مالى !!! أنا اللى مالى !!
زاد عجبه وهو يرى غضبها وهى تقول : انت اللى مالك ؟؟ لا انت مين ؟؟
ردد سؤالها بعفوية وتعجب : انى مين كيف ؟؟
دفعته بصدره ليتراجع خطوة للخلف : ايوه انت مين ؟؟ انت مش رفيع اللى أنا عارفاه .. وديت حبيبى فين ؟ وديت جوزى فين ؟
تدفعه مع كل كلمة ليتراجع خطوة ، امسك ذراعيها يعيدها لصدره : انى اهه ، انى حبيبك . انى چوزك .
صرخت مقاطعة استرساله وهى تدفعه عنها مرة أخرى: لا مش انت . انت واحد شبهه . لا انت مسخ من غير روح . من غير قلب . من غير عقل .
تعالت صراخاتها ليرفع كفيه برجاء : هششش أهدى يا رنوة .
هزت رأسها نفيا بصدمة واضحة : مش ههدى غير لما ترجع لى حبيبى ..
امتلأت عينيها باللوم : حبيبى ماكانش بيجينى بجسمه . كان بيجينى بروحه ، بعقله ، بقلبه ، كل وجعه كان بينتهى فى حضنى ، كل همه كان بيموت بين اديا ، كل خوفه كان بيدوب جوايا .لكن انت مين ؟؟ أنا معرفكش .
تنهد بألم يعلم أنه ابتعد عنها بكل ما ذكرت ، لم يعد يأتيها إلا جسدا خاويا سوى من رغباته . لكنه لم يعد قادرا إلا على هذا القرب .
اقترب منها متصنعا الهدوء : رنوة الهنا ..بزيداكى ..انى اهه ماهملكيش واصل .
تراجعت للخلف رافضة قربه : لا هملتنى . لما حسيت بالغربة فى بيتك تبقى هملتنى . لما حسيت بالبرد فى حضنك تبقى هملتنى . لما حسيت بالوجع منك لأول مرة في حياتى تبقى هملتنى .
ارتمت جالسة بإنهاك فوق الفراش تتحدث بإنهيار قلب : أنا مش عاوزاك . أنا عاوزة حبيبى امشى ورجع لى حبيبى . وحشنى . رفيع وحشنى .
اقترب مسرعا يجثو أمامها ، رفع وجهها ونظر لعينيها : انى اهه چارك اتوحشتينى وانى چارك ؟
هزت رأسها نفيا : مش انت أنا معرفكش . اللى وحشنى حبيبى مش انت
دفنت وجهها بين كفيها لتهرب من ضياع نظراته .
هى لا تريده بهذه الطريقة .
هب واقفا ليغادر الغرفة . سمعت صوت الباب لتعلم أنه لا يزال رافضا قربها الذى يهلكها شوقا له . هى تريد زوجها بكل ما فيه . وهو يريدها بجزء منه لا يرضى شوقها إليه .
أغمضت عينيها سامحة لدموعها بالتحرر . فهذا الغريب الذى تخشى ضعفها أمامه غادر للتو . كم تتمنى أن يفتح الباب عن حبيبها الذى يمكنه هو وحده تكفيف تلك الدموع . ونزع هذا الألم . و رى هذا الشوق .
______
ألقى جسده المشتعل فوق الأريكة . ضرب جانبى جبهته بكفيه كأنه يبحث عن إفاقة من سكر بين .
اين عقله !!
كيف وصلا لهذه النقطة !!
إنه خطأه.. بلى ، هو كذلك .
فى تلك الليلة التى يكره أن يتذكر تفاصيلها . كانت مهشمة الجسد . جريحة الروح . لكن قلبها وحده . حبها وحده وفقط ذراعيها بر الأمان من ضياعه المحتم .
تذكر فتحها ذراعيها وقد أفاقت للتو من غيبوبة كادت تقتله . تذكر همسها الضعيف وصوتها الذى بالكاد سمعه : تعالى في حضنى علشان مش قادرة اجى لك .
ومنذ تلك اللحظة ، ومنذ تلك الضمة استوطن أمانه بين ذراعيها .
ترى ما الذي حدث ليبتعد عنها لتلك الدرجة !!!
مسح بكفه فوق صدره المشتعل . ليزداد تحكم رغباته سطوة . هب فى لحظة عائدا إليها .
يحتاج لإطفاء تلك النيران بأى وسيلة . إنه يحترق . مواجهتها له بما وصلا إليه زادته لهيبا .
هو أيضا يحتاج أن يأتيها كما تحب وترضى .وكما يحب ويرضى.
عجزه يحول دون تحقق هذا الرضا . فليأتيها كما يريد لا كما يحب .