ذكريات الجرس

46 3 0
                                    

مر بالفعل اسبوع.. لم يتبقى لي شيء لأعيش من أجله.. ألازم سريري و أدفن وجهي في وسادتي كأنما هي ملاذي الوحيد.. أعانق نفسي بيأس أحاول حماية نفسي من حزني.. لم أعد قادرة على النظر في أعين أمي.. اعتادت زرقاوتاها على الابتسام بحب لما تنظر داخلهما.. كانت مجرتي السعيدة لكنها الآن كالغابة المظلمة.. هجرتها أشعة القمر فغدت غابة أشباح.. فارغة.. وحيدة.. لم أتلقى أي اتصال أو رسالة من أصدقائي أو من حبيبي...هل من الضروري مناداته بهذه الطريقة؟ دعني أعدل هذا اللقب فعدوي أقرب لو من كلمة حبيبي.. اليوم الأول.. الثاني.. الثالث.. الرابع.. الخامس.. السادس..السابع و ليس الأخير.. كلها ايام قضيتها تحت غطاء سريري.. تحضر لي امي الطعام كل يوم.. فاكل لقمة صغيرة لكن سرعان ما اعاود احتضان ذلك السرير البارد.. هو بارد كواقعي.. معزول كروحي.. متروك كقلبي... أما اليوم الثامن كان أقل سوء.. او هذا ما ظننته.. فقد تلقيت رسالة من عند فتاة تسأل عن سبب غيابي الطويل.. كانت ترسل تلك الرسائل مرارا.. ربما طوال الليل.. إنها آنا.. إحدى فتيات فصلي.. لكننا لم نكن يوما أصدقاء.. لكن على الأقل سألت عني.. ناظرت السقف للحظات ثم استيقظت بتثاقل و جهزت نفسي و قد أخفيت علامات التعب و الارهاق ببعض مساحيق التجميل و لبست زيي المدرسي و رتتبت شعري و رحت اراقب تفاصيل انعكاسي في المرآة مرددة : ايميليا لم تمت بعد..
حملت حقيبتي و نزلت متوجهة نحو الباب.. لم تصدق أمي خروجي فحدقت بي متسائلة.. لا ألومها فقد مر وقت طويل لكن لكل شيء نهاية.. اكتفيت بالابتسام و الخروج مقررة المشي للمدرسة.. لقد مر بالفعل وقت طويل.. وصلت مبكرة للمدرسة.. فتأملت البوابة للحظة.. هل هي بداية جديدة حقا؟ هل اخترت الخيار الأفضل؟ ضربت وجهي بخفة و رسمت تلك الابتسامة المرحة متقدمة بخطا واثقة.. غير عالمة انها ستكون خطا يائسة في آخر اليوم...
جلست في مقعدي.. ناظرة إلى النافذة.. مفكرة بكل ما حل بي في هذه الفترة.. فجأة رأيته..رغم المسافة لكن تقاسيم وجهه كانت واضحة لي.. فقد حفظت كل شيء يتعلق به.. يتقدم بهيبته.. سوداوتاه تحمل نفس النظرة الباردة.. ملامحه الحادة.. شعره الأسود القاتم متناثر على جبينه بطريقة لطالما أسرا قلبي.. ابتسمت بخفة.. كم كنت حمقاء.. مازلت أبتسم رغم انه لم يسأل عني منذ غيابي..
بدأ الجميع في الدخول إلى الفصل.. لكن كل ما سمعته هو همسات غريبة.. لقد اعتادوا على الابتسام و إلقاء التحية بحب كل صباح لكن الآن.. كل واحد يتفاجأ برؤيتي و يشيح بنظره بعيدا.. يضحكون بسرية.. يركزون على كل حركاتي.. يتهامسون بسخرية.. مسكينة.. ألم تسمع شيء.. جنغكوك سينصدم أكيد.. أراهن أنها سيتشاجران.. تجاهلتهم للحظة بيد أنني سمعت ضحكته تتعالى في الممر.. تضاعفت نبضات قلبي فاستقمت من مقعدي و ضاعفت الخطى.. لقد اشتقت له.. اشتقت لتفاصيله..كل ما أردته هو عناقه و قضاء بقية ايامي معه.. لكن ما إن رأيته حتى تراجعت عن كل تلك الأماني.. رأيته محاطا بثلة من أصدقائه.. و يداه تعانق يدي.. ليسا.. أتذكر كم أحبت جنغكوك و أتذكر كم نظرت لها بتحدي.. ظانة أنها لن تصل لها ما دمت حية.. لكن اتضح انني بالفعل ميتة.. ميتة في أعينهم جميعا.. تقدمت بخطا منكسرة نحوهم.. توسعت أعين جنغكوك عند رؤيتي.. و نطق اسمي بتثاقل.. ا.. ا.. ايميليا.. هذا ما تفوه به.. لاحظت اضطرابه..نظرات الجميع نحوي.. نظرات ليسا الساخرة.. لكن كل ما كنت أنظر إليه أنا.. هي تلك اليد.. ألم تكن نفسها التي عانقتني البارحة إذن لما هي تعانق غيري اليوم.. ألم تمسح دموعي البارحة لما هي اليوم لا تفعل.. ألم تكن تلك الأنامل تتشابك مع خاصتي فلما تتشابك مع غيري.. نزلت تلك الدمعة الحارقة من عيني ناظرة لجنغكوك بتساؤل.. لما ؟متى؟.. لكنه ادعى البرود فجأة و قرب ليسا له و تخطاني ببساطة.. فقط؟ ألن يسأل عني؟ ألن يخفيني في حضنه طالبا مني عدم الرحيل مرة أخرى؟ تجمدت للحظة في مكاني ثم استدرت صارخة : جنغكوك يجب أن نتحدث..
استدار و يداه لا تزال تعانق ليسا و قال ناظرا لي بتللك النظرة التي لطالما كرهتها.. الاحتقار.. :
<< ابتعدي عني فأمثالك لا يستحقون شيء...هل تظنين أنني واعدتك لأنني أحببتك؟ مخطئة عزيزتي.. فلطالما كنت مصدر إزعاج لي.. الحمد لله أن والدك مات فخسرتم كل مالكم.. لو لم يفعل لكنت الآن مازلت مع يتيمة قذرة مثلك.. آه تذكرت.. لقد خسرت موهبتك أيضا.. يا للسخرية.. لست قادرة على التباهي أمام أحد الآن..و الآن اغربي عن وجهي و واصلي البكاء على قبر والدك أو موتي معه سيكون هذا أفضل للجميع.. أشعر بالأسف على أمك فهي تملك ابنة عاجزة مثلك..و لا تنظري لي بتلك الطريقة فقد سئمت منك و أنا الآن أواعد ليسا فمن المحبذ ألا تعترضي طريقي.. فحتى لو رأيتني يوما ما فقط تجاهليني>>
ألقى كلماته ببساطة و استدار مواصلا طريقه.. شكرا.. شكرا لك أيها القدر القذر.. شكرا لك أيتها الأيام المؤذية.... دمرت حياتي بمهارة و استحققت لقب الشيطان بجدارة.. حدقت لبرهة في ظهره.. هو يغادر دون النظر إلى هذا القلب المحطم.. هو يغادر كأنه لم ينتم لهذه الروح يوما...دخلت الفصل بملامح فارغة و حملت حقيبتي تحت نظراتهم و كل ما سمعته هو مسكينة..
كنت أجر أذيال الخيبة تحت قطرات المطر.. كان الجو باردا و لكن نفسي المنكسرة لم تعد تشعر ببرودة اليوم بل كل ما تشعر به الآن هو برودة كلماته التي بقيت مسموعة كصدى الكهوف في مسمعي.. تلك الحروف القاسية خرجت من ثغره دون اكتراث.. تلك السهام غرست بقوة في قلبي.. جرتني أقدامي إلى البحر.. هيجانه شبيه بالعاصفة التي حلت بي.. تأملته بيأس.. و أغمضت عيني بتثاقل و سقطت على تلك الرمال.. "لا أستطيع البكاء.. لا أستطيع الصراخ.. عقد لساني.. أنا عاجزة كليا...جسد بلا روح.. ربما استحققت الموت يومها.. استحققت الموت مكان أبي.. فهو رجل ناجح و مدير شركات كبيرة.. أما أنا فلا شيء مطلقا.. نكرة.. قطرة نجسة في بركة مياه مقدسة.. نكرة.. نكرة.. نكرة.." فتحت عيني بمجرد سماع ذلك صوت.. بدى كصوت جرس ما.. استدرت فرأيت فتى جالسا قربي كان يرتدي سوارا به جرس و قد بدى مألوفا بعض الشيء.. عيناه لا تفارق ذلك البحر.. استدار لي بيد أنني كنت عاجزة على رؤية ملامحه...فقد غطتها كمامة سوداء.. لكن عيناه كانتا كمجرة لا نهاية لها..فغبت للحظة بين نجومها فلما هي كشيء مفقود أردت ايجاده.. ارتفعت يداه ببطء و مسحت دموعي بخفة.. و قال بصوته العميق القريب للهمس :أنت من خلقت عجزك..كل تلك الكلمات هي مجرد سراب يطلب منك اتباعه.. روحك أنقى من أن تكون مجرد قطرة نجسة.. انت هي البركة المقدسة نفسها ..
استقام و ألقى نظرة أخيرة كأنه يخبرني آنه ليس اللقاء الأخير.. ابتعد رويدا رويدا.. تبعته مقلتاي حتى اختفى من مرمى عيني..
بدى كطيف انتظرته ليضمد جروحي.. دواء دائي.. شمس نهاري و قمر ليلي.. استفقت من شر دي و استقمت متوجهة للبيت.. و كل ما يشغل بالي هي تلك الأعين.. لما تبدو كجزء من ذكرياتي .. هل يعرفني من قبل؟.. ربما هو أحد أطياف طفولتي.. أحد الأطياف الملائكية التي تزور الناس المنكسرين لتحاول انتشالهم من هاوية الألم.. بيد أن الهاوية التي وقعت فيها أعمق مما يتوقعون.. نعم انا في قاع هاوية لن تصلها أيادي البشر أو الملائكة..

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
||~🖤💫مجرة ذكرياتنا 🖤💫~||حيث تعيش القصص. اكتشف الآن