مجرة ذكرياتنا

48 3 0
                                    

عدت للبيت.. تركت الرمال أثرها على ملابسي.. شاردة الذهن.. باحثة عن واقع أجمل.. ما أهمية العيش بينما يصرخ كل انش في جسدك يطالب بمعانقة الموت.. بتجاوز الحافة.. اسقطي.. اسقطي.. لا مكان لك مع هؤلاء.. هم شديدو القوة و انت شديدة الضعف.. هم كالجبال الشامخة و انت كقطعة الزجاج الهشة.. اسقطي اسقطي هم لا يحتاجونك.. سارعي خطواتك نحو تلك الهاوية هم يكرهونك.. اسقطي اسقطي.. فلا أحد يهتم لوجودك..
حسم الأمر..لا داعي لإعادة سرد الحكاية.. لكل شخص قصة و نهاية.. ربما أنا بلغت تلك النهاية.. ربما لم أتوقعها سابقا.. لكن مدى سوئها بدى واضحا.. ربما سريري هو الوحيد الذي سيحتضنني مهما حدث.. ها أنا بالفعل قد رميت بجسدي عليه.. سئمت هذا الهم فهو يتضاعف كل أسبوع و يأبى تركي.. كرهت تلك المخالب و هي تخترق جسدي بشراسة تحاول تقطيعه لأشلاء.. لما لا استطيع الصراخ أجيبوني.. لما جفت دموعي و جفت معها أنهار الحب في قلبي.. لم أعد أشعر بشيء لم أعد أريد شيء.. هذه الهاوية باردة جدا.. إنها فارغة تماما.. أريد البقاء فيها.. إنها آمنة و ليس فيها أحد شياطين الإنس لكن ماذا لو كنت أنا الشيطان الأكبر...أريد يدا دافئة تنتشلني منها بيد أنني اريد النوم فيها للأبد.. ارحمني أيها القدر و للمرة الألف أقول.. أنا لست أسيرتك فهل أعيد؟ لست دمية تلعب بها كما تريد.. أنا لست سجينة فهل أعيد؟ لست طائرا مبتور الجناحين يراقب السماء من بعيد.. تتثاقل جفوني.. أتمنى لو كان فقط نوما أبديا.. نوما لا حياة بعده.. نوما لا يوم بعده.. تكفيني تلك الجرعات الأليمة لست في حاجة للمزيد.. ايميليا قد ماتت بالفعل. فهل أعيد؟..

"ايميليا.. " فتحت عيني ببطء.. بيد أنني لم أتحرك.. جثة هامدة هدفها عدم الاستيقاظ.. كرهت أشعة الشمس تلك لما تستدعيني للخروج كي أتلقى المزيد من الشتائم و الألم.. سمعت صوت أمي و هي تحدثني.. كم بدى مكسورا.. شديد الكآبة :
ابنتي.. صغيرتي.. مر وقت طويل على اخر مرة كلمتك فيها.. لما أراك كروح تأسر نفسها بين قضبان الواقع.. منذ متى ترسمين حدودك.. منذ متى تخطين تلك الخطوط الحمراء حولك.. أغيرك خداعهم لهذه الدرجة؟ نسيت أمك.. نسيت بيتك.. لا أطلب منك الذهاب للمدرسة.. فقط.. أطلب منك العودة لحضني.. بت وحيدة أشكو همومي للنجوم..بت وحيدة أتضرع الرب من الشروق إلى المغيب.. أطلب عودة ابنتي فهي تتسرب كحبات الرمال من بين كفي.. فبحق الله ارحميني.. لست أما كاملة تفهم أوجاعك و تحل مشاكلك لكنني في النهاية أم.. أموت ألف مرة عند رؤية هالة الحزن التي تحيط بك.. فقط ارحمي قلب أم اشتاق لك أيما اشتياق.. " أكملت كلماتها بغصة.. بدى الأمر ككابوس بالنسبة لي.. ارتميت بين أحضانها بقوة.. أعانقها كأنها ستختفي في أي لحظة.. أضمها أكثر لصدري كأنه عناق الوداع.. اريد إدخالها إلى قلبي فأحميها من كل ألم و سوء و أحمل كل همومها برحابة صدر.. كأنما هي النور الذي فقدته و لاقيته بعد غياب.." أحتاجك أمي.. أحتاجك حتى آخر نفس... انت تلك اللعبة التي لطالما أبعدتها بينما كانت تحاول اسعادي بأي طريقة.. انت تلك الشمعة التي تذمرت من قلة نورها بينما كانت تحترق لإضاءة ظلمتي.. آسفة.. أقولها بكل ما أملكه من قوة.. آسفة.. أقولها بقلبي و ليس بشفتي.. آسفة لاني ظننت أن قلبي بات مهجورا متناسية وجودك فيه.. وجودك الأبدي الخالد..أنا فقط.. أحتاجك أمي"
ابتسمت أمي بحنان لكلماتي و بادلتني ذلك الحضن الدافء.. حضن احتجته منذ وقت طويل.. طويل جدا.. دام ذلك العناق لدقائق.. دقائق عالجت جروح أسابيع.. فصلته أمي كأنما تذكرت شيء.. كانت تضع كتابا حذوها.. التقته أناملها بخفة و مسحت عليه ذلك الغبار و قدمته لي بحب قائلة:
"ابنتي.. هذا الكتاب قد يبدو رثا.. قديما و باليا من النظرة الأولى... لكن ما تحمله هذه الصفحات أغلى من الكنوز الموجودة في خزائن الأرض أو أعماق البحار.. لطالما علمت كرهك للكتب لكن.. هل لك أن تقرئيه؟" رأيت الرجاء في زرقاوتيها فأخذته و تأملته جيدا.. غلافه سميك يكسوه سواد الليل..كتبت عليه بعض الكلمات بخط ذهبي ساحر." مجرة ذكرياتنا".. غريب فأنا لم أسمع بمثل هذا الكتاب من قبل.. أفرج ثغر أمي عن ابتسامة رقيقة.. هي لاحظت تأملي العميق لذلك الكتاب.. هي متأكدا أنها منختني مفتاح باب حياة جديدة..
استقمت من مكاني و غسلت وجهي كي أستفيق قليلا.. غيرت ملابسي و كدت أخرج من غرفتي حتى رأيت ذلك الكتاب على سريري.. لا أدري إن كنت شديد الفضول أم أن هذا الكتاب لو جاذبية خاصة.. خطوت نحوه و مسكتها مقلبة تلك الصفحات.. الصفحة الأولى..الثانية.. الثالثة.. و لم أكتف بعد.. الصفحة العاشرة.. الحادية عشر.. الثانية عشر.. و لم أكتف بعد.. الصفحة الخمسين. الواحدة و الخمسين.. الثانية و الخمسين.. و لم أكتف بعد.. م أشبهه بمتاهة ما أن تظن أنك بلغت بابها حتى تكتشف أنك مازلت في بداية أسوارها.. كلما زدت حرفا كلما زاد ادماني على هذا الكتاب.. زاد ادماني على صفحات تروي واقع هذا العالم.. و الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب هو أسطورة قديمة توارثها الكثيرون.. " النجوم هي أحلام البشر و كلما اختفت نجمة يعني أن أحدهم قد تخلى عن حلمه"
اتخذت الشمس مكانها في كبد السماء.. فسمعت دقات خفيفة على باب غرفتي. انها أمي ببشاشتها المعتادة و في يدها طبق كعك.. كم أحبها..حتى بتلك الدوائر الصغيرة الحلوة هي قادرة على اسعادي.. وضعت الطبق قربي و لاحظت مدى تركيزي على تلك الصفحات.. أقرؤها بشغف كأنها السبيل الوحيد للعيش.. فقالت " هل أعجبك؟"
"سؤال إجابته واضحة أمي.. كيف لشخص يحسده القمر و تغار منه المجرات لجماله أن يقدم كتابا سيء"
مسحت بحنية على شعري تتأمل كل تقاسيم وجهي.. فأدمعت عيناها و قالت " تشبهين والدك حتى في كلماته" ابتسمت لها محاولة عدم البكاء.. عدم السماح لتلك الذكريات الأليمة بابتلاعي.. الضعف هي صفة سأدفنها في أعماق روحي و ليس لأحد الحق في رؤيتها.. مهما حدث.. الضعف أحد أسراري.. و الأسرار لا يعرفها الجميع.. الجبن..العجز.. الضعف.. كلها صفات البشر المعروفة.. التي يعيشون في خوف و رهبة من أن تظهر هذه الصفات أمام باقي الناس.. دائما ما نخشى الضعف و نعشق القوة فلا نسلط الضوء على هذا الجانب منا.. أما بالنسبة لي.. لن أخفي ضعفي.. بل سأعمل على إبادته.. فلا يتواجد أصلا.. سأبني من حطامي جبالا.. يومها لن ينفعهم الندم.. سأتذكرهم جميعا كأنهم الماضي و الحاضر و المستقبل.. سأتذكر تفاصيل وجوههم و كل حروف كلماتهم.. سأحفظ همساتهم عن ظهر قلب.. و يوما ما.. سيتلقى كل شخص جزاءه.. أما بالنسبة له.. سأتضرع الرب ألف مرة و مرة أن يريك مدى قبح انعكاسك في المرآة.. صدقني.. سأتذكرك حتى يوم مماتي.. فحتى لو رأيتك يوما ما سأتجاهلك...

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
||~🖤💫مجرة ذكرياتنا 🖤💫~||حيث تعيش القصص. اكتشف الآن