الفصل السادس عشر

79 15 0
                                    

رجعت نقاء إلى البيت ، وكان في انتظارها هناك رسالة من إبراهيم ، أنستها الرجل المتطفل ، وكل ما يدور حوله ، وأمضت في قراءتها وقتاً طويلاً ... فهي كالعادة رسالة مسهبة تشرح كل شيء ، وتتناول كل موضوع ... وأحست نقاء أن إبراهيماً لا يزال قريباً منها ، فهي لم تفتقد روحه ولم تنقطع عن أفكاره ، فهذه رسائله الأسبوعية تنبض بالحياة وتصل بين قلبيهما وفكريهما ، ولا تدع لعامل من عوامل الفراق أن يقطع هذه الصلة الروحية... وفي المساء سهرت نقاء مع كتابة رسالة لإبراهيم ، ولم تنته منها إلا في ساعة متأخرة من الليل ، فآوت إلى فراشها وهي تحس بمتعة ونشاط ، وكأنها عادت من سهرة كانت تضمها مع إبراهيم ... وكان يلذ لها كثيراً أن تجلس في نهاية كل أسبوع لتحدث إبراهيم في رسالتها عن أسبوعها المنصرم وكل ما جد في حياتها خلاله . وفي الصباح ذهبت بنفسها لابراد الرسالة ، فقد كانت تحرص على انجاز هذه المهمة بنفسها في كل اسبوع ، وفي أحد الأسابيع توجهت إلى البريد لترد رسالتها الأسبوعية ، وفي طريق عودتها عرجت على المنتزه ، فقد كان اليوم صحواً والشمس دافئة نقية ، ودخلت المتنزه فلاحظت أنه يكاد أن يكون خالياً من الرواد لولا بعض المتنزهين توزعوا في أنحائه البعيدة ، ولذلك فلم تشأ نقاء أن تذهب إلى ركن منعزل ، فقد كان هدوء المنتزه يوحي بالوحشة ، وفكرت في أن تعود من حيث أتت ، ولكنها فطنت أن ذلك سيبدو منها حركة غريبة بعد أن لاحظ دخولها الجالسون ، فجلست وهي تشعر بقلق وحيرة ولم تكن تحمل معها كتاباً في هذه المرة ، وجاء الساقي ليسألها عن طلبها فلم تر بداً من أن تطلب إليه زجاجة من العصير ، وصممت على أن تترك المنتزه قبل أن تشربه ، ولكن بعد دفع ثمنه ، وفي تلك اللحظة سمعت وراءها صوتاً يقول :
ـ يا لها من فرصة سعيدة جمعتني بك مرة أخرى.
وكان صاحب الصوت يتقدم حتى واجهها ، فرأت إنه ذلك الرجل الفضولي الذي تطفل عليها في المرة السابقة ، فسرت رعدة خفيفة في عروقها وهزت رأسها قائلة :
ـ لعلك غلطان يا سيدي ، ثم أدارت وجهها عنه.
فقد رأت أفضل طريقة لازاحة هذا الرجل هو تجاهله التام ، ولكنه أتخذ له مجلساً بالقرب منها وضحك وهو يقول :
ـ لا أظن ذاكرتك ضعيفة إلى هذا الحد ، أما أنا قد انطبعت صورتك على شغاف قلبي منذ النظرة الأولى ، وها أنا مستعد لبذل روحي وثروتي التي تعد بالملايين في سبيل نظرة واحدة منك يا آنسة !.
فانتفضت نقاء غضباً ، وهمت أن تقوم فتنصرف دون أن ترد عليه ، ولكنها خشيت أن يظن فيها الضعف أو ينسب فرارها إلى الخوف فيشجعه ذلك على التعرض لها فيما بعد ، فتمالكت نفسها وقالت :
ـ الآن ذكرتك يا رجل ! فإن نغمة المادة التي تشع على كلامك تميزك عن غيرك من الرجال.
ورآى محمود أن الفرصة مواتية لكي يسترسل في بيان مقدار ثروته فقال :
ـ نعم ، أنا أقرك على هذا ... فقد انصبغت كلماتي بصبغة المال . فالثروة إذا تكاثرت بدت علاماتها واضحة على جميع تصرفات صاحبها.
وودت نقاء لو ضحكت على هذا الرجل المسكين الذي لا يملك شيئاً غير المال ، والذي يعني أن المال هو أقوى سلاح ، ولكنها لم تشأ أن تضحك أمام هذا الرجل الفضولي ، حتى ولا ضحكة استهزاء ، وشعرت أن لديها ما تقوله قبل أن تقوم ، وشعرت أيضاً أن عليها أن تقول ذلك لتفهمه أن بين بنات الاسلام من لا يغرها المال ، ولا تخدعها الثروة ، ولهذا فقد أجابته قائلة :
ـ من المؤسف حقاً أن يصطبغ الانسان بطابع الثروة ، وأن تبدو عليه دلائلها في جميع أحواله وتصرفاته ، لأن ذلك لا يتم إلا إذا اقفرت شخصيته من جميع العلامات الأخرى.
ـ إن المال الذي يلبس شخصية صاحبه أي لبوس شاء ، ويبرزه بأي شكل رغب.
ـ أبداً فإن المال لا يتمكن أن يخلع على صاحبه أي إطار ، اللهم سوى إطار الاناقة ، وهذا هو أتفه شيء بالنسبة إلى الرجال.
وبحركة لا اختيارية رفع محمود يده نحو شعره الذي كان مصففاً بأحدث طريقة ، وكانت خصلات منه تتدلى على جبينه ، وقد دهنت وصبغت ، في الوقت الذي كان شعره الباقي يقرب من السواد ، وكأن كلمات نقاء عن إناقة الرجال وميوعتهم قد أثرت عليه دون أن يشعر ... وأحست نقاء بحركته هذه ، فاسترسلت تقول :
ـ إن الكرامة مجردة قد تجر إلى الثروة ، والاستقامة وحدها يمكن أن تأتي بالثروة ، والشخصية القوية بمفردها ربما ساقت صاحبها إلى المال ، ولكن المال وحده لا يتمكن أن يأتي بأي ميزة من هذه الميزات.
واستغرب محمود لهجة نقاء الصادقة ، وكلماتها المركزة ، وعجب أن يبلغ الرياء بهذه الفتاة هذا المبلغ ، وتردد لحظة قبل أن يرد قائلاً :

ـ أنت تتحدثين بأسلوب غريب لا ينطبق وشخصيتك.
وهنا تلكأ محمود قبل أن يردف كلمة شخصيتك بكلمة الفاتنة ، ولم يستطع أن يفهم سبباً لهذا التردد ، وهو يحدث فتاة معروضة للمساومة حسب ما كان يعتقد ... وكادت نقاء أن تنهض بعد هذا الجواب ، ولكن دافعاً خفياً كان يشدها إلى الجلوس ويدعوها إلى أن ترد على هذا الرجل وتجعله يقف بجرأته عند حد .. فردت عليه بنفس لهجتها التهكمية قائلة :
ـ أنا لا أتحدث بأي أسلوب غريب ، وليس في كلماتي أي معنى جديد ، وإنما أنت هو الذي يتحدث بأسلوب غريب عن الرجولة ، بعيد عن العزة والكرامة ، ولا أدري ما الذي يدعوني إلى الرد عليك وكلماتك لا تستحق عندي أي رد أو تعليق ، ولكن العاطفة الانسانية هي التي دفعت بي إلى أن أنبهك من غفلتك ، فاعلم يا سيدي ، أن الشخص الذي يركز حياته ويبني نجاحه على المال وحده ويعقد مستقبله على تأثير الثروة والغنى يكون ضائعاً لا محالة ، فإن المواد الأرضية معرضة للفناء مهما عزت وغلت ، فلا تظن بعد الآن أنك بما تملك من ثروة تستطيع أن تتطفل على من تشاء وتستحوذ على من تريد... أنت واقع تحت تأثير مفهوم خاطىء ، بعيد كل البعد عن الحقيقة والواقع.
وما أن أتمت كلماتها هذه حتى وقفت واتجهت نحو باب
الخروج ، وخلفت محمود وراءها ، وقد أخذ بهذا السلوك الغريب من هذه التي كان يحسبها غانية لعوباً.

المجموعة القصصية (( الكاملة )) الشهيدة بنت الهدى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن