الفصل الخامس والعشرون

81 18 0
                                    

أنهى محمود مراسيم دفن جدته ، وفي ساعة متأخرة من اليوم الثاني وصل إلى داره ففتح الباب بالمفتاح الذي كان يحمله معه ، وتوجه إلى غرفته ، وكان السكون يسود أرجاء الدار ، وقد انصرف الخدم إلى بيوتهم كعادتهم في كل يوم ، فلم يكن يستقيم في البيت أحد من الخدم عدا سنية ، وكان بصيص من النور يلوح من نوافذ غرفتها فعلم أنها لا تزال يقظى ، وحانت منه التفاتة نحو غرفة سعاد فراها غارقة في ظلام دامس ، فعجب لذلك وهو يعلم أنها لا تنام في الظلمة ، وفكر أنها لم تعد بعد ، ونظر إلى الساعة فرأى أنها تقارب الثانية صباحاً .. وكانت حوادث اليومين الماضيين قد أثرت على أعصابه فلم يتمكن أن ينام ، وهو يشعر بالندم ... كيف أعمت الشهوات عينيه ؟ وكيف سمح لنفسه أن يجري وراء هواه ؟ وكيف صيرته المادة عبداً لا يخضع إلا لها ؟ ولا يعيش إلا لأجلها ، حتى جدته العجوز لم يستجب لنداءاتها أو يرد على رسائلها ، ليت حياتها استمرت مدة أطول ، إذن لعرف كيف يضمها إليه ، وكيف يمسح بعواطفه192

على آلامها وأمراضها ، لكنها ذهبت ولن تعود ، وأرق محمود مع هذه الأفكار ... وعز عليه النوم ، ومرت ساعة وساعتان ولم يطبق له جفن ، تذكر سعاد وخطر له أن يعرف إن كانت قد عادت أم لا ، فنهض وتطلع نحو نافذتها فرآها كما كانت غارقة في الظلام ، فهاله أنها لم ترجع بعد ، واتجه ببصره نحو غرفة سنية فوجد أن النور الضعيف لا يزال يلوح منها ، فهم أن يستدعيها ليسألها عن سعاد ، ولكنه خشي أن تحمل سنية ذلك منه على محمل غير شريف ، فتردد مدة ثم أقلع عن هذه الفكرة وحاول أن ينام ، ولكنه لم يتمكن من ذلك ، وقد أخذت تنكشف أمام ضميره أعمال سعاد وأفعالها على أبشع صورة ، وعجب لنفسه كيف ظن أن في وسعه إصلاحها بعد أن بلغت من انحرافها هذا المدى البعيد... وعند بزوغ أول علائم الفجر ذهب بنفسه إلى غرفة سعاد ليتأكد من خلوها فألفاها مغلقة يسودها الظلام ، وخطر له أن يطرق الباب فلعلها آثرت أن تنام ليلتها في الظلمة ، ولكن طرقاته لم تكن لتنتج شيئاً والغرفة خالية ، فرجع إلى غرفته وهو يتميز غيظاً وحنقاً وألقى بنفسه على الكرسي وهو يتمتم : لقد حسبت أني لن أرجع قبل أسبوع ... ولكن أيمكن أن يحدث هذا ؟ أوصلت بها الخيانة إلى هذا المدى البعيد ! نعم إنها هكذا كانت دائماً ، ولكني أنا الذي كنت سادراً في سكرتي المقيتة فاستغفلتني حتى أمنت جانبي واستبعدتني حتى لم تعد تخشى مني.

193

ثم صمم على أن يستدعي سنية ... وما عليه إذا خامر الشك قلبها إلى دقائق ... وقرع الجرس ، فقد كان في غرفته جرس خاص يتصل بغرفتها مباشرة ، ولم تمض لحظات حتى سمع نقراً خفيفاً على الباب فقال : ادخلي يا سنية !... فدخلت سنية وهي تتعثر بأذيالها من الارتباك ووقفت تنتظر فسألها محمود في هدوء قائلاً :
ـ أين سعاد يا سنية ؟!.
فسكتت سنية ولم تجب ، بل ولم ترفع نحوه رأسها أيضاً ، فكرر السؤال في شدة :
ـ أجيبي يا سنية ! أين ذهبت سعاد ؟ ولماذا لم تعد طيلة هذه الليلة ؟
ورأت سنية أن الفرصة قد واتتها للانتقام من سعاد ، وليكن بعد ذلك ما يكون ، فهي لم تكن تخشى سعاد إلا من ناحية واحدة ، وهي ان تتسبب في طردها وإقصائها عن محمود ، وأما الآن فقد خسرت محمود على كل حال ، فما الذي يدعوها إلى التستر على سعاد ، ولهذا فقد صممت على أن تقول كل شيء ... فقالت :
ـ لقد تركت سيدتي البيت منذ الساعة السادسة بعد الظهر من مساء أمس...
فارتعد صوت محمود وهو يسأل :

المجموعة القصصية (( الكاملة )) الشهيدة بنت الهدى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن