الفصل الثاني والعشرون

75 17 0
                                    


عكف محمود على مطالعة الكتب التي اشتراها ، وكانت تفتح أمامه أبواباً كثيرة من المعرفة والثقافة الدينية والروحية ، وتنقله إلى عالم أوسع يحلق فيه بروحه سعيداً نشواناً ، ولم يكن ييأس من لقاء ملاكه الهادي مرة أخرى ، فهو يقضي جل أوقاته بين المنتزه والحدائق ، وكتابه معه أينما ذهب .. وفعلاً فقد صادفها في أحد الأيام وهي جالسة في ركنها القصي تطالع كعادتها دائماً ، فتقدم نحوها بخطى ثابتة وحيّاها بصوت هاديء ، فعرفت نقاء صوته فرفعت رأسها وردت تحيته باحترام فقال لها :
ـ أتسمح لي سيدتي بالجلوس على مقعد قريب لمحادثتها ؟
ـ ولم يسع نقاء إلا أن تقول :
ـ لك ذلك.
فجلس محمود وقال :

176

ـ أنا لا أريد أن أضيع هذه الدقائق عبثاً . لقد قرأت جل الكتب التي أرشدتيني إليها.
ـ بارك الله فيك ، كيف أنت بعد قراءتها ؟.
ـ أرى نفسي وكأني ولدت من جديد ، فقد تبدلت جميع مفاهيمي عن الحياة ... نعم لقد ولدت من جديد !.
ـ فلا تفكر إذن بعد اليوم في ماضيك ، واحرص على أن تحصر فكرك في مستقبلك وحياتك الجديدة.
ـ أنا أحاول أن انتزع نفسي من ماضيي ، وقد توصلت إلى كثير من ذلك ولكن...
ـ ولكن ماذا ؟.
ـ ولكن صاحبة هذا الخاتم الذي يطوق أصبعي ، والتي منعتك مرة دون أن تسلميني إلى يد البوليس هي التي تحول بيني وبين نسيان الماضي.
ـ آه !...
ـ نعم ، فحاضرها مرآة ماضيي.
ـ ألا يمكن أن تقوم هي أيضاً ؟
ـ مطلقاً فقد بعد بها الطريق ، ولم تتورع عن ارتكاب أي شيء.

177

ـ حتى ... أقصد حتى...
ـ دعيني أقول ما تريدين قوله ، نعم حتى الخيانة الزوجية !
ـ آه!...
ـ إنها كالفراشة تنتقل إلى حيث شاءت ومتى رغبت.
ـ إلى هذا الحد !؟.
ـ نعم وأكثر...
ـ ولماذا لاتحاول التخلص منها ؟
وسكت محمود برهة ثم قال :
ـ لأني أحبها يا أخية ، وحبي لها هو الذي جعلني أمسك عليها طيلة هذه المدة.
ـ أنت غلطان يا أخي ، فأنت لا تحب زوجتك هذه أبداً ؟!
ـ وكيف ؟!
ـ إنك لو كنت تحبها حقاً ، لما أمكنك أن تسمح لها بتلك الأعمال ، ولكن شعورك نحوها ليس شعور حب ، بل أنه مجرد نزوة جسدية وشعور بالضعف أمام سلطانها عليك ، فأنت تحب دارك مثلاً ، فهل يمكنك أن تدع واحداً غريباً عنك لا يمت
178

لك بصلة يسكنها وإياك ؟ وأنت تحب ثروتك ولا ريب ، فهل ترضى أن يشاركك فيها أحد ؟ أنت لا تحبها مطلقاً.
ـ فتش في نفسك عن الحب ، لترى أن الشعور الذي يشدك نحو هذه الزوجة هو أبعد ما يكون عنه ، فالحب لا يقوم مع الخيانة ، ولا يدوم في جو الرذيلة ، لأنه شيء مقدس لا يعمر إلا في القلوب الطاهرة والأرواح البريئة ، أنك لو طالعت نفسك لرأيت كيف أنك تمقتها بدلاً من أن تحبها وتتمنى الفرار منها ، وتؤثر البعد عنها للخلاص من سيطرتها على جسدك وتسخيرها لنزواتك.
ـ أنا أخشاها دائماً...
ـ إن هذا أحسن دليل يدلك على أنك غلطان في تقدير عواطفك نحوها ، فالمحب لا يخشى حبيبه ولا يخافه ، ولكن الخاضع يخشى من أخضعه ، والضعيف يخشى القوي ، كنت ضعيفاً أمامها قبل الآن ، أما الآن فإنك انت القوي وهي الضعيفة ، فإن قوة الشرف والايمان هي أسمى قوة في الانسان ، وأنت الآن مؤمن وشريف . فحاول أن تتخلص من أحابيلها ، راجع نفسك مرة أخرى لترى صدق ما أقول.
ـ أنا على يقين من أني لن أتمكن من أن أنزع الماضي ما دمت خاضعاً لسلطان هذه المرأة.179

ـ فتحرر من سلطانها إذن
ـ سوف أحاول ذلك مهما استطعت.
ـ حاول أولاً أن تصلحها ، فإذا فشلت فلا تدعها تلوث حياتك الحرة الشريفة...
ـ إن إصلاحها متعذر ، فهي قد استحالت إلى مجموعة من آثام وخطايا...
ـ إن المحاولة لن تخسرك شيئاً على كل حال ، فإذا عجزت حدد موقفك منها.
ـ فسكت محمود ، ثم قال بصوت خافت :
ـ هل لي أن أوجه إليك سؤالاً واحداً ؟
ـ تفضل ... إسأل...
ـ لقد رأيتك مرة في المطار بصحبة رجل كهل ؟.
ـ نعم ، أنت تقصد يوم سفر إبراهيم ، لقد كان أبي معي هناك وهو رجل كهل كما رأيت.
ـ ابوك ؟!.
ـ نعم ، أبي.
ـ ومن عساه إبراهيم هذا الذي كان له سعادة مشايعتك ؟!.
180

فعلت حمرة الخفر والحياء وجه نقاء وهي تقول :
ـ إنه زوجي...
ـ ولم يظهر محمود أي خيبة وارتباك ، فهو لم يكن يشعر نحو نقاء غير شعور الأخوة والاعجاب ، ولكنه ود لو عرف زوجها ، ومن يكون فتساءل :
ـ هلا زدتيني إيضاحاً بشخصية إبراهيم ؟
ـ وما الذي يعنيك من ذلك يا أخي !؟
ـ أرجو أن لا تحملي سؤال محمل الفضول...
ـ أنا أعلم أن غايتك من السؤال نبيلة ، والاستطلاع إذا كان بداع النبل لا يعد فضولاً أو تطفلاً.
ولم يشأ محمود أن يتابع هذا الموضوع لئلا يغضب محدثته ، أو يسيء اليها . فسكت برهة ثم قال وكأنه يحدث نفسه :
ـ ليتني أتمكن أن أدفن الماضي في سجل النسيان ، ولكني لن استطيع ذلك ما دامت تلك موجودة.
ـ أنت الآن رجل مستقيم ، لك أفكارك الواضحة وشخصيتك الثابتة ، فتصرف بما يمليه عليك ضميرك ، وبما تدعو إليه روحك.
وعند ذلك نهضت نقاء وقالت :

ـ أنت لم تعد تحتاج إلى أحد ، فإن عندك من الكتب رصيداً يغنيك عن كل شيء ، ولكن فاتني أن أقول لك : إذا أردت أن تطالع قصة ، فاقرأ قصة « البؤساء » لفكتور هوجو ، فهي مدرسة إنسانية رائعة.
ولم يسع محمود إلا أن ينهض احتراماً لها ، فودعته وانصرفت ، وفي هذه المرة لم تحدثه نفسه أن يتبعها أو يتعقبها ، فقد كان يشعر أن ذلك بعيد كل البعد عن الأخلاق الفاضلة...

المجموعة القصصية (( الكاملة )) الشهيدة بنت الهدى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن