خائفة و مترددة ..
مرّ على موته عام و شهور عِدة.. لم يتساءل أحد عن سبب هوسي الشديد للرسائل الورقية، أو رُبما حبي لرواية شيفرة بلال.
كان أعز و أقرب إليّ من أخي الحقيقيّ ، مع أن القرابة بيننا في العائلة ليست كذلك.
قضيت طفولتي معهم و معه ، نلعب و نتزلج و نُبحر و نبكي معا..إلى أن كبرنا قليلا ، تشاركنا نوع الأفلام و شارات الطفولة .. يشبهني بطريقة خارقة للعادة ، يحب ارتداء الأسود كثيرا يليق بعينيه العسليتين و شعره الأسود الداكن ، لم يقع في الحب في حياته ولم يكن اجتماعيّا أبدا و كان يحب الكتب أكثر مني آنذاك.. يحب أن يكتب أيضا ، كان شخصا رائعا و لطيفا جدا.. قضينا أياما عديدة نتعارك و نستلقي على السطح و بصراحة.. هو من جعلني أحب تأمل النجوم ، كان مدمن القهوة بدون سكر.. أبيض و طويل جدا.. اعتقد أن صورته اتضحت نوعا ما.
أعتقد ان اكثر شيء ملفت فيه .. ابتسامته السطحية التّسليكيّة للناس ، لكن ابتسامته الحقيقية كانت جميلة جدا.. في الكثير من الأحيان يزور بيتنا و في رواية أخرى كان يهرب من بيت زوج امه بطريقة غير مباشرة.
لم تكن علاقة أمه جيدة مع زوجها ، و لم تكن هناك علاقة له مع زوج امه من الأساس ، كان يكرهه.. يكرهه أكثر من أي شخص على وجه الأرض.
لا أريد الدخول في تفاصيل علاقة أمه بالزوج.. لكن يمكن توضيح أنه كان يعنفها بشدة ، يخونها و يهملها و يتعدى عليها.
العائلة بأكملها بمن فيهم بلال تكلموا معها بخصوص الأمر ، و نصحوها بطلب الطلاق.. لكن الغبية كانت ترفض و تجيب:
- هل تريدون أن يعيش ابني بلا أب؟ من سيتكفل برعايته .. أنا آسفة ولكنكم لن تتحملوا عبء تربية ابني و هذه علاقتي أنا .. آنا أدرى منكم بها.
في احد الأيام الشتوية.. عاد بلال إلى البيت بعد يوم دراسيّ طويل ، كانت أمه تصارع الموت من ضربات زوجها.. لذا وقف بلال ضده ليحمي أمه لكنه طرده من البيت .. طرده من أجل اكمال جريمته الشنعاء.
جلس بلال على حافة الباب و صراخ امه يدوي في طبلات أذنه كرصاص قاتل، لم يتجرأ الجيران على الاقتراب.. لم تهتم الشرطة للاتصالات التي كانت تصلها كل يوم.. لم يفعل احد شيئا.
صرخة هزت كل الأرجاء ثم ساد صمت عميق يبوح ببؤس شديد.
بلال يضرب الباب بقوته ، لكن لا احد يفتح.
- أمي، افتحي الباب.. افتحي الباب
لا رد، لا اعلم بصراحة ماذا حصل تحديدا حين اكتشف مقتل أمه ، لكنني أذكر شيئا.. أذكر الجنازة و من فيها و اذكر ذهاب بلال إلى ملعب الحي و البكاء فيه بصوت عال .. كان يبكي كطفل صغير ينتظر حليب أمه.
ثم بعدها لم أسمع شيئا عنه، ولا اعلم مصير الزوج ام انه هرب.. لا اعلم حقا.
كنت مشغولة بامتحان الشهادة و ما شابه.. لا اعلم حقا ماذا حدث تحديدا لكنني في ذلك الصيف سمعت كلام العائلة.
《بلال دخل المصحة ، بلال مريض عقليا ، بلال مجنون...》طبعا لم اصدق اي شيء من هذا ، و شعرت بغصة في حلقي و تأنيب لعدم اهتمامي بأمره بعد تلك الحادثة.
لكن في العيد ، اكتشفت أن بعض الكلام حقيقي.. بلال مريض لكنه لم يبق في المصحة اسبوعا واحدا بفضل اموال العائلة و خوفهم من كلام الناس.
المهم، التقينا في بيت الجد كالعادة و كان منبوذا جدا و لا يبدو انه بخير.
كنت في السطح إلى ان جاء.. لا اخفيكم انني خفت منه لسماعي ذلك الخبر ، يستطيع المريض فعل أي شيء.
جلس بجانبي فابتعدت قليلا دون ان يشعر.. آسفة لكنني خفت كثيرا.
سألني عن حالي و عن امتحاني و ما شابه ، فكنت أجيب باختصار شديد:
-بخير.. كان جيدا.
لا أذكر ماذا سألني تحديدا بعدها لكنني اذكر اجابتي المختصرة التي هزت غضبه فاستدار الي و احمرت عيناه بغرابة ثم قال :
- لا تعامليني كمريض عقلي ، لست كذلك.. انا لست مريضا عقليا ،انا لست مجنونا ، انا لست مريضا عقليا ، انا لست مجنونا
و امسك رأسه بيداه و اصبح يحركه بجنون و هو يكرر ذلك
-لست مجنونا ، لست مجنونا.. هل تظنين انني مجنون صارحيني ؟
خفت كثيرا و بقيت صامتة أرجف ، افكر فقط كيف لي ان أهرب بجلدي .. نظرت إلى الباب بسرعة ثم اردف:
- لن تذهبي.. هل .. تظنين .. ان .. انا ... مجنون ؟
- لا، انت طبيعي جدا و لست مجنونا ابدا و ابتسمت من الخوف
- تستطيعين الذهاب الآن.
و انا الحمقاء ذهبت و أخبرت ابنة خالتي بما حصل ، و أكدت لها انه مجنون بحق لكنها لم تتفاجأ و أخبرتني بالغرابات التي يفعلها في العادة و ما شابه.
كان علي ان اقضي العطلة الصيفية هناك ، لذا شيئا فشيئا تعودت عليه ، تعودت على كلامه مع نفسه ، و ضحكه الهستيري أحيانا ، و بكائه ووضع اصبعه في فمه كالأطفال أحيانا اخرى ثم عودته إلى طبيعته، و اصبح مثيرا للاهتمام بالنسبة إليه.
في إحدى الليالي، بينما انتهت سهرة العائلة على سطح المنزل و انسحب الجميع.
كان يرتشف قهوته الداكنة كالعادة لذا ذهبت إليه و مازحته قليلا مزاحاتي السخيفة لكنه كان عابس الوجه ، ثم قال:
- كم انت مرحة ، توقفي عن اضحاكي ._.
-متنمر غبي
بعد قليل باشرته بسؤال :
- ماذا ترى في رأسك احيانا عندما تضحك بهستيرية شديدة مع نفسك ؟ هل هناك شخصيات و ما شابه هناك ؟ ام أنك تفعل ذلك عن غير ارادتك
لم يجبني .. المهم ، أصبحت صداقتنا قوية و لطيفة مع المزيد من ابناء العائلة ، كنت أشاركه كل شيء ، و حكيت له كل اسراري، و في تلك الفترة تحديدا كانت اعراض بداية الاكتئاب تظهر عليّ دون الدخول في التفاصيل.
عدت إلى بيتي ، و أصبحت شخصا آخر .. لذا انتبه الجميع لتغيري و سلبيّتي و انطوائيتي و افكاري السيئة و غير الطبيعية.
ثم أصبحت العائلة تتكلم عني ، و كنت علكة في افواه الجميع:
- ريف تأثرت ببلال
ثم يقولون لأمي :
- عليك ان تحافظي على ابنتك ، لا تسمحي لبلال بالقدوم الى بيتكم و لا تسمحي لها بمجالسته و امنعي اي أداة تواصل بينهما.
رفضت ذلك ووقفت في وجه امي لكنها فاجاتني بسؤالها..
- لماذا تريدين لقاءه في العطل ؟ لماذا انت مصرة ؟ هل انت واقعة في حبه ؟ اجيبيني بسرعة
لم اجب.
* المرض العقلي و المرض النفسي ليسا نفس الشيء *
عوض ان تهتم امي لأمر اكتئابي ، اهتمت فقط بكلام العائلة .. زرنا الطبيبة النفسية فقط بسبب القيل و القال..
لم تهتم قط لكوني كنت اعاني.
اصبحوا يلمحون له.. يلمحون له بالامتناع عن زيارة بيتنا و الابتعاد عني.
نسترق الكلام احيانا في العيد فيقول:
- انا آسف لانني نقلت إليك سوئي.
اقسم انه لم يساهم قط في ذلك.. ثم بعد ذلك
كانت الرسائل الورقية ملاذنا الأول و الأخير.
فهمني و فهمته ، اجابني عن تساؤلاتي و أجبته.
و اذكر حين قال :"عيناك لا تستحقان ذرة حزن و انت تستمرين في النبش في افكارك السوداوية .. علاجك في داخلك"
كان يحفزني و يلهمني و ينتشل مني حزني و بؤسي و كنت أنا احاول أن اجعله يفضفض لكنه لم يكن يفعل ، كان غامضا و نادرا ما يبوح بشيء.
آخر رسالة ورقية قال لي فيها :
-" أريد أن أذهب إلى الله"
-" الله يريدك ان تبقى"
لا اريد الدخول في تفاصيل اخرى لكن بعد شهرين فقط من هذه الرسالة سمعت بانتحاره.
و كان دفتر ما مرميّ هناك مليء بكلمات عشوائية و "آسف" ، "لا تفعل" مكتوبة آلاف المرات.. لكنه فعل.
لم يسمحوا لي بأخذ آخر ذكرى له.
![](https://img.wattpad.com/cover/219510248-288-k657495.jpg)