مِنَ السيء إلى الأسوء

293 11 31
                                    

‏لربّما تبكي لأنك عجزت عن التغلب على كُل شيء، و ربّما تتوجع لأن كُل شيء لن يتغيّر مهما فعلت، وربّما تصرخ لأن الألم يكبر ومساحة صدرك تضيّق جداً.
_بواسطة مجهول

التقت عيناي بمُقلتي مُصطفى، شعرتُ بالخلاص و كأنني تحررتُ من بين قضبان حديدية بارِدة ليملُأني دفئُ حضنه من بعدِ ارتمائي بين ذراعيه لم أشعر سوى بقطرات المياه المالحة تحرُق وجنتاي  بأسًى، أحسستُ بكفيّ يداهُ الكبيرتين ترفعُني لم استطع النظر بوجه حسَن لذا غرزتُ وجهي بعنُقِه مُشتماً رائحته الرجولية الممتزجة بقطرات العرق فوقَ بشرتهُ الحنطيّة، جلجلَ صوتيهُما نبضاتَ قلبي لتشتد قبضتاي على قميص مُصطفى، أردتُ التنعم بهذه اللحظة التي أشعر بها بالأمان و لو أنها ستختفي كالسراب بعدَ سماعي كلامهُ المسموم "يُمكِننا أن نتقاسمُه و بذلك لن تضيع عليك نكهة هذه الحلوى" شهقتُ عند شعوري بمخالبه اِعتصرت أردافي، دفعتُ مُصطفى بقبضتاي لأقع أرضاً و شرعتُ بالركض غير مُبالٍ بتشوش رؤيتي و دوّار رأسي.

انطلقَ الذِئبان خلفُه و صدحَ صوت عِوائِهُما كاسِراً هدوءَ الحقل، ركضَ الحمل بأسرع ما يُمكن ليفرّ من بين مخالبهم و لكن جسدهُ الضعيف لم يستحمِل إلا و قد سقطَ هاوياً على معدته، خارّت قِوى الفريسة و انقضَّ الوحشانِ عليها، أنيابهُما لم تترُك أنش دونَ أن توقِع عليه و الطفل الصغير يتلوى صارِخاً بإسمِ والدته مُطالِباً النجدة، أزعجَ صوتهُ أذانَ مُصطفى خالِعاً قميصهُ مُكُوِّراً إياه ككُرة صوفية سدّت مجرى حلقِه، استذكرَ مُصطفى جميعَ الروايات الخليعة التي قرأها من قبل، كُل الكلمات التي اِقتاتت عليها عيناه في ساعةٍ مُتأخرة من الليل قذفها عقله الباطن ليُترجمها لأفعال دنيئة شاذة على جسدٍ عُذري بريء، أخفى عرضُ منكبيهُما جسدهُ الضئيل عن أعيُن السماء كي لا تبكي حُزناً على صديقتها الأرض التي تم تدنيسها بسبب الكائِن المُسمى بالإنسان ذلكَ المصنوع من الماءِ و الطين، و لأول مرة تهمُس الأرض في أذن السماء حاسِدةً إياها "هنيئاً لكِ فالملائكة تطوف في أرجائِك أما الشياطين ها هُنا تغوّي فصيلةَ آدم بأبشع الطرق و أدناها.

أحسَ الصبي باختناق أنفاسه و رفسَ بقدميه كحصانٍ مُصاب و هذا ما أدى إلى ربطِه بسلكٍ بلاستيكي، خُدشِت بشرتهُ الرقيقة بسبب اِحتكاكها ببقايا العشب اليابس، وصلت روحه حتى بداية حلقه مُترددة بمغادرِة بيتها الذي اهترئت جُدرانه و تضعضعت أساساتُه، الكلمات السامة رشَّت الملح على جروحه و حُفِرت تفاصيلَ الحادث بينَ تلافيف دماغه.

وقفَ الأخُ الكبير على رُكبتيه و هو يُغلق أزرار بنطالِه و قد فَرُغَ دلو لِذَتِه تبِعُهُ الأخ الصغير و نظر للجسد المُستسلم أمامه و قد أطفئت جفونه ضوءَ عيناه "أتعلم يا رجُل، لم يُسبق لي أن تناولتُ كعكة لذيذة كهذه" ربتَّ على فخذهِ الأسمر لينكمش على نفسهِ بوهن "ابتعد عني!" انتحبَ صوتهُ بضعف عكسَ ما كانَ يُريد إظهاره، اطلقَ قهقهة عالية من بينِ شفتيه المُمتلِئتان "صوتكَ كفتاة سُلِبت عُذريتها، متى ستتصرف كالرجال إيُها الصبي!؟" صفعَ وجنته الصغيرة لتنحفِر تفاصيلَ أصابعه على جلدِه الناعم
"هيا كفى حسَن" سحبَ مُصطفى القميص من بين شفتيه ليسعل بقوة و يعتدل بضعف مُرتجِفاً، عدلَ ملابسه بخيبة، كيفَ وثقَ بأخِ الثعلب الماكِر و ظنَ أنهُ سيكون بأمان بمجرد تواجده كل ما يُريده الآن هو حضناً دافئاً أو مهداً هادئ و شخصاً يُدندن لهُ مُتقصداً جعلهُ يبكي و يُفرغ كُل ما بداخله من ألم.

رُميَّ بي في الخلف و احتضنتُ ساقاي غارِزاً وجهي ضدَ رُكبتاي، انتقلت حياتي الآن من السيء للأسوء لقد خسرَ حسَن مكانتهُ في عيناي و ها هو مُصطفى يلحقُ به، هل لي أن أثق بأحد بعد هذا؟ إنها إحدى مكائِد الطفولة أنكَ لا تفهم ضرورة ما تُعانيه و عندما تبلُغ سُنَ الرشد يكون الأوان قد فات، في يوم قلتُ لأُمي "أُريدُ أن أُصبِح طيراً" فكبرت و وجدت فوهات البنادق تتوجهُ نحوي، الآن أُريدُ أن أُصبِح شجرة و لكن الفؤوس تنهالُ علي من كُلِ صوب و أخشى أن أُصبِح زهرة فيتمُ دهسي.

تخبُط الشاحِنة فوقَ الحصى الخشِن جعلَ من ألم حوضي و ظهري لا يُحتمل كُل ما أتمناهُ الآن هو السقوط في حضن سريري و الإنهيار في نومٍ عميق يُنسيني الصور التي تُطاردُني في ذاكِرَتي. ركنت الشاحنة بجانب متجر والدتي و انتظرتُ حسَن حتى فتحَ الباب الحديدي الصغير و احكمَ قبضتهُ على رسغي ناظِراً لعيناي بتهديد "سأذبحُكَ بهذه إن تفوهتَ بحرف مما حدث" لمحتُ لمعةَ سكينٍ صغير و هززتُ رأسي بخضوع.

"أوه أهلاً بالشبان و أخيراً أتيتم" رحبت بنا والدتي و قبلت خداي لينقل حسَن و مُصطفى الصناديق لداخِل المتجر "يبدو عليكَ التعب حبيبي، هل تشعُر بالحرارة؟" تلمست جبيني و حضنت وجهي عيناها الحنونتين "لا عمتي، محمد بخير هو فقط لم يكُف عن اللعب بالحقل، تعلمينَ الأطفال" دخلتُ بين ذراعيها و نظرتُ لحسَن بامتعاض لترتسم على ثغريه ابتسامة سافلة و دحرجَ عيناهُ على جسدي مُخترِقاً ملابسي، أشحتُ نظري عن مقلتيه و نظرتُ لأمي التي طبعت قبلة لطيفة على جبيني "ألستَ جائِعاً؟" ها هو طريقُ النجاة "أشعُر بالمرض أُمي" ذبُلت عيناي و ألقيتُ برأسي على خصرِها لتحملني بذراعيها، ألقيتُ رأسي على كتفها كرضيعٍ تعُبَ مِنَ البُكاء.

أغلقت أمُ محمد دُكانها و أوصلَ حسَن صناديقَ الفول إلى منزلِها "أدخُل و تناول الطعامَ معنا حسَن" و فور نطقِها ذلك سمعَت أنينَ محمد المُنهك "شُكراً عمتي لن استطيع فأخي مُصطفى ينتظرني في الشاحِنة، طمأنينا على صحة محمد" لوحَ لها لتُرسِلَ معهُ سلاماً لأهلهِ و ذويه، أغلقت البابَ خلفه من ثُمَ مددت طفلها على الأريكة مُحدِقةً بوجههُ الأصفر "بالتأكيد تعبتَ من الركض تحتَ أشعة الشمس و أنت دونَ طعام" قالت بينما تكشُف عن شعرها الأسود و تخلع عبائتها مُتجهتاً إلى المطبخ، بدأت بتحضير الطعام و هي تُدندِن أغنية للفنانة وردة الجزائرية "في يوم و ليلة" لطالما كانت عاشِقة لهذهِ السيدة ذات الصوت الجوهري الساحر و مع كُل كلمة تُدندِنُها تستذكِر بها تلكَ الأيام التي انقضت برفقة زوجها حيثُ أحبها حُباً جماً غيرتهُ الظروف و أخفت بريقهُ الحرب ليسقط مُتفتتاً كبتلاتِ زنبقٍ أحرقتها أشعة الشمس اللاذعة فلم يعُد هذا الحُب مُتقِداً في ظلِ الظروف القاسية و أصوات الهاون الصارِخة باسم الموت، هي و ابنها مُتعادلان فكلٌ منهُما يحتاج لشخصٍ يملأ فراغاً خلفتهُ
معركةً وحدهُ الجندي يعلم أثنائها كم كانت أسبابُها تافِهة، حربٌ كلفت خسائر فادحة للطرفين دونَ بلوغ المُنى لكليهما، ضاعت أحلامُ الشباب في هذه السنوات العِجاف و أصبحَ الزواجُ حلمٌ لا يُقدِم عليه إلا مجنوناً كعنتر بن شداد، العائلة المُجتمعة حولَ المِدفأة تُشاهِد فيلماً كوميدياً أصبحت صورة تُجسِّدُها قصصُ الجدّات و يلتحفُ بكلماتِها الأطفال.
أيَّا دِمشقُ متى تعودي و أعود؟ مُمزقةٌ أنا بينَ رغبتي المُلِحّة بترككِ و الرحيل و بينَ البقاء في حُضنكِ و الجنون.

لا تُخبِر أحداًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن