خذلان

151 7 6
                                        

دون إنتباه، ‏يورثون الآباء أحزانهم، ‏يدفنون دموع لا حصر لها ‏داخل الجينات، ‏ليذرفونها أبنائهم ‏بعد عشرات السنين، ‏حين تنتابهم رغبة شديدة ‏في البُكاء دون سبب .

_زياد عوض.

مرَّت الأيام على عجلة و انقضى أسبوعان على عملي لدى هادي، سارت الأمور بيننا بودٍ و احتِرام فقد علمني أساسيات القراءة و خصصَ لي وقتاً كُلَ يوم لإعطائي معلومة جديدة من كُراساتِه، رُغمَ كُل ما يُقدمهُ لي و عطفه علي إلا أنني لا زلتُ لا أثِق به، "محمد، تعالَ هيا لتناول الطعام" مسحتُ العرق عن جبيني و خلعت معطفي القُماشي و قفازاتي الزرقاء من ثُمَ تقدمت جالِساً بأنهاك، "اليوم شديدُ الحر"
"إنهُ كذلك" باشرتُ بالطعام و أنا انظر لباب المعصرة، مضغتُ اللقمة بهدوء بينما استذكر الفاتورة التي علينا هذا الشهر و أيجار المنزل كذلِكَ المياه، "هادي، متى سأستلِم معاشي؟"
"في نهاية الشهر"
هززتُ رأسي برضى، "هل تحتاج لشيء؟" نظرَ لي باهتمامٍ واضِح، "لا عليك، أنني اسألُكَ كي لا أفوت موعد دفع الفواتير و الإيجار"

أدارَ الصبي وجهه بعدما حصلَ على إيماءة من الشاب الذي جلسَ يتمعن بمفاتِن هذا الغُلام، لا يلوم أقربائه فهو وجبة دسمة لا تفوت، و لكن لما يشعُر بالذنب حيالُه الآن؟ لقد أحسَ بأنهُ أصبحَ مسؤولاً عنه، رُغمَ نفسه التي تأمره بالسوء إلا أنه يُجاهِد على أن لا يمسسهُ بِأذى، راقبه بينما يذهب لتنظيف يداه و وضع الإبريق على موقد الغاز، نفضَ نفسه من على كُرسيه مُلقياً بالاوراق الكرتونية خارج المعصرة و عادَ من جديد إلى حُجرِه.

انتهى محمد من صُنع الشاي ليأتي بكوب هادي و يضعه بجانبه من ثُمَ يتقدم جالِساً على فخذه، "حانَ وقت القراءة، صحيح؟"
"صحيح" بدأ محمد بتهجئة الأحرف ببطء و صححَ هادي لهُ أخطاءه دونَ نرفزة، "ذهبَ إلى الحقلِ لوحده" قالها كاملةً بعدَ أن ركَّبَ الأحرُف في دماغِه ببعضها، "أحسنت إيها البطل!" شعرَ محمد بالبهجة تنتشر في صدرِه و ابتسامة الفخر الذي تلقاها من هادي زادت الأمر جمالاً، تحمسَ الصغير و عدلَ جلسته على فخذ الشاب ليُكمِل تهجئة التي بعدها، كانَ هادي معروفاً بصبره و طولة بالِه فلم يوبخ محمد يوماً عندما كانَ يُخطئ بل عِوضاً عن ذلك يُصحح له، طابِعاً قبلة رقيقة على جبينه قائِلاً ألطف الكلمات، انتهى من تهجئة الجملة الثانية ليقولها كاملةً دونَ لعثمة، "أحسنت! أنتَ فتى رائِع" قبلَ خدَّه و ربتَ على ظهره بابتسامة لطيفة، "حان وقت العودة للعمل"
و ما لبثَ أن نهض من على حضنه حتى اقتحم أولادَ عمه المكان على حين بغتة، ارتعدَ مُختبئاً خلفَ بنية هادي، "أراكَ احتفظتَ به لوحدك" ابتسامة حقيرة أخذت طريقها مُرتسِمة على شفتيه الممُتلِئة، "حسَن! أنتَ تُخيف الولد"
"أوه لا، لقد قطعتَ قلبي عليه" استهزءَ من الشاب الذي امتقعَ وجهه و اشتدت عروق ذراعيه، "هيا هادي لا تقل لي أنكَ لم تستمتع به في غيابنا، لا تخف لن نأخذه منك سنتقاسمه فحسب" غمزهُ بابتسامة نجسة و ما لبثَ أن أمسكَ بيد الطفل حتى وقفَ هادي بوجهه ناظِراً لعيناه بحدة، "لن تمس شعرة منه"
"قل هذا عندما يتم ذبحك" لمعت عيناه للسكين في يده و اهتزَّ صدره لكنهُ لم يتخلى عن ثباتِه، "إضافة إلى ذلك فضيحتك أمام البلدة بتحرشك بطفلٍ صغير، الطب سيبين ذلك، رغم أنك على ما يبدو لم تفعل، لكنني فعلت هادي، و استمتعت حد اللعنة" همسَ أمامَ وجهه كفحيح الأفعى غيرُ حافلٍ بالصبي الذي بدأت دموعه بالانهمار على وجنتيه و تمتماته بالتوسلات المُعتادة، "لن تقترب منه حتى تُقاتلني!"
"هل جُننت هادي؟"
"هيا!" جهزَ قبضتيه و أعادَ قدماً إلى الخلف ليُثبت نفسه على الأرض، ما أن لبث حسَن بإبعاد سكينه إلا و قد تلقى لكمةً على وجهه جعلته يتراجع للخلف بضع خطوات، أشارَ هادي بأصابعه كي يأتي له، تقدمَ حسَن و بضربة أصابت أعلى معدته سقطَ هادي مُتألِماً، "لا تقِف في وجهي من جديد لأنك ستحصل على الأسوء"

انطوى على نفسه و راقبَ تلوي جسدَ الصغير أمامه و صرخاته المُتألِمة، أمسكَ بهاتفه و بدأ بالتصوير و هذا ما كانَ يفعله مُصطفى حتى انضمَ لأخيه حسَن ليختفي الصبي بينهُما، صرخات ألم و مُطالبة بالنجدة، صفعٌ و ضربٌ و ركل، انهالَت على الصغير المسكين كل أنواع التعذيب حتى ما عاد قادِراً على الحراك، حالما انتهيا منه اعتدلا و قذفَ حسَن رزمة من المال على وجه هادي، "هذا لجلبك إياه لنا و هذا لتخرس" قذفَ رزمةَ مالٍ أخرى على كتفه، حالما خرجا زحفَ الشاب نحو الصغير و ضمّهُ إليه، "هادي، لم أعُد أشعُر بجسدي" قال بصوتٍ مُتهدِّج، "أعلم صغيري، أعلم" اعتدلَ الشاب بصعوبة و أخذَ الصغير لحضنه بحذر، تأملَ وجهه المُنتفخ و عيناهُ الحمراء كذلك شفتيه المتورمة، "فليلعنهُم الله" أدركَ هادي لتوِّه وحشية صديق طفولته و أخيه و لم يتوقع أن الأمر سيكون بهذا السوء، لقد أتفقَ معهم على جلبه إلى هنا و سيحصل على حصته و لكن شيءٌ ما في داخلِه تولد تجاه هذا الصبي، "أنتَ بخير الآن لا تخف" حاول تهدأة ارتجاف جسده، "هل اتفقتَ معهم علي؟" نظرَ إلى زمرديتاه البريئة ليومئ و الندم سيطرَ على ملامح وجهه، "لكنتُ أعطيتك ما تُريد مُقابِل أن لا تسلمني لهما من جديد" زخرت ملامح الصبي بالألم و انهمرت دموعه بأسى و هذا ما أحرقَ صدرَ الشاب، "أنني وغدٌ كبير صدقني" تكورَ بجسده الواهِن في حضن الشاب و أخذت دموعه تحرق وجنتيه، اهتزَ به للأمام و الخلف و هو يدندن بهدوء جانب أذنه حتى اختفت شهقاته تدريجياً، "لا بأس، أنتَ بخيرٍ الآن"
"و لكن غداً لا"
"دعّ (غداً) يأتي أولاً و سألكمهُ لك"
"لا قدرة لي على الابتسام"
"و انا معدتي تؤلمني و أخاف أن أطلق الريح"
"هاي!"
"هههههههههههه عُد إلى هُنا، أنا أمزح معك"

لا تُخبِر أحداًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن