تَخَبُط

135 11 21
                                    

هل تبكي الأسماك مثلُنا في
الأعماق حينما تكون وحيدة وحزينة؟

_بواسطة مجهول.

لقد مرَّ أسبوع على مقتل أحلام و تداولَ الإعلام خبرَها المُحزن و الشرطة بدأت بالتحقيق مع الوالِد المجنون الذي وددت لو أنني استطيع قطعَ يده و اقتلاع حنجرته، غيابها صعبٌ جداً فما زلت إلى الآن انتظِر هيئتها من بعيد قاذفةً ألي ابتسامتها التي أصبحت دائي، لقد تركت خلفها فراغ لن يملؤه أحد بعدها، كيف سأجد مثلها؟ انا حتى مُتعب من التعرف على شخصٍ جديد، لستُ قادِراً على تحمل المزيد من الفقدان و الحُزن، إنَّ ما يُطفئ نارَ صدري هو أنها بمكانٍ أفضل و لم تعُد مضطرة لإعالة عائلتها المقيتة و والدها النجس، غليظَ المعشر و وقح اللسان و طويلَ اليد.

قضبَّتِ الشمسُ على بسطة الصبي، أفرغَ صناديق الفاكهة و الخُضار في أماكنها و بدأَ بتلميعها بقطعة قماش مُبللة، راقبت إنحناءة ظهره و شرود عيناه والدته و أحسَت بغصة تأكُل حلقها و وخزة تُدمي قلبها، لقد تغيرَ فتاها كثيراً في هذه السنوات، لربما هو يحتاج أباً في حياتِه، لعلَّهُ يشعر بالوحدة بعد مُفارقته أحلام، الكثير من الأسئلة غزت عقلها بينما تنظر لشمعة عمرها تذوب ببطء.

جلسَ خلفَ بسطته قاضِماً لقمة من ثمرة التفاح الأحمر، شردَ ذهنه من جديد مُستذكِراً مبسم شفتيها العذبتين و تلألأ عينيها الواسعتين، مرَّ نسيم بشرتها جارِحاً قلبه بذكرى لو أصابَ الزهايمر عقله لن ينساها..
إنَّ أسوء عقاب يُعاقبك به المحبوب هو الذكرى، سيترُكك تتخبط بينَ جُدران عقلِك مُحاولاً إخراجها من بين تلافيف دماغِك، تكاد أن تدق رأسك بالحائِط، تستيقظ عِندَ الرابِعة فجراً و في آذانك صوت ضحكاتِه، تنام كي تنسى فيظهر لكَ وجهه لتصحو فزِعاً كمن رأى كابوساً، سيطاردُك بذكراه و يمحو ألوانَ الحياة من عينيك، سيُحطِم ثِقتَك في كُلِ من سيمُّر بعده و كأنما أصبحتَ ملكاً له حتى من بعد رحيلِه.

تخبطت عربات الخُضار على الزفت المُتعرِج و صاحَ البائعين بأصواتِهم الجهورية، و لكن الحُزن كانَ يتربص على أكتاف الفتى فشعرَ بحملٍ الثقيل ما عادَت ساقيه قادِرة على إعانتِه، كيفَ لشخصٍ مكوَّن مما خُلِقنا منه أن يؤثر هكذا بنا؟ كيفَ لهُ أن يسرق مشاعرنا و يعزف عليها كأنها أوتارَ جيتار، تارةً يُرنِم عليه لحناً شجياً، و تارة تكادُ تتقطع من نار الغيرة، و تارةً أُخرى تكاد من فرطِ حُزنِها تنكتِم.
السهول فقدت بهجتها و سيطرت الرتابة عليها، بردت أشعة الشمس و اختبئت خلفَ الغيوم المُتلبدة، لقد سيطرت الكآبة على البلدة، هذا ما حدث في غيابها و هذا مالم يشعُر بهِ أحد سِوّى ذلك الصغير.

ركنت شاحِنة بمُحاذاة البسطة، رفعتُ نظري نحو السائق لأرى انهُ هادي، صافحتُه عندَ تقدمه من الدُكان ليبتسم لي سائِلاً عن حالي، جاهدتُ نفسي على الكلام، استأذنتُ من والدتي و استقليت المقعد بجانبه، بدأ هادي بالقيادة و كانَ أفضل شيء للقيام به هو إلقاء رأسي على زُجاج النافذة و الغوص في الذكريات القديمة.

لا تُخبِر أحداًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن