ضحيّة أُخرى

217 9 21
                                    

ساعديني في حَملِ روحي. نعم، اِحملي
مِن هُنا: مِن جهةِ الماضي.
_بواسطة مجهول

مضى يوماً آخر بدون رؤيتي الذِئبين و هذا ما جعلني مُرتاحاً بعضَ الشيء رُغمَ معرفتهم ببحثي عن عمل و أراهِن على أنهما هُم من أقترحا فكرة أن أعمل عِندهم.
خرجتُ من الحمام بينما أُطَبطِب على جسدي بالمنشفة كي يبقى مُنتعِشاً و حالَ اِنتهائي مِن ارتِداء ملابسي اتجهتُ لوالدتي في المطبخ و تناولت منها كيسَ السندويتشات الشفاف، اِنتشلت هي قارورة مياه باردة لتروّي عطشنا خلالَ اليوم.
استقبلتني ضجة الشارع و أصوات أبواق صهاريج الماءِ و المازوت، سرنا في الحواري المؤدية لِدُكان والدتي و بينما كُنا نتبادل الأحاديث اليومية التي تُعتبر كدروس تُلقِنني إياها والدتي عِوضاً عن المدرسة ذات التكاليف الباهِظة شخصت عيناي نحو أصوات الصُراخ و النحيب الخارِجة مِن أحد المباني، بحثتُ في عيناي عن أي مبنى مُتبِعاً صوتَ التهشيم و التكسير ليتبينَ لي أنهُ من العمارة التي تقطُن بها أحلام، قُبِضَ قلبي بينما اسمع كلمات الكفر بصوتٍ جهوري قاسي "فاليهديكَ الله يا أبا سومر" أدرت وجهي لوالدتي مُتسائِلاً لِتُكمِل المشي "هذا أبا سومر يُعنِف ابنته و زوجتُه دوماً من أجل المال و قد سحبَ طفلته من المدرسة كي تبدأ بالعمل و كُلما يغيب المال عن المنزل يُجَن جنونُه" زممتُ شفتاي مِن الذي قالته و تسائلتُ في نفسي لما الجميع في هذهِ المنافسة الشرسة على من سيكون الأسوء؟ أعتقد الجحيم تكفي الجميع لا داعي لِكُل هذهِ الأعمال الوحشية.

مضى الصبي في طريقه نحو المتجر ليُبدأ يومه بحنجرةٍ فتية تُنافس عشرات البائعين في السوق و بمعاملة حسنة تسرق قلوبَ الزبائِن، مسحَ بِقطعة قُماش حبةَ تُفاح و مدّها للأمرأة الأربعينية قاضِمة منها لُقمة جعلتها تُغمض جفنيها بتلذذ و تطلب خمسةَ كيلو من هذهِ الثِمار الطازجة، وجه نظرُه للشاب الأسمر الذي ينتقي حبات الفراولة بعناية و انتظرَ انتهاءِه حتى اعتدلَ بطولِه الظريف مادّاً الكيس للصبي "أُريد نصف كيلو" اومئ الصغير و تناولَ الكيس منه ليضعهُ على كفة الميزان، راقبت عيناهُ الخضراوتين تحرُكات الصبي النشيطة ليشرَع بسؤالِه "لصالِح من تعمل؟"
"أنني أعمل مع والدتي، هذا المتجر لها"
"تبحث عن عمل؟"
"أجل أنا أفعل، هل لديك؟"
"أجل لدي معصرة زيتون في البقاع الغربي و أحتاج عامِلاً بِها"
"سأُنادي والِدتي"
قفزتُ بِفرح للداخل و صحت لأمي لتأتي إلي مُسرِعة "لما هذا الصياح محمد، ماذا هُناك؟"
"أمي أمي، هُناكَ شاب في الخارج قالَ أنهُ يبحث عن صبي للعمل معهُ في معصرة زيتون، اذهبي و حادثيه"
فرحة والدتي بسماع هذا الخبر لم تقل عن بهجتي حيثُ أنها سارت بخطى مُتسارعة للخارج لأسمع تأهيلاتها و تسهيلاتها بالشاب و يبدو أنها تعرفُه، قررت الخروج و وقفت بجانبها ناظِراً لوجهِه الباهِي
"ألم تعرف محمد يا هادي؟"
"لا، لقد كَبُرَ كثيراً عن أول مرة رأيتهُ بِها"
"محمد هذا ابن عمتك هادي، سافرَ للمدينة كي يُكمِل دراسته من ثُمَ عاد ليُساعد والديه، و اعتقد هو يعرُفك عندما كانَ عُمرك خمسَ سنوات، صحيح؟"
"أجل كانَ لا زال طوله يصل لأسفل فخذي"
ابتسمت بدفئ للطفِه و طريقة كلامِه التي تدل على ثقافته و سعدت لكون لدي أقارب جيدون عكسَ مُصطفى و حسَن.
استقبلتهُ والدتي في الدُكان و حضرت لهُ كأساً من الشاي، جلست مُقابِلاً له ليبتسم لي "هل أنتَ في المدرسة محمد؟" هززت لهُ رأسي نافياً ليومئ زامّاً شفتيه "متى يمكنني البدء في العمل عندك؟"
"الأسبوع المقبل أكون قد نظفتُها و تحققت من صحة عمل الآلات" اومأت لهُ بالموافقة ليحدثني عن سنوات دراسته و كيفَ هي حياة المدينة و اكتشفتمن خلال كلامِه أنها مُختلِفة تماماً عن بيئة الضَّيعة و عاداتَها، بقينا نتبادل الأحاديث حتى أنهى كأسَ الشاي و انتفضَ من مكانه ناظِراً لِساعته و لوهلة كادَ أن يُصبح قدوتي "استأذن منكما علي الذهاب الآن و محمد سآتي لأخذك في الأسبوع المُقبِل كُن مُستعِداً" اعتدلت من مكاني بنشاط "سأفعل" صافحت كفه كالرجال ليغمز لي بابتسامة خارِجاً من باب المتجر بمشيته الرجولية و شعرت بهالة الكاريزما تملأُه، سررت بهذه المُقابلة الظريفة و بعثت في قلبي شعوراً بالارتياح و البهجة.
التقطت كأسي و خرجت للبسطة كعادتي لأرى أشعة الشمس بدأت بالإنطفاء تدريجياً لتلوّح لي هيأتها من بعيد تسير بجسدها الممشوق التي تُغطيه قطع قماش عريضة خافية تفاصيله عن أعيُن المُفترسين، خصلات شعرها الكستنائية هربت من أسفل شالها ليداعبها نسيم لطيف عابِثاً معها برقة.. بعد مدة من الحملقة بها لم أشعر إلا و بقدماي تأخذني نحوها.

وقفَ الصغير بوجهها لتنزله خافيةً إياه بطرف الوشاح "محمد! مالذي تفعلُه هنا؟"
"انسيتي أنني أعمل في ذلكَ الدُكان؟"
لمحَ شبح ابتسامتها ليميل وجهه نحو خاصتها كي يرتشف من قهوة عينيها قليلاً و لكنها تفصل أي تواصل بينهما "أحلام؟" أدارت وجهها عنه و أخفت دموعها أسفل جفنيها الصغيرين "من الذي أزعجك؟" شعرَ باهتزاز صدره و لوهلة أحسَ بالمسؤولية تجاهها، و عندما أبت عن الجواب و النظر إلى وجهه قامَ بسحب رسغِها لتطلق شهقة ناعِمة و تتلفت حولها بخوف من أن يراها أحد، أمالَ وجهه ناحية خاصتها ليشعر بأنفاسها تلفَح فكه و استطاع بذلك أن يشكف آثار الضرب على خدها الناعم و هزَّت كيانه تلكَ البقعة الزرقاء بجانب شفتها النازِفة بدماء جافة "مالذي حدث؟" لوهلة شعرت بتضخم صوته و ذلكَ الطفل الصغير حلَّ محله رجل شهم تملؤه النخوّة و هذا مالم تراه بوالدِها "أبي هو أبا سومر" زمَّ شفتيه عندَ سماعِه ذلِك مغمضاً عيناه و تمنى لو أنهُ لم يعرفها قط. دخلا لآخر الزقاق حيث اختفت أشعة الشمس تماماً و لم يعد ينيره سوى الأضواء الخافتة المنبعثة من الشقق المُتقارِبة من بعضها البعض، وقفَ مواجِهاً لها و قد لمعت عيناها فورَ اقتراب يده من وجنتها المُتضررة ليمسح بها حتى طرف شالها مُبعِداً إياه عن خصلات شعرها الناعِمة قابلت فعلُه بنظرِة حياء يستحيل أن ينساها "لدي قصة سيئة كقصتك" نظرَ لحدقتيها المتوسعتين و سبحَ في تلألأهما للحظات مُكمِلاً كلامه "لقد تم الاعتداء علي من قبل أولاد عمي عندما كنت أبلغ الحادية عشر من عمري" شهقة خرجت من بين شفتيها ليبتسم لها بالمقابل ماسِحاً أمامَ شفتيها مُحاوِلاً أبعاد الدماء الجافة ليسمع تأوهها الرقيق "اعتذر، ظننت أنهُ يمكنني مسحه" رسمَ على شفتيها ابتسامة لطيفة بسبب برائته رغمَ ما تعرض له "هل يمكننا أن نصبح صديقان؟" "أجل يمكننا" لفتّ ذراعيها النحيلتين حولَ عنقه لتضمه إليها مُسببةً باشتعال وجنتي الصغير و ارتجاف كفيه بتردد لمدة حتى أخذَ خصرها لجسده بقوة قاطِباً حاجبيه.. ربما هو أحتاج هذا الحضن أكثر منها ..
بقيا هكذا ثوانٍ حتى فصلا العناق بأمرٍ من جسدها الأعذر و قلبها الذي ينبض بجنون و عقلها الذي يحاول أقناعها أن هذا خطأ "أنا يجب أن أذهب" ارتبكت بينما تُعدِل وشاحها حولَ شعرها و عنقها
"أراك" اومأت له بينما تسير على عجلة لخارج الزقاق،  أزلقَ يداه في جيوب بنطالِه و سارَ خلفها مُتبِعاً إياها بعيناه بينما تبتعد.

لا تُخبِر أحداًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن