اِنتهاك

372 9 24
                                    

الإنـسـان إنـسـانـان؛ واحـدٌ مُـسـتـيـقـظٌ فـي الظُـلـمـة وآخـر نـائِـمٌ فـي الجـحـيـم.

كابوس خلفَ آخر، أصبحت الليالي مُتشابهة لدرجة أنني ما عدتُ أفرِّق بينهم، عينا والدتي القلِقة تُلاحِقُني إينما خطت قدماي لا ألومها فبعدَ تلكَ الحادثة تغير كُل شيء، لقد كبرت عشرونَ عاماً، لما فعلَ القدر هذا بي؟ أنا اؤمن بأنَ الله لن يترُكني هكذا و أعلم أنهُ قريب و سينتشلُني من الذي أوقعني به حسَن، أتمنى أن لا أرى وجهه مرةً ثانية، لقد كرهتُ كل لحظة اقتربتُ بها مِنه و جلستُ بها في حُجرِه، لقد افترسَ برائتي كالأعلانات الإباحية بين مقاطع الرسوم المُتحركة، لو أن والدي هُنا لن يسمح لأحد بالاقتراب مني و لكن لا أنا أعرف أين هو و لا هو كلفَ عناءَ السؤال عني، و ها أنا كجروِ ذئبٍ تائِه..

منذُ تلكَ الليلة قررتُ أنني لم أعُد أُريد أن أُجالِس حسَن و بدأتُ بالعمل مع والدتي كونَ الأفكار السوداوية لا تُفارِقُني و أشعر أنني أريد ضربَ رأسي في الحائط علَّ صورة الوحش تُمحى من ذاكرتي.. لعلَ لُعابي ينسى طعم السجائر الممتزج بنكهة الخضوع و الذُل.. إنَّ ما يموت حقاً بنا ليسَ الجسد إنما الروح التي تُغذيها..

مسحتُ قطرات العرق من على جبيني مِن ثُمَّ تناولتُ قارورةَ المياه لِأروي بها عطشي "مرحباً عمتي أمُ مُحمد، كيفَ الحال!؟" سمعتُ صوتَ حسَن لِألتفت و قدّ تَشَقلَبت قطرات المياه في بلعومي لِاسعُل بقوة لِدرجة أن هُناك القليل خرجَ مِن أنفي، هَرَّعت والدتي نحوي و قامت بالتربيت على ظهري لِأشعُر بهالتِه تُغطيني "أنتَ بِخير محمد؟" مسَح على ذراعي لِاقشعر من لمسته و اسحب يدي بِسُرعة ناظراً لهُ مِن تحتِ جفوني، استطعتُ رؤية الغضب في ملامِحه، ابتلعتُ ما تَشكلَ مِن لُعابي و وقفتُ خلفَ والدتي مُحتمياً بِجسدها "كيفَ حالُكَ يا حسَن؟ و كيفَ حالُ أخيكَ و عائِلتك؟ آمل أنهم بِخير" ابتسمت والدتي بلطف لِينظُر لها بِأبرء ملامح و أجمل اِبتسامة قد تراها "أنا بخير عمتي و العائلة كذلك، كيفَ حالُ المحصولِ اليوم؟ لقد تمَّ جمع الفول يبدو أنكِ لستِ على دِرايّة بالأمر" وضعَ يداهُ بِجيبه و بَدَّلَ بِثقل ساقيه، حاولتُ أن انشغِل بأمرٍ آخر كَتفريق حباتِ الباذنجان الكبيرة عن الصغيرة و كذلك الكوسا و تركتُهُما يتحدثانِ معاً و قد شَعرتُ بِخفقان قلبي لإحساسي بعيناهُ تُراقِبُني

"هايّ محمد! ما رأيُك أن تذهب مع حسن لِتجلُبا محصولَ الفول، لا يُمكنني تركُك بالمتجر وحدكَ و الذهاب" شعرتُ بدمائي غلَّت في عروقي، و يداي لم تَعُد تكُفُ عن الارتِجاف، نظرتُ لِحسَن لِينظُر لي بدورهِ بِابتسامة خبيثة جانبية، هو يعرف أنهُ لا يُمكنني رفض طلباً لوالدتي، أومأتُ لها بِقلةِ حيلة و أخذتُ قبعتي التي تُشبه خاصة رُعاة البقر، ارتديتُها كي تُقيني من الشمس و خرجتُ مِن المتجرِ معُه، أشعُر بالثقل و كأنني أسيرُ على الجمرِ حافي القدمين، صعدتُ الشاحنة في الخلف و رأيتُ تعابيرهُ المنزعجة، نظرَ حولُه مِن ثُمَّ زمَّ شفتيه و استقلَ مقعدهُ في الأمام.

نظرتُ نحو متجر والدتي لِأراها تلوحُ لي بِابتسامة، لوحتُ لها بالمُقابل و كنتُ اتمنى لو أنها اِكتشفت طريقتي بالتلويح، او أحسَّت بأن هُنالِكَ مكروه سَأتعرض له و لكن طيبة قلبها و صفاء نيتَها لم يُساعدانِها، انطلقت الشاحنة و كل قليل تزداد سُرعتها، شعرتُ بقلبي أصبحَ بين ساقاي و كدتُ أتبول على نفسي، صليتُ بِكُل ما علَمتني إِياه والدتي علَّ ذلك يحميني و لو ليومٍ واحد، رأيتُ الحقول بدأت بالظهور على مرأى ناظِريّ، توقفت الشاحنة تدريجياً و تمسكتُ بالقُضبانِ الحديدية عِندَ سماعي صفعُ الباب.

"هيا أنزل!" نظرتُ لِحسَن الذي اِرتدى قِناعَ الوحش، بحثتُ بعيناه عن القليل من الرَحمة و لكن كُل ما رأيتُه هو سوادُ بؤبؤيه المُتوسِعان، تقدمتُ بِحذر فمدَّ لي يدُه اِتكئتُ عليه و قفزت من على متَن الشاحِنة، ابتعدتُ عنهُ مسافةَ خمسةِ أمتار فورَّ نزولي، ابتسمَ بجانبية و أمسكَ بحزام بِنطاله اِهتزَ صدري و تبعثرت أنفاسي و أصبحَ جسدي يرتعِد بِخوف و الدموع قد تشكلت بعيناي حتى كُدتُ أن أبدأ بِتوسلاتي المُعتادة حتى قاطعني "ششش، اِذهب و أحضِر الصناديق، إنها هُناك" أشارَ بِسبابته نحو الحقول لِأنظُر إلى المكان و أجد بين الأعشابِ الطويلة خمسَ صناديق مُرتبة فوقَ بعضِها البعض، القيتُ نظرة عليه لِاطمئِن أنهُ لم يتحرك مِن مكانِه و بدأتُ بالسيرِ نحو الصناديق بهدوء، اتمنى لو أنني استطيع الهروب و لكن إلى أين؟ الحقلُ ممتد على مدى نظري و لا يوجد أحد سِوى بعض الأكواخ الصغيرة التي تبدو كالمُكعبات بسبب بُعدِها، شعرتُ و كأنني أمشي في الصحراء فقد جفَّ حلقي و قطرات العرق بدأت بالتسلُل على طولِ ظهري، قمتُ بإبعاد الأعشاب عن طريقي حتى وصلتُ للصناديق، كدتُ أحمِل أول صندوق لولا سماعي خطوات حذِرة خلفي، شرعتُ بالهرب و لكن كانت يدهُ أسرع بإمساكِ مِعصَّمي، اهتزت الحقولُ و السماءُ في عيناي و أصبحت الرؤية مشوشة، أشعر بالأرض تدور بي و لم أعُد استطيع تثبيتَ قدماي، حاولتُ الفرار و التخبُط بينَ ذِراعيه لكن لا جدوى، أحكمَ بقبضته على مِعصَّماي خلفَ ظهري و أرمى بي أرضاً، اِتسعت عيناي بصدمة عند شعوري بفخذاي العارِيان و تخرَّشت حُنجرتي لِلألم أسفلَ ظهري، نظرتُ للعُشبِ الأخضر الذي بَهُتَ لونُه تدريجياً، ذَبُلَت أغصانُ الشجر لِشهودِها على هذهِ الوحشية الذي اُرتُكِبت بحقِ طُفل لم يتجاوز الحاديةَ عشرَ مِن عُمرِه..

اعتدلتُ بِضعف و امسكتُ بالصندوق كي اتكئ عليه فهوى أرضاً مُتقيئاً ما بِداخله، أحسَّستُ بِذراعيهِ تَحمِلُني لِأضرِب صدرهُ بقبضتاي بُسرعة و أُحرِّك ساقاي محاولةً مني بإبعاده "اِترُكني! اِترُكني" تحشّرَجَ صوتي و خرجت بحة أحبالي المُهترِئة و هذا لم يزدهُ إلا اِستمتاعاً
"إن لم تخرس صدقني سألعنُكَ كما قبلَ قليل" أنزلتُ رأسي و أنا ممتلئ بشعورِ الإهانة و الذُلِّ، لقد اُنتِهكَ جسدي و شعوري و برائتي حتى نفسيتي.

تأوهت من عِظام حوضي و اهتزت ساقاي أسفلي لأهوّي أرضاً على رُكبتاي بإنكسار، سمعت صوت خطوات ثقيلة تهرُس الأعشاب مما جعلني أشد طرف بنطالي للأعلى أُحافظ على ما تبقى من حيائي، شحُبَ وجهُ حسَن و أمسكَ بمعصمي كي يَجُرَّني قبل أن يُفضح..

"حسَن! مالذي تفعلُه!؟"

لا تُخبِر أحداًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن