جريمةُ مال

149 13 43
                                    

يَقول احَدَهُـم :
لم يعلموننا عن النساء شيئاً سوى انها تَحيضُ ونحنُ لا ، أنها تَلد ونحنُ لا ، أنهى تخطأ ( النسيان ) ونحنُ لآ
لكن عندما كبرنا عرفنا أنها وطن و نحنُ لآ

_بواسطة مجهول

غابت الشمس وراءَ سلسلة جِبالَ لُبنان و خيَّمَ الليلُ على بلدةِ سمحر لتنتثر النجوم على ثوبٍ مخملي كُحليَّ اللون، كانَ ضوءَ القمرَ كافٍ ليكشف عن ملامحها الرقيقة، تأملت عيناهُ الصغيرة مبسمَ ثغرِها و رونقَ خدِّها "لما تُطيل النظر إليَّ هكذا؟"
"أحاول الاحتفاظ بصورة وجهك في رأسي فلا تعرفين متى يدركني الموت" اِنكماشة صغيرة نحو جسدِه جعلت قلبهُ يبتسم، "لا تقُل هذا، أنتَ ستعيش و سنبقى معاً، سنكمل أيامنا معاً مُجتازينَ الصِّعابَ و المصائِب، سأبقى بجانبك حتى لو لم تراني سأكون لك كالنجمة تِلك"
التقطَ يدها التي تُشير نحو السماء و طبعَ عليها قُبلةَ حبٍ بريئة "و أنا كذلِك سأبقى بجوارِك"
"كذلِك القمر؟"
"بل و أقرب" اِهتزَ صدريهُما بضحكةٍ هامِسة و تسللت النجوم لتستوطن عينيهُما "سعيدة؟"
"كثيراً"

انقضت الدقائق و الساعات في أحاديث أبحرا بها داخل أرواحهما مُستكشفين عوالِم مُختلفة زاهية و جميلة، أمسكَت بيده و سحبته نحو قصرها الخيالي حيثُ استقبلُه والدها اللطيف و والدتها ذات الوقفة الجريئة و الكلمة المؤثرة و كانوا أخوانها ينظرون نحوهما بابتسامة تعلو وجوههم النيرَّة، ركضا في الممرات و لعِبا الغُميضة، تذوقا أشهى المأكولات على أفخم الموائِد و أكبرها حجماً، شعرا بأنهُما قد لامسا السماء و بينما كانَ يسرح بجمالها بين زهر البنفسج استفاق من خياله على انتفاضة جسدها من جانبه
"مالذي حدث؟"
"لقد تأخرت كثيراً، لا أعلم ماذا سيفعل بي والدي غيرَ أن غلَّة اليوم لم تكن بكافية"
"لدي بعض الليرات" أخرجَ من جيبه عدد من القطع المعدنية و وضعهم في راحة يدها "هيا بنا" شدَّ معصمها قبلَ أن تنطُق بشيء و هرولت خلفه نحو الضَّيعة.

ودعها بعناقٍ قصير قبلَ وصولها للمبنى و راقبها بينما تصعد الطوابِق حتى سمعَ إنغلاق باب منزلها، سارَ واضِعاً يداهُ في جيوبه و أحسَ ببرودة النسيم من جديد و وخزات الألم أسفلَ ظهره، نظرَ لحذائِه الرَّث و لملابسه البالية ليتنهد بانكتام على حالِه، صحيحٌ أن أحلام حالها كحاله و لكنهُ لا زال يريد لفت نظرها بهندامِه و أناقتِه التي سلبتها الظروف منه.

عادَ إلى منزلِه مُنحني الظهر، ذو أجفانٍ ذابِلة و دموعٍ حائِرة، استقبلتهُ والدته بحضنها الواسع الدافِئ، استنشقَ عبق حنانِها و تركَ نفسه يتمتع بالهدية الوحيدة التي قدمتها لهُ الحياة، "لقد تأخرت، بالتأكيد أنتَ جائِع لقد حضرت لكَ الأكلة التي تُحبها، اذهب و بدِّل ملابسك" مشاعر الأمومة حركت عجلاتها مُتبئة بوجود شيء يُزعِج فتاها، فهذه العيون الحمراء التائِهة و الوجنتان الصفراوية و الجسد المُتهالِك لا يُبشِران بالخير، تتبعتهُ بعيناها القلِقة حتى دلفَ الغُرفة، ضمت يداها لصدرِها ونظرت للسقف بترجي "يارب احمي ولدي مِن كُلِ شر"

تأوهات مكتومة أصدرتها حُنجرته رداً على كدماتِ جسده و ألمِ ظهرِه، أخذَ حماماً سريعاً خرجَ مِنهُ مُرتجِفاً لبرودة المياه و استقبلتهُ رائحة الرطوبة الحارِقة، سعلَ أكثر من مرة و اجتاحَ مُقدمة أنفه اللون الأحمر، ارتدى بجامته خارِجاً نحو المطبخ، جلسَ أرضاً شارِد الذهن، "بما تُفكِر؟"
"بالعمل الجديد" نبرتهُ هادئة اكثر مِن المُعتاد
"هل حدثَ معكَ شيءٌ أزعجك؟" رفعت برؤوس أصابعها ذقنه الصغيرة "لا أمي، أنا فقط مُتعب" أشاحَ بنظره عنها و هذا ما أثار شكوكها أكثر.

انتشرت رائحة الطماطم المطهوة بالفلفل و البهارات المُشكلة، وضعت طبقه أمامه ليُباشِر بالطعام بعدها
"محمد، أنت تعلم أنهُ يمكنك إخباري بأي شيء"
قالت بعد مدة باحِثةً عن تعابير في ثنايا ملامحه تُطمئِن قلبها المُشتعِل "أعلم أمي" تمثيله بأنه مُنهمِك بالطعام لم يفي بالغرض فيستطيع أن يُمثل على الجميع إلا على من سكنَ في رحمها مئتان و سبعونَ يوم، نظرت إليه مطولاً، ذلك الوجه الخالي من التعابير و الشفاه المزمومة رافقاه منذ دخوله في سن الحادية عشر، لقد اشتاقت لصف أسنانِه اللؤلؤي و لأغصان الأشجار بجانِب جفنيه، ما الذي اطفئ بريق الزمرد في عينيه..

تمددَ جسدهُ أسفلَ الشرشف الخفيف و بتهويداتٍ حنونة ثَقُلَ جُفنيه و ما لَبِثَ أن مدَّ النومَ يدهُ إلى عينيه حتى سمعَ صُراخ أنثوي هزَّ صداهُ أبنية البلدة، قفزَ من فراشِه راكِضاً نحو المطبخ، وضعَ كرسياً صغيراً و مدَّ رأسه من النافِذة الضيقة المتموضِعة في مُنتصفِ الحائِط، أبصرت عيناه ثوباً أبيضاً يُغطي مفاتِناً أنثوية راكِضةً و سيلٍ من الدماء يتدفق من مُنتصف عُنقِها ليرسم لوحته على جسدِها، ركضَ خلفها بعيناه لتختفي خلف حائط المطبخ، قفزَ من الكُرسي و خرجَ من الباب مُتجاهِلاً صيحات والدته، نزلَ السلالم بسرعة كادَ بسببها أن يهوي على وجهه، وصل لباب المبنى و رأى لفائف شعرها الكستنائية و ملامح وجهها المُرتعِبة و الدماء هي كُل ما يُزين رقبتها، اشتعلَ صدره و اختلَ توازنه، تجمدت الدماء في عروقه و انحلَّت مفاصل رُكبتيه، "فليُساعدني أحد!" صرَخاتُها لم تُحرِك شعرةً من والدتها الواقِفة دونَ حيلة و لم تلين لها نظرات أخوانِها المُقتضِبة، كادَ أن يُسرِع كي يقف في وجه الثور الهائِج الذي يلحق بها لولا ذراعي والدته، صرخة مدويّة اهتزت لها السماء و نعقَ لها الغُراب، تحتَ أنظار الجميع سقطت الفتاة مُهشمةَ الرأس بطوبة بناء، شعرَ باحتراق خديه بفعل الدموع الحارِقة، أراد الركض نحوها و معانقتها و تذكيرها بما قالتهُ له، "سنُكمِل أيامنا معاً مُجتازينَ الصِّعابَ و المصائِب، سأبقى بجانبك حتى لو لم تراني سأكون لك كالنجمة تِلك" رُبما صدقت بآخر كلامها..

تبدلَ شعور الأسى و الحزن إلى نارِ حقدٍ مُشتعِلة بعد رؤيته لوالِدها يرتشف كأسَ الشاي بجانِب جثتها، لقد تمثلَ إبليس على هيئة بشر، الجميع ينظر بصدمة لهول ما حدث و لكن لا أحد يتحرك.. لا أحد يجرؤ.

أينَ ذهبتي بعيناكِ عني؟

كيفَ سأرتشفُ قهوتي مُستنشِقاً عبقَ البحرِ؟

من لي بعدكِ جليسٌ يُأنِسُ وحدتي..؟

من لي من بعدِ حُضنُكِ ملجأً يواسي حُزني..؟

أيا فتاةُ الشمسِ لقد غبتي و غابت شمسي..

اخترتي الرحيلَ و تركي.. قولي لي كيفَ لي أن أسيرَ لوحدي..؟

لا تنسي أن تطلِّي عليَّ فوقَ السهلِ..

لا تُخبِر أحداًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن