أعرف أنك جائع و أنك لا تأكل إلا ما ترضعك أمك.. و لكن هذه هي الحياة إيها الصغير المسكين.. الناس يفقدون أمهاتهم و آبائهم، و الأمهات و الآباء يفقدون أبنائهم، و على كل مخلوق أن يتدبر أمره..
_غسان كنفاني
نقلَ صناديق الزيتون لداخل المعصرة كالعادة و أخذَ يُركبها فوقَ بعضها، نسيمٌ بارِد ضربَ جسده بينما يرتدي قفازات سيليكون زرقاء، اختارَ الطقس أن يُقيم الحداد مُتضامِناً مع الصبي الذي تحتضر روحه يوماً بعد يوم، كانَ الجو مقيتاً و تسللَ إحساس الكآبة إلى نفس الشاب و أحسَ بضيقٍ يُقيد أضلُعَ صدره، على مدى هذا الأسبوع جاءَ حسَن و أخيه إلى المعصرة لتسليم محصول الزيتون و نهش ما تبقى من جثة الصبي.
كُل يوم يعود به بوجنتين مُمتقعة و شفاه متورمة كانت والدته تحس بانقباض قلبها و تزاخُم الأفكار السيئة في خلدها حتى ما عادت تذق طعم الكرى و هي تستمع لآهات ابنها في كل تقليبة لهُ على الفراش، ذهبت الأربعاء الماضي إلى المعصرة حيثُ كانَ يتواجد بها الأخين و سألت عما يفعله ولدها كي ينال كل هذا الضرب، و سقطَ الجواب على صدرها كسيفٍ مصقول، "إن إبنك قبيح يستحق ما يحصل عليه غير أنه لا يعمل جيداً و يقضي وقته في اللعب"
لطالما كان محمد وديعاً، رزيناً و سلِس أم هذا ما كانَ يُريها إياه؟اقتحمَ الروتين حياةَ الصبي و جثمَ على كتفيه كعجوزٍ كهل، تحتَ مرأى عينا الشاب كانَ يرى ذبوله كزهرة ربيعية ضربتها رياح الخريف الخشنة. كُل ثانية زادت في نفس الفتى ندماً مُرّاً يسيلُ على قلبه كالعلقم، أصبحَ وجهه مرآةً لعذابِه أصبحَ يتمنى أن يستطيع التخلص منه بأي شكل أو أن يتركه وراءه و يمشي، و لكن هل هكذا سيرضي ضميره أم سيغرق في بئر الذنب الموهِن حتى يختنق بأفكاره.
صدحَ رنين الهاتف وسطَ تخلج الآلة و ضجيجها، اتجه هادي إلى خارِج المعصرة بعدما قرأ اسم حسَن على شاشته الذكية، أجابَ على اتصاله بنبرة لئيمة صارمة، "هادي، اتصلت بك لنُصلِح ما بيننا ف أنا لا أُريد أن اخسر صداقتك التي صنعناها منذ نعومة أظافرنا" ألتمسَ هادي شيئاً من الندم في نبرته، لكن لم تنطلي عليه هذه الحيلة فهو يعرف هذا الثعلب الماكِر أكثر من أمه، "لذلِك أدعوكَ لكأس عرق ننسى به مشاكلنا، ما رأيك؟" رُغمَ شكه بما يقوله إلا أنهُ كما يقولون -سيلحق الكاذب لخلف الباب- "حسناً، أينَ ألاقيك؟"
"في حانة أبا إلياس"أقفلَ الاتصال و عاد للداخل، ألقى نظرة على محمد و انتشلَ قبعته الرياضية من على كرسيه، "محمد أنا ذاهِب إلى جلسة مع رفاقي، سأكون قريباً من هنا"
تنهدَ من تبدل ملامح الفتى إلى الخوف و اردف "إنني ذاهِب مع أولاد عمك"
"لا هادي، سيلحقوا بك الأذى!"
"إن فعلوا فأنتَ أصبحتَ تعرف قيادة الشاحِنة"
اختلجَ صدر الصبي و اتسعت حدقتيه ليشعر بالأدرينالين يتدفق في عروقه، أحسَ الشاب بهالة الرعب التي أحاطت الصبي و اتخذَ بعض الخطوات نحوه، "هيا محمد، لا تكُن جباناً هكذا" هزه من ذراعيه بقسوة و نظرَ لعيناه محاوِلاً امداده بالقوة و لكن لم يشعر إلا و بذراعيه أحكمت على جسد الصغير بقوة، "لن يحصل لي شيء، و حتى أعود أنت ستكمل عملك و سنتغدى سوياً، أفهمت؟" اعتصرَ على زنديه ليومئ الصغير بعينان لامِعة، "هيا إيها الشاب، إلى العمل" ربتَ على كتفه ليتجه الصبي بكتفان واهِنان إلى الآلة شارِداً بالعدم.أشاحَ بنظره عن عيناه الضائعة كي لا يسقط ضُعفاً و انتشلَ نفسه خارِجاً من المعصرة تارِكاً قلبهُ بها، أخذَ الطريق سيراً فالحانة ليست ببعيدة، شمَّ رائحة جسده المُتعرِق ليُكمل سيرهُ كُرهاً، لاحت لهُ لافتة الحانة و باتت أقرب خطوة بعد أخرى حتى ولجَ من بابها الخيزراني، دحرجَ عيناه على المتواجدين و قد أحرقت أنفه خليط من روائح الرجال و الخمر العتيق، هتفَ صوت من خلفه باسمه و ألتفتَ مُبصِراً صديق طفولته، تقدمَ إلى الطاولة برزانة كانت تشعل قلبَ صديقهُ حقداً، لطالما تم المدحُ به منذُ صغرِه، كانَ متفوقاً بدراسته و صبياً نشيطاً مُحب للعمل، بار الوالدين و رفيع الأخلاق و هذا كان كل ما ينقص حسَن، أخذ لهُ كرسي مُقابِل حسَن و على يساره أخيه مُصطفى، "دعوتك لننسى كل ما حدث و نبدأ صفحة جديدة" يستطيع تمثيل الطهارة أمامَ الجميع لكن ليسَ على هادي، اكتفى بهز رأسه كي لا يتقيئ من كذبه و قررَ أن يُجاريه.
ارتفعَ صخب الأغاني و المواويل التي تيقظ ذكريات أليمة في نفس الشاب، أخذَ يتجرع كأساً بعدَ كأس و عينا الضبع تراقبه بأنيابٍ حادة يلهث خلفها لعابٍ نجِس، "يبدو أنك شاب مجروح يا هادي" خرجت قهقهة خبيثة لم يشعر بها الشاب من فرط سُكره، "انا كذلِك" خرجت الكلمات بشفاه مشلولة و عينان ذابلة و هنا قررَ حسَن إكمال خطته، "هل تركتَ الصبي وحده؟"
"أيّ صبي؟"
"رائع، هيا بنا إذاً"
نهضَ الأخوين و سحبا الشاب من أسفل أبطيه، تدحرجت قدميه على الأرضية بقلة حيلة منه فهو يشعر بتخدر حتى أصبع قدمه الصغير، ألقوا به في الشاحنة و مضيا نحو المعصرة.
أنت تقرأ
لا تُخبِر أحداً
Short Storyإذا أردتَ تدمير حياةَ عاشِق فاسرِق منهُ حبيبته، و إذا أردتَ تحطيمَ أُم فاسلُب مِنها طِفلُها، و إذا أردتَ دهسَ قلبَ طفلٍ أسلُب مِنهُ براءتُه بما استطعتَ مِن وحشيّة. مُقتبسة عن حادثة حقيقية وقعت في تاريخ ١/٧/٢٠٢٠ تمَ تعديل بعض الأحداث لِتتناسب مع مُجر...