"سَأرحَل بَّعدَ قليل وحيدًا ضائعًا
وخطواتي الكَئيبّة
تلتَفتُ نحوَ السَماء وتَبّكي."
#محمد_الماغوطخُطوة إلى الوَراء، ثم خطوة أخرى .. يقترب الباب منّي، ثم ينفَتِح .. ثم أرى نَفسي أخرُج عَبرَه .. ثم أرى الجُدران تتمايل .. و السقف يَهوي .. و الأرض تَقتَرِب مِنّي .. و الدُنيا تُظلِم .. تظلم .. تظلم ..و يختفي كُل شيء.
هُتاف شخص ما يدوي فوق رأسي، أيادي تُمسِك بي، أذرُع ما تَحمِلُني، و تَضَعُني فوق شيء ما.. مُريح، كَفٌ تضرب وجهي و صوت يُناديني، قطرات من الماء تُرَش على وَجهي، أفتَح عيناي فأرى صورة غير واضحة، كُل شيء ممّا حَولي يتمايل و يتداخل ببعضه البَعض، الأوجُه.. السَقف.. الجُدران، أُغمِض عَيني بِشِدّة، أشعُر بالدوار، سأتقيأ..!
فزعت من مضجعي أُطالِب من بجانبي بأن تُحضِر دلواً بسُرعة و في ثانيتين كُنت قد أفرغت ما بمعدتي بالدلو ذاك، التّي بجانبي كانت أمي، مشطت شعري للخلف بأصابعها كي لا يُزعجني.
مالبثت حتّى استرجعت الأحداث، أبي فارق الحياة! أجل كَبِدي قُتِل! و منذ متّى؟ مُنذ ثلاث سنين! و أنا أعيش حياتي الطبيعية بعيداً بينما الأوضاع مُنقلبة و غير واقعية هُنا! لا أكادّ اُصَدِق، صِدقاً لا أفعل.
شهقت أرمُق أمي مُجَحِضة عيناي، هي أشاحت وجهها عنّي، لما أخفيتي الأمر عليّ؟ما الذي يمنعكم من إعلامي! اروي أسئلتي أكاد اُجَنّ!
لست بتلك القيمة بالنسبة لكم، على الأقل عاملوني كفردٍ من الأسرة له الحق بمَعرِفة أمرٍ جَليل كهذا!
تداركت أن لا جواب لإستفساراتي بكل بساطة، انتعلت حذائي و خرجت، تجاهلت منادات من تُسمى والدتي.
الجوّ بارد للغاية! جسدي يرتَعِش، احتضنت ذِراعي أمنح لنفسي القليل من الدِفئ بينما أسير بخطواتٍ مُتهاوية، إلى مزرعة والدي البعيدة جداً.
بعد ساعات نفذت طاقتي، لا أدري كيف وصلت بأمان وسط رؤيتي الضبابية التّي سببتها دموعي.
مسحت وجهي أقِف قُرب أرضٍ مَحروقة، أرض ليست بِأَرض، أين الحَقل الذي اعتدت الركض بين سنابِلِه؟ أين بساتين الزُهور؟ أين العصافير التّي اعتادَت التغريد فوق سماء هذه المزرعة المهجورة؟ أيّن والدي؟!
جثوت أرضاً عندما تهالكت و لَم تَعُد قدماي قادرة على حَملي، أشعُر بالإنهاك، بقلّة الحيلة، الضغينة، الحُزن، الضُعف و الأسى، كفايّ لم أستَطِع تحريكهما، جسدي بأكمله انشَلّ، أجهَشت بالبُكاء من العَجز و القَهر، لم يَكُن بمَقدوري حتّى رفع رأسي، كأنّي دُمية خالية من الحياة تخلّى عنها صاحبها في وسط الطريق..!
كلّما استرجعت ذكرياتنا هُنا يزداد نحيبي، لا يسعني تصديق حياة تخلو من والدي، مستحيل.
أنذاك لم أفلَح سِوى في البُكاء، فقدت جذعي من أستند عليّه، بكلّ بساطة، قتلوه بدمٍ بارِد.
ضغطت على نفسي رغم تشنج عضلاتي أقِف بجُهد، و أمشي دون وجهة في اللحظة التّي كان فيها قرص الشمس يختفي خلف الأفق الغربي.
وجدت نفسي بين الحدود، عندما شدّت انتباهي لافتة حديدية منتصبة يسار الطريق تحمل إسم "مدينة الحراش".
كانت البيوت القصديرية تتوزع بشكلٍ عشوائي خلفي، لاحظت وجود بعض الدِلاء الضخمة عند قدماي، ارتعدت أوصالي ذُعراً عند لَمحي للجنود الفرنسيين يحملون بنادقهم و يُصَوِبونَها من بَعيد على الناس اللاهين عنهم، اختبئت خلف الدِلاء أنخفض بجسدي كامِلاً و أستند على جدار إحدى المنازل.
كتمت فمي من الصراخ بكلتا كفايّ، كان هُنالك ثُقب كبير يسمح لي برؤية ما خلف الذي أختبئ وراءهم؛ لم تَمضي إلاَّ لحظات ثم صَوَبوا نيرانهم تجاهنا، تساقط الأطفال في الوَسَط، و بعض النِّسوة كنّ يجلبن الماء، فَرَمَيّن الدِّلاء و هَرِبنّ، لا أدري كم واحدة نَجَت وقتها لكنّ رأيت الكثيرات يسقطنّ، أمّا الشّيوخ فَلَم يَبرٍحو أمكِنَتَهُم.
بعض الشباب فرّو تجاه الغابة و آخرون من الذين حملوا البنادق انتبهوا متأخرين، و حاولوا صدّهم، صمدوا قليلاً ثم سقطوا مضرّجين بدمائهم، و مرّ عساكر المُحتَلّ بأقدامِهِم قُربي و لَم ينتبهوا لي في مَخبَئي.
بقيّت مكاني، و وتيرة نبضات قلبي قرعت بصخب عند طبلة أذناي، تنفسي كان مضطرباً لا أكاد ألتقط الهواء، صدري كان يرتفع و يهبط بشكلٍ طَردِيٍ و سَريع، بدني بأكمله كان يرتَعِش و يتعرّق، الدموع انسابت من محجر عينايّ دون أن أشعُر.
عندما انتشرت الظُّلمة سمعت وقع أقدامٍ قُربي، عاد بعض الذين فرّوا إلى الغابة، لم أر تفاصيل وجوههم لكنني سمعت أنينهم و بُكائهم، حملوا الجثامين و ساعدتهم في دفن الأطفال لِضُعفي، لم نَفرَغ من دفنهم إلاَّ بعد بزوغ شمس يومٍ جديد، غابت فيه قبيلة إلاّ قليلاً عن الوُجود.
*ادري البارت قصير؛((
أنت تقرأ
مَلاذ مِن الإحتلال || P.JM
Romans''ثم جاء وجهك من أرض غريبة، داهِساً أوراق الجَزَع المُتناثرة على طُول الطُرُقات ،أَجَلاً مَحتوماً لا مَهرب منه للإحتلال،زاهِراً كبساتين وَردٍ بحقول السنابل المَحروقة.. جئت كإحساس أوّل قُبلة مُعتَذِراً نِيابةً عن بَطش الدُنيا..'' Main characters : ...