هناك ذكريات أشبه بضوء الشمس الذي يجلي ظلمة الليل
تظن أن طعم الفرح فيها غلب كل شيء
لكنه لم يستطع أن يغلب مرارة هذه الأيام!
طعم الفرح الذي ذقناه لم يُنسه شيئًا من طعم الحزن الذي نذوقه!
فليس كل ما يتمناه المرء يدركه..
فغالبًا أغلب ما نتمناه لا يحدث
بسبب أناس يملئ الحقد والجشع قلوبهم
وحينها تجد أنه لا بيدك حيلة تفعلها تُثلج بها نيران صدرك غير الابتعاد.
بخطوات واثقة وجسد مشدود يبدو عليه الراحة والسكون إلا من نظرات الأعين المشتعلة، دخل بهيبته ينطلق تجاه غرفة والده المخصصة له في القصر، يسير في ذلك الممر الذي يوجد به بعض الجنود على كلا جانبيه.
يقف كل منهما حاملًا رمحًا طويلًا مرتديًا ملابس بيضاء موحدة لما تبثه من راحة وسكينة للنفس.
كاد أن يعبر المنحنى حيث تتواجد الغرفة ليفاجئه ظهور فتاة كادت أن تصطدم به لكنه تراجع للخلف خطوة.. خطوة كفيلة أن تجعلها تستعيد اتزانها، ليقف أمامها كالطود الشامخ.
ليست أي فتاة إنها خطيبته وابنة عمه!
نظر إليها بملامح صارمة وبرودة تطل من عينيه تكاد تماثل ثلوج القطبين، مشاعره نحوها غامضة..
وقف يتأملها، قامتها طويلة رشيقة، خصلات شقراء بلون أشعة الشمس الذهبية، يزينها تاج مموج باللون البني يتخلله أحجار دائرية باللون الفضي..
حاجبان من نفس لون خصلاتها، ليكسر اللون الذهبي لون عينيها العشبي البراق..
هبط بعينيه على فستانها الذي حمل لون عينيها، يهبط بضيق عند الخصر ويتسع حتى الكاحل بطبقة من الحرير وأكمام ضيقة حتى المرفقين لتكتمل باتساع طفيف.
لا يعرف ما هذا الشعور؟
شعور بالنفور لا يعرف لأي شيء موجه!
استغرق بأفكاره بضعة دقائق ثم رفع نظره لعينيها، على الرغم من جمالهما ظاهريًا لكنهما يحملان ما بداخل صاحبتهما.
انحنت باحترام تقول بهمس خافت يمس قلب أي رجل :
-"عذرًا مولاي.. لم أعلم أنك قادم!"
أومأ بحركة بسيطة من رأسه ينظر لها بغموض بعدما استقامت تناظره :
-"لا بأس خديجة.. يبدو أنكِ كنتِ على عجلة من أمرك!"
اقتربت منه خطوة واحدة تضع كفيها بجرأة على كتفيه تقول :
-"في الحقيقة كنت آتية لأراك، لقد اشتقت إليكَ إلياس!"
ارتفع أحد حاجبيه ببعض الدهشة الممزوجة بالسخرية، وكاد أن يتحدث لكنها اقتربت أكثر تضع سبابتها على شفتيه تكمل :
-"أنا خطيبتك وابنة عمك، وعما قريب سأصبح زوجتك.. وبالرغم من هذا أشعر أنك بعيد عني أميال؟!"
أمسك كفيها بين قبضتيه، فانعقد حاجبيها بدهشة يقربها منه ثم هبط على أذنها هامسًا بسخرية متعمدة وابتسامة جانبية ظهرت على شفتيه :
-"وهل يليق بالملكة المستقبلية أن تقف وسط الممر وتفعل ما تفعليه يا ..... يا مولاتي!"
اتسعت عيناها بذهول من كلماته تنظر له بقوة ووجهها يتميز من الغضب!
كادت أن ترد لكنه فاجئها برفعه لكفها يقبل ظاهره :
-"أعذريني سأتركك لأرى الملك فهو قد وصل للتو، وبعدها سأرى خطيبتي المشتاقة ما أمرها!"
تركها ومازالت الابتسامة على شفتيه يلتف برأسه قليلًا يناظرها بجانب عينه..
تركها تطالع ابتعاده الممزوج بغرور كهمسه بعيون متسعة، تطبق على فكيها بغيظ قبل أن تلتفت لتذهب.
دخل غرفة والده بخطوات واثقة، يحوم بنظراته في المكان فوجد والده واقفًا بشموخ عتيق ينظر من الشرفة عاقدًا كفيه خلف ظهره..
بردائه الأبيض فقط دون عمامته الملكية، لتظهر خصلاته شديدة البياض.
تقدم نحوه مبتسمًا بمودة وسرور قائلًا :
-"حمدًا لله على سلامتك أبي"
التفت إلى بِكره الذي انحنى مقبلًا ظاهر يده التي ظهرت عليها علامات الكبر، فربت على كتفه بفخر يرى فيه نفسه في شبابه.
فإلياس عنفوان وحماس ممزوج بجبروت وغضب يظهر وقتما يريد وفي الوقت المناسب.
لا يردعه شيء ولا يتردد في فعله.
بدليل قطعه رأس الخائن دون أن يرمش جفنه.
نظر للساحة عند بقعة الدماء الكبيرة وقال بمكر وبصوت عتيق أجش يظهر فيه علامات الزمن :
-"أخبرني كيف ستنام وقد فصلت رأسًا عن جسدها؟"
علم مقصده..
هكذا يختبر مدى جموده وعاطفته.
ليبادله ابتسامته بشبيهتها ينظر إليه يلتقط نظرته الغامضة و الواضحة بالنسبة له.
نظر لنفس البقعة يهمس بلامبالاة ظاهرية تخفى جبروت مهول :
-"بل سأنام قرير العين للتخلص من خائن كهذا..
هذا اليوم يكون من أفضل أيامي"
أومأ تقي الدين ينظر لملامح وجهه التي ظهرت عليها الاصرار، وتحولت ابتسامته لأخرى فخورة.
فسواء إلياس أو نيار كلاهما يملك قوة وعنفوان خاص به..
إلياس بإعصاره ونيار بغضبه عندما يريدان الوصول لشيء!!
الأول ببرودة أعصابه والآخر بسخريته!!
زرع فيهم أن من يسير خلف القلب لا يستحق الحياة.. فما فائدة العيش ضعيف بالعاطفة والقلب؟!
كل ما فعله وما زرعه ينتج ثماره التي كان ينتظرها الآن، لولا ما حدث منذ سنوات..
تنهد بقوة يعود بذاكرته للماضي قليلًا..
★★★★
يومًا كان بداية اللعنة كما يُقال
بداية انشقاق أقوى ترابط يمكن أن يوجد
ترابط الدم!
انقسام المملكة الأقوى إلى نصفين فتتفتت القوة وتتناثر.
يوم جاء إلياس يطلب رؤيته لأمر هام ليجلس أمامه بعدما دخل وقال :
-"أريد طلب شيء وأتمنى موافقتك مولاي!"
-"تكلم بني ماذا تريد؟!"
لاحظ توتره للمرة الاولى وهو يخبره بأمر ما، جعل الدهشة تعتريه فابنه يبدي ما يريد ويصرح به دون تردد أو توتر كما هو الآن!
يشعر بحسه الأبوي ما هو قادم لأجله :
-"أريد الزواج من فيروز أبي"
اندهش بشدة من طلب ابنه، يتمنى زواجه اليوم قبل الغد لكن من فتاة ذات شأن عظيم..
كاد أن يجيب لكن سبقه صوت زوجته التي كانت تتابع الحوار تهتف بسخط :
-"ماذا؟
هل جننت إلياس لتطلب الزواج من جارية؟"
تنفس بعمق ينحني برأسه للأسفل يقبض على كفيه سويًا يحاول ضبط أعصابه أمام والدته يجيبها بهدوء:
-"أمي أنا لا فرق عندي بين جارية وأميرة..
فلا تتحدثي بتلك الطريقة رجاءً"
لم يهدئها حديثه بل زادها انفعال وغضب فانتفضت من مجلسها تهتف برفض قاطع :
-"بل يوجد فرق كبير بين الجارية والأميرة أيها الملك.. وهذه الجارية لن تصبح زوجتك"
انتفض بغضب منها للتقليل من شأن من يريدها زوجة بأعين حمراء شرسة، ولكنه حاول الهدوء أمامها :
-"أمي أرجوكِ، جارية أم لا فأنا أحبها وأريدها زوجة ، ولن أسمح لأي أحد التقليل من شأنها"
وقفت أمام وجهه بوجه شديد الاحمرار، يملأه الانفعال والرفض لما يهذي به تهتف بغضب :
-"ولو سقطت السماء وتحولت النيران جليد، لن تصبح جارية ملكة للبلاد في يوم من الأيام طالما أنا على قيد الحياة إلياس..
أنا والدتك وأكثرهم خوفًا على مصلحتك"
ضغط بقوة على أسنانه لدرجة أن صوتهما وصل لمسامعها ، لكن ابتسامة بسيطة تحمل كافة معاني الغموض والشراسة، نظرات عينيه ازدادت قتامة قبل أن يقول بهمس غامض ملأ قلبها بالتوتر :
-"لا تتفوهي بشيء قبل التفكير به أيتها الملكة..
ولا تأتيني الآن صارخة بخوفك عليّ..
فتاريخنا سويًا غير مشرف"
تركهما وذهب غاضبًا، حاملًا بقلبه الحزن من أم لم تكن لها من لقبها او اسمها نصيب!
لم تحمل من الأمومة شيئًا!
يهز رأسه بسخرية وجملتها التي سمعها ذات يوم بمحض الصدفة وهو في طريقه لجناحها مع والده، ليصله تأنيبه لها بسببه هو وأخيه لتصدمه بردها البارد واللامبالي :
-"من حب الله لي أنه رزقني بالأولاد حتى لا يذهب العرش والمملكة سُدى"
المملكة.. العرش.. المُلك.. السلطة!
هو كل ما يهمها في ذلك القصر..
وسعادة أبنائها..؟؟
لا مجال لها في مخططاتها.
خرج وتركها تشيعه بنظرات حانقة قبل أن تهمس بغموض وإصرار :
-"هذا الأمر لا يمكن الاغفال عنه!!
يجب إيجاد حل في أسرع وقت، فلن تكون زوجة ابني مجرد جارية "
اكتشف بعدها أنها أرسلت فيروز كهدية إلى نيار بعد أن أعلمته بما ينوي أخيه فعله، والذي قبل الهدية لتكون في اليوم الذي وصلت فيه للقصر ليلتها الاولى معه يقطع على أخيه طريق الزواج منها، فلن تختلط الدماء الملكية بدماء جواري!!
لم ينسَ يومها ردة فعل إلياس عندما علم..
كان على وشك شن حرب على أخيه لكنه نجح في السيطرة عليه.
حينها تفاجأ بقراره..
انفصال مملكة الجنوب عن الشمال والانفراد بحكمها.
لن يخط بقدمه ذلك القصر إلا في الاجتماعات المهمة كيوم الشكوى أو الاحتفال السنوي..
ومن يومها قطع علاقته بوالدته، فلم يجمعهما حديث إلا في الحدود القصوى.
★★★★★
في كثير من الأحيان
تجبرنا الأمور من حولنا على تقبل أشياء نرفضها رفضًا قاطعًا
فقط لأنها سبب في سلامة الكثير
تضغط على ذاتك وتضطر قسرًا تنحي مبادئك جانبًا وفعل ما تكره مجبرًا
كي تمنع ألسنة الجميع أن تلوك في الأمر
- "مولاتي.. الملك سليم يريدك في الحديقة الشرقية"
نطقت بها أروى بعد أن دلفت لغرفة ليان لتجدها جالسة أمام مرآتها تضع أناملها أسفل ذقنها تنظر لانعكاسها بتيه وملامحها تبدو عليها التفكير.
تبادلها نظراتها في المرآة عندما انتبهت إليها فوقفت تعدل من هندامها البني بلون تاجها قبل أن تتقدمها للخارج.
وصلت لحديقة القصر فوجدته جالسًا على كرسيه الكبير المبطن بالوسائد الصغيرة، تحيطه من أعلى ستائر باللون القرمزي على هيئة موجات رقيقة.
انحنت لتحيته قبل أن تستجيب لذراعيه التي امتدت لها تجلس بجانبه، نظر إلى ملامحها الرقيقة.
يعلم أن وراء هذه الرقة والصفاء غضب وعاصفة تظهر عند الحاجة؛ لذلك هو مطمئن عليها.
تنهد قبل أن يتحدث يمسد على خصلاتها :
-"كيف حال الصغيرة؟!"
ابتسمت بحنان تجيبه :
-"أنا بخير بوجودك جانبي أبي"
ربت على رأسها بحنان متبادل ليخبرها :
-"أريد منكِ الاستعداد للسفر، تعلمين أن الاحتفال سوف يقام عما قريب وأيضًا يوم الشكوى في المملكة قد اقترب"
انتفضت في مكانها بغضب ترفض كل ما يحدث!!
ترفض هذا القانون والاحتفال، التقاليد المتبعة في المملكة، السفر والحضور!
تفكر في طريقة ما لإقناعه باستثنائها من هذا، لو كان بيدها لرفضت الزواج من الأساس.
-"أبي أنت تعلم رأيي في هذا الأمر، بالله عليك كيف يمكنني حضور شيء غير مقتنعة به؟"
أغمض عينيه يحاول بث الحدوث في نفسه أولًا كي يستطيع تهدئتها قائلًا :
-"ليان أهدأي.. هذه قوانين متبعة منذ سنوات بعيدة، لن تستطيعين تغييرها مهما فعلتِ"
تلك الجملة زادت من غضبها وثورتها أكثر، تهتف بغير إرادة :
-"لكنني لا أريد ذلك..
بحق الله أي فتاة ستتحمل ما يحدث؟"
صرخ بها يعنفها على علو صوتها وقد ظهرت عليه بوادر الغضب :
-"ليان أخفضي من صوتك وأفعلي مثلما أمرتك..
السفر سيكون بعد ثلاثة أيام، انتهى الحديث"
حاولت الاعتذار منه لكنه زجرها بنظرات الرفض والغضب.
فانحنت بحزن معتذرة منه بخفوت قبل أن تلتفت ذاهبة وخلفها أروى.
عادت إلى غرفتها حزينة أنها أغضبته، ساخطة على نيار والقصر بأكمله لأنهم السبب في كل هذا.
فحاولت أروى تهدئتها :
-"مولاتي أرجوكِ أهدأي.. لكل شيء حل"
التفتت بقوة جعلت خصلاتها تدور حولها تستكين على كتفها الآخر، عيناها تطلق شرارات سخط وتهتف :
-"حل!
أي حل الذي تتحدثين عنه؟"
اقتربت منها الأخرى هامسة بدهاء أنثي ومكر ترفع حاجبها :
-"لا تضعي نفسك في مقارنة مع بضعة جواري، فأنتِ ستصبحين الملكة..
وأيضًا بإمكانك جذب الملك بجمالك ودهاء الأنثى"
فكرت بذلك الحديث..
تشعر كمن بثّت فيها روح المغامرة والحماسة، وأعادت لها ثقتها في نفسها ، فنظرت لنقطة في الفراغ تسير في غرفتها، ونظرات الاصرار ظاهرة في عينيها بقوة :
-"معك حق أروى.
خاصةً أن كلمات الملكة رقية لم تغب عن بالي لحظة وكأنها تريدني أن أفهم أني سأخضع لسلطانها، لم ترَ بعد ما أستطيع فعله!"
التفتت إليها وابتسامة جانبية ظهرت على جانب فمها الصغير تخبرها :
-"أبدئي في إعداد ما يلزم للسفر، اجعليهم يعرفون من هو الملك سليم وابنته"
انحنت أروى تبتسم لها نفس ابتسامتها قبل أن تستدير لتخرج من الغرفة، وتركتها تجلس على أريكتها الواسعة تميل بجذعها لجانبها تتلاعب بخصلاتها مبتسمة بمكر تفكر في حياتها في القصر الذهبي.
من الغباء أن تحاول التشبث بدور لا يليق بك أمام من يعلم عنك أصغر الأشياء عن حياتك
يعلم حقيقتك وكيف تفكر؟
بل يعلم خطوتك القادمة ليقف يستقبلك عندما تخطوها..
تتظاهر بشيء وتعلم أنه لن يصدقك.
لعبة التخفي تلعبانها وأنتما بمواجهة بعضكما!
علاقة قائمة على التظاهر بشيء والمضمون عكسه!
يعلم نواياها، أفكارها، وما تتطلع له!
يقف على قارعة الطريق يتأملها بصمت وما تريد الوصول له!
يتركها تفعل ما تشاء طالما لم تتخط الحدود التي يرسمها لها في عقله!
يقف لها بالمرصاد.. حتى ولو كانت والدته!
يجلسان سويًا في جناحها بعدما عاد من سفره محتضنة إياه تبتسم له بحنان، قبّل يدها يبادلها الابتسامة ويجلس بجانبها، وما أن انفردت به حتى بادرت بسؤاله قائلة :
-"كيف كانت رحلتك؟"
شرد فيما حدث معه في الغابة والفتاة التي أنقذته، سافر بعقله إلى شجاعتها، هدوء حديثها، خنجرها، ومهرتها!!
لينتبه إلى نظرات والدته التي تحاول سبر أغوار أفكاره، فابتسم لها بعد أن أظهر واجهة الجمود التي تكرهها فقال :
-"كانت ممتعة كالعادة، أخبريني أين أبي؟"
شردت قليلًا وسحابة من الحزن لاحت في حدقتيها تنظر للأمام قبل أن تقول :
-"ذهب لمملكة الجنوب عند أخيك"
لتتنهد ناظرة له بغموض مكملة :
-"لا أعلم متى سينسى ما حدث في الماضي ويعود لي من جديد؟!"
زفر بقوة يشيح بوجهه يحاول السيطرة على انفعالاته..
ثم التفت قائلًا بنبرة لا تحمل جدلًا ينهي هذا الأمر قبل فتحه كالعادة :
-"لا تتحدثي بهذا الموضوع لأنك الخاسرة الوحيدة، بسبب ما فعلتيه في الماضي خسرت أخي.."
نهض فجأة يعطيها ظهره ضاربًا جانب جبهته بأنامله يقول من بين أسنانه :
-"لا أعلم أين كان عقلي وأنا أوافق على هذا الأمر"
انتفضت تقف خلفه جاحظة العينين ترمقه بنظرات غاضبة تهتف به :
-"ماذا كنت تريد مني أن أفعل وهو يخبرني برغبته بالزواج من جارية؟"
طالع وجهها بنظرات غير مفسرة جعلت حاجبيها ينعقدان بدهشة تراقبه يقترب بوجهه منها هامسًا بغموض :
-"لا تحاولي إقناعي أن الملكة رقية بدهائها لم تكن ستجد حلًا غير هذا!
فالمرأة التي استطاعت التفريق بين أعز صديقين كانت ستجد ألف حلًا"
ابتسم عندما رأى عيونها توسعت بصدمة وغضب، وجهها استحال لونه للون الأحمر من الانفعال.
يعلم أن الحديث في هذا الأمر تمقته بشدة ولا تريد أن يأتي أحد بذكره، فأدار لها ظهره ليخرج لكنه توقف عند الباب وقال دون أن يتكلف النظر لها :
-"إلياس سيأتي للاحتفال، ليتكِ تستغلين الأمر بطريقة صحيحة هذه المرة أمي أو على الأقل لا تفتعلي المشاكل"
خرج من غرفتها يتقدم للناحية الجنوبية حيث ساحة تدريبه، اشتاق لخيله الثائر الذي أخذ من اسمه عنفوانه وسرعته، يعشق هذا الخيل الأسمر ذو الغرة الكثيفة البيضاء، بالرغم من حبه له لكنه لا يأخذه في رحلات صيده ، لا يريده أن يصاب في شيء كهذا، يتركه لمعاركه وغزواته.
توقف عندما لفت انتباهه اثنان من الجنود يتحدثان بهمس عن شيء قد حدث بغيابه ليسمع أحدهما :
-"ماذا ستفعل إذا علم الملك أنك فشلت في إحضار الفتاة إلى هنا؟!
بل والأدهى أن من منعتك فتاة مثلها؟"
توسعت عيناه بدهشة يستمع لرد الجندي الآخر :
-"لا أعلم من أين ظهرت هذه الفتاة؟
لكن كل ما سيصيبني بالجنون كيف لمثلها ألا تتواجد بالقصر ؟!"
-"ماذا حدث في غيابي؟!"
انتفض الاثنان على صوته القريب منهما وعلى وجهه علامات الدهشة المغلفة بغموض، ينظر لهما بأعين ضيقة يكمل موجهًا نظراته للجندي الذي كان بالسوق :
-"من تلك التي تمردت على القانون ولم تأتِ لي برأسها بجانب الفتاة الأخرى؟!"
توتر الجندي بشدة غير قادر على رفع رأسه في عين ملكه، وتصببت حبيبات العرق على جبينه، لا يعلم ماذا يخبره؟
أيخبره أنه فشل في إحضار الفتاة أم يخبره أنه تفاجأ بظهور فتاة أخرى هددته بالنحر؟
انتشله من توتره صرخة نيار يأمره بالحديث عما حدث ليقول بخوف وصوت متقطع :
-"مولاي.. كل ما حدث أنني كنت سآتي بفتاة إلى القصر، ولكن ظهرت أخرى لا أعلم من أين؟
هددتني بوضع السيف على رقبتي إن لم أترك الفتاة سوف تقتلني"
أنهى جملته رافعًا رقبته يريه الجرح الذي تركه السيف عليها، ليصبح وجه نيار شديد الاحمرار من الغضب يفكر من تلك التي تجرأت على الاعتداء على جندي من جنوده ، ليهمس :
-"أخبرني من تلك الفتاة؟"
ابتلع الجندي ريقه بصعوبة يسرد في وصفها :
-"فتاة بارعة الجمال بخصلات نارية طويلة للغاية ، بشرتها بصفاء السماء ولكن عيناها هي المميزة بها، عين زرقاء والأخرى خضراء تتوهجان عند انفعالها، وتبدو في سن العشرين لهذا ذهلت كيف أننا لم نعلم عنها شيئًا؟!"
كان نيار يستمع إليه ليسود عينيه وميض غامض، وتوهج سوادهما بشكل مخيف يفكر
هل هناك من خدعه لسنوات وأخفى عليه ابنته وتمرد على قانونه؟
أقسم من بين أسنانه أن لو كان الأمر صحيحًا سيجعلهم يندمون جميعًا على هذا، فلم يخلق بعد من يتمرد عليه!
ثم عاد ليفكر في الجزء الثاني من حديث الجندي...
كيف يمكن لفتاة أن تفعل هذا وفي وسط السوق، على مرأى ومسمع من الجميع؟
أفاق من شروده يقترب من الجندي هامسًا بخفوت أمام وجهه بصوت دب الرعب داخله :
-"أريدك أن تقلب المملكة رأسًا على عقب وتأتي لي بتلك التي تجرأت عليّ"
أومأ الجندي بتوتر وخوف ينحني له، ليتركه ويذهب باتجاه الساحة بخطوات تنم عن غضبه وحنقه الشديد.
★★★★
الحياة تشبه الشطرنج
رقعة سوداء يليها أخرى بيضاء
كل ظلام يقابلك في سبيلك حتمًا ستجد خلفه النور
ككتاب جميل الغلاف والقصة
حبكة ممتعة بدايتها حزن وسقوط حتى نستمتع بجمال النهاية!
لا تتوقف عند الأسطر الحزينة فقد يكون التالي أسعد..
لكن هناك بعض الأسطر قادرة على تغير النهاية تمامًا
لابد من الوقوف عندها إما أن نتعلم
أو نستسلم !!
جالسًا بشرفة غرفته الواسعة المطلة على حديقة القصر ذات البحيرة الصافية، اختياره هذا الجناح بالأخص لأنه يشعر فيه براحة نفسية.
شاردًا بنظره في البعيد حيث أطراف مملكته المترامية، ودارت بعقله العديد من الأفكار يحاول أن يبعد نفسه عما يقض مضجعه ولكنه يصر أن يغم أيامه ولياليه.
علاقته بوالدته.. لا يعلم مشاعره نحوها ولا يستطيع أن يحدد!!
طالما كانت علاقتها بهما بعيدة، من الظاهر أنها تسعى لمصلحتهما..
ولكن النوايا خفية.. تسعى لمصلحتها فقط.
لا يشعر نحوها بالشوق كأي علاقة بين أم وابن طبيعيين.
فهي ليست لها بالأمومة علاقة ولن تكون.
عند هذا الخاطر انتفض في مكانه مانعًا عقله من التطرق إليها..
لن يسمح لأفكاره أن تنحرف إلى هذا الجانب وقد اعتاد أن يهذبها.
نادى حارس جواده أن يخرجه، فهو منذ زمن لم يتفقد رعيته، كما أمر بإحضار وزيره.
مرت دقائق ودخل جاد إلى جناحه بعد أن أذن له الجنود دون الرجوع لملكهم لمعرفتهم للعلاقة الوطيدة بينهم، فلا يستطيع أحد الدخول إلى ملكهم في أي وقت يشاء غيره.
لفت نظره مظهر الجناح المبعثر ليهز رأسه بيأس، يبدو أنه عاد لمشاكله مع الخادمات.
يكره ما تفعله جواريه من اقتناص الفرص للالتصاق به فأصبح لا يريدهن في جناحه.
صار يتطوع أن يرتب جناحه فلم يعد يظنه ابن الأسرة الحاكمة وأنه ملك من تصرفاته.. ولا من عامة الشعب حتى.
فهو رجل نادر وهذا سبب قربهما من بعضهما.
يبدو أن هناك ما يقض مضجعه ويؤرقه لكي تتكون كل تلك الفوضى، شروده الفترة الأخيرة أقوى دليل فلم يرد الضغط عليه، فطالما كان غامضًا ولا يبوح إلا بالقليل.
تنحنح ينبهه إلى دخوله ولكن يبدو أنه في عالم آخر:
-"مولاي!!"
التفت إلياس ينظر له نظرات غير مفسرة صامتة حتى أردف بعد برهة من الوقت متنهدًا :
-"جاد أعدّ نفسك سنتفقد الرعية، وأعدّ لي ملابسي الخاصة"
أراد الاطمئنان عليه، فحاله لا يسره، فاقترب منه :
-"ولكن إلياس لمَ أشعر أن شيء ما يؤرقك؟
حاضر بجسدك فقط وروحك بعيدة..
أنا لا أضغط عليك ولكن أشعر أن السبب وراء تفقد الرعية ليسوا الرعية أنفسهم، بل أشعر بهروبك من شيء ما"
قاطع استرساله هزة رأس إلياس عندما أعاد نظره لمملكته من جديد يشيح بكفه :
-"ليس الآن.. ليس الآن جاد، أريد الانطلاق وحسب.. هيا"
-"أمرك مولاي!"
أردف منسحبًا للخلف تاركًا إياه في أفكاره.
حين سمع صوت إغلاق باب غرفته أطلق تنهيد عالٍ، فجاد ليس له أي ذنب سوى أنه صديقه.
وأي ذنبٍ هذا الذي يحمله شخص مثله؟!
هل كان يحلم بعد أن هرب من تحكم والدته وخنوع والده أن يلتقي بشخص مثل هذا مخلص بحق!
شخص إن ألقى بنفسه في أعتى الحروب، وأشد الصراعات سيكون معه جنبًا إلى جنب، بل سيتقدمه يتلقى كل السهام بصدره وليس بالمؤخرة كأهله.
أهل!
هل يحق له أن يطلق عليهم أهل؟
هل لأنهم أسرة مالكة يحق لهم التحكم بمصير الشعب؟!
هل لأن الله أنعم عليهم بالمُلك استباحوا لنفسهم سلب شرف الفتيات وكينونتهم ويصبحن جواري!!
ألانهن جميلات يضيع تعب الأم بالوضع والأب بالتربية والتعليم؟!
كان يسمع أنينهن بنفسه عندما يتفقد أحوالهن ليلًا.
وآه يا محبوبتي على مصيرك، وآهات على حال أهلك من بعدك!
آه على قلبي المستكين بين جوانبي لأجلك!
وعقله لم يرحمه فأخذه إلى ذكرى حزينة أخرى بينه وبين والدته..
★★★★
كالشمع يبكي وما يدري!
أعبرته من حرقة النار أم من فِرقة العسل؟
يجلس في الفراش طفلًا ذو ستة عشر عامًا مريضًا بحُمى قاسية كادت أن تفتك به، بجواره أخيه عيناه مليئة بالحزن والخوف عليه ، يسمعه بين الحين والآخر يسأل والده بنبرة قلقة :
-"أبي متى سينهض أخي متعافيًا؟
أنا لا أريد رؤيته هكذا''
فيطمئنه والده أنه سيكون بخير عما قريب فلا داعي للقلق.
راقدًا يهذي بكلمات مبهمة يذكر والدته من بينهما فلا وجود لها!
مرت أيام مرضه لا يوجد بجانبه سوى نيار وأبيه ووزيره يطمئنون عليه بين الحين والآخر..
وحين تم شفاءه بحمد الله دلفت والدته عليه بحجة الاطمئنان عليه، قابلها بالسخرية أنها تذكرته الآن!
فزفرت ببرود ولامبالاة واقتربت منه تمسكه من كتفيه تقول بجمود وقسوة :
-"هل ارتفاع ضئيل في الحرارة يفعل بك كل هذا؟
ماذا ستفعل بعد سنوات قليلة وتتلقى السيوف والرماح من وسط المعركة؟
هل ستقف تستقبلها بصدر رحب أم ستعاركها لتنتصر؟"
ناظرها بصمت وجمود للحظات ثم أزاح يدها عنه وابتعد عنها يجيبها بعبارات أكبر من سنه بمراحل انعقد حاجبيها لها وأصابتها الدهشة أن تخرج تلك الكلمات منه هو ويقولها لها، تنظر لظهره المقابل :
-"معكِ حق أمي، لكن الأمرين لا علاقة بينهما..
فأنا كنت راقدًا في الفراش مصابًا بحُمى شديدة لأكثر من أسبوع.. أسبوع كامل لا وجود لكِ بجانبي!"
التفت لها بجانب جسده رافعًا رأسه بشموخ يبتسم بسخرية مكملًا :
-"هل كنت سأتشرف بزيارتك عندما يأتيكِ خبر موتي؟"
-"إلياس.؟!"
صرخت به بحدة وقسوة أن يتذكر أنها والدته وليست أحدًا آخر، فهز رأسه بضحكة خافتة ولم يلتفت لصراخها وقال :
-"أعلم أنكِ تريديننا أقوياء لا نخاف شيء ولا أحد.. لكن الاطمئنان على ابنك في مرضه وتقويته أن ينهض وتظلين بجانبه هو كامل القوة يا أمي"
اقترب منها أكثر يهمس لها :
-"هناك لحظات نريد فيها والدتنا وليست الملكة"
★★★★★
قاطع حالته التي كلما غرق فيها نسى العالم وما فيه، صوت الحارس يخبره أن ملابسه قد جهزت وأن جاد انصرف ليشرف على الخيل.
أبدل ملابسه الملكية بأخرى عادية.. يؤمن بداخله أن البشر سواء، ولكن الجميع كان يخاله ممسوس وبالأخص أمه، بينما أخوه ينهره بلطف وأبوه بالنهاية يخضع لسلطانها.
بينما حرصت هي بالنهاية ألا تخرج أفكاره ومعتقداته خارج جوفه، وحينما يئست منه ومن حقوق الإنسان التي يعلنها كلما حدث ما يكره تركته لأفكاره بيأس.
أراد دائمًا الهرب بلا عودة، ولكن أخوه من كان يقنعه بالعدول.
آه من ذلك السند الذي تخلى عنه، ولكن لا يستطيع كرهه ولن يستطيع..
فحبه في قلبه أكبر من أي شرارات حقد قد تولدها أمه وأكبر من المُلك والمملكة.
نزل إلى الإسطبل حيث الخيل المجهزة وجد عندها جاد الذي عندما شعر بوجوده استدار وابتسم له بإشراق سرعان ما أنسته همومه يشاركه الابتسام.
بدأت الرحلة من حيث انتهت الأفكار..
بدأت من مؤازرة صديق ولم تنتهِ بعد!
بدأت وبدأ كل شيء لم ولن يكون في الحسبان.
غابة موشحة بالخضرة والأشجار العالية على الجانبين.. أهناك راحة بعد هذه!
يرى هؤلاء الناس من عامة شعبه على طبيعتهم.. من يتدربون على قطع الأخشاب، وآخرون ينقلون الحجارة، وهناك من يقف كحرس لهم ولكنهم منهم، يصدون أي حيوان عنهم لحين ينتهون.
أينعم يوم براحتهم ويستيقظ ليبحث عن قوت يومه فقط!
بئسًا لمن يرى المُلك شيئًا عظيمًا وراحة ممتعة، بل هو الوجه الآخر للعذاب والرعب!
لطفًا لمن حمل راية المسئولية عن قوم ما!
ولكن هو خلاصهم الوحيد.. فعندما يرى كيف يتعذب رعية الممالك الأخرى، يعد نفسه ألف مرة أنه لن تنفذ مآربهم ولو لآخر نفس في صدره.
- "مولاي"
قالها جاد بصوت عالٍ لكي ينتبه من شروده.
- "جاد نحن وحدنا، يمكنك أن تناديني إلياس كما اعتدت..
أحب هذا ولا تضع بيننا الحواجز بكلمة مولاي.. ما أبغضها!!"
هتف به بغضب مصطنع ولكن نظراته فيها شيء من المرح والمكر المحبب الذي دفع الآخر للضحك ملئ شدقيه على تذمره، فللمرة المئة يقسم أنه ليس منهم فناغشه بمرح :
-"ما بك إلياس؟!
أعلم أن القتل صعب وتكره كل هذا وأنك صامد لأجل رعيتك.. ولكن أشعر أن همومك تزداد، ما بك يا صاح؟!
لا بد أن تفرغ ما بداخلك كي تشعر بالراحة"
ساد الصمت بينهما لا يقطعه سوي حفيف أوراق الشجر من حولهما، وأصوات حيوانات تأتي من البعيد.
تنهد إلياس بألم وأردف :
-"لا أعلم.. أخرجت ما بداخلي لك آلاف المرات، ولكني لا أتعافى!
لا أعلم ما هو الحل صدقني؟!
أشعر أن الإناء بداخلي امتلأ بالألم، أخرج ما بداخلي كي أدع فقط مكان للتنفس، سأختنق"
صمت قليلًا كمن يسيطر على انفعالاته التي لا يعلم لها مسمى، أهي غضب، سخط، حزن، أم شوق وحنين؟!
تنفس بعمق ينظر للأمام بشموخ ظاهري يتطلع للطبيعة من حوله :
-"لا أعرف من أين تأتي كل تلك الهموم؟!
لا أجد عائلة بجانبي.. أحزن على ما مضى أم مخططاتهم الجديدة أم ماذا؟"
قاطعه جاد بنبرة حازمة يشوبها بعض الألم، يقطع سيره بوقوفه بخيله أمامه :
-"قلت لك أنت لم تتخطَ ما حدث.. تخطاه وأنساه هذا هو الحل..
إنك لا تستطيع أن تمنع طيور الحزن من التحليق فوقك، ولكنك تستطيع منعها من أن تعشش في رأسك"
صَمت.. والصمت أبلغ من الكلام .
يعلم أن هذا هو الحل ولكن طاقته تنتهي..
حروب ونزاعات ورعية!
والدته تريد ضم مملكته للشمال، تظن بذلك أنها تسترجعه إليها بعد ما فعلته بالماضي.
هل يوجد قلب أقسى من قلبها؟
يريد فقط أن يقف يصرخ ولكنه أبدًا ليس بالضعيف!
ليس معنى أن يمتلك مبادئ وأخلاق ودين أن يكون ضعيفًا.
لكنه بالنهاية بشر، ولكن لا أحد يفهم هذا.. علاقته بصديقه هي الوحيدة التي تشعره بآدميته.
أما جاد.. فكان على الجواد بجانبه يفكر كيف يزيح همومه؟!
يعلم أن صديقه بعد هذه الرحلة سيرتاح ولكن ليست تلك الراحة الأبدية فإنها مؤقتة!
راحة لإزالة الهموم من كتفيه، ودفنها داخل عقله في ركن بعيد لإرهاقه فحسب .
- "إلياس"
ناداه يلتفت إليه بنظرة ليجيبه بخفوت كمن لم يفق من شروده بعد، ليردف طالبًا منه بجدية :
-"أريدك أن تخبرني بما يحوم بداخلك"
-"وهل البوح سوى كلمات تملأ ذلك الإناء الذي ينضح بالألم؟!
فلا هي تخففه، ولا هي تسكنه"
قالها إلياس بصوت يائس يطالع صديقه.
- "ولكن البوح والحديث يعيد طاقتك لا تنكر، فلا تعارض وأخبرني هيا"
رد عليه جاد بحزم فلن يضيع هذه الفرصة يعيد فيها صديقه إلى قوته وشحنها مرة أخرى.
ابتسم إلياس بسخرية يهز رأسه بيأس، بماذا سيخبره؟
كلمات تُعاد دائمًا حتى صارت تثير الملل عن قلوب تخلت تاركة قلبه لا يعلم غير السُهاد والألم!
ليس هناك من يحاول العزف على أوتار الوصال وكأنه لم يكن من العائلة غير أبيه!
رفع رأسه للسماء يهتز فوق خيله المتهادي في سيره بغنج، يفكر هل لتلك القطيعة يومًا أن تموت وتنتهي؟!
تركه جاد ولم يقطع حبل أفكاره، تركه يرتب كلماته ويشحذ ما بقلبه حتى يخرجه بطيب نفس واقتناع عقل.. ليسمعه بعد لحظات يقول :
-"أخبرني جاد هل ندمت أمي على قطيعتي؟
ألم تحن يومًا لضمي؟
ألم تذرف الدمع على فراقي؟"
ضحك ضحكة ألم متنهدًا بعمق كمن يلقي بدواخله لقلب الغابة، وأكمل تساؤله ناظرًا إلى صديقه الذي يستمع إليه برحابة صدر يعلم أنه لا ينتظر منه إجابة:
" أتعلم لا أتذكر لها ضمة على آلام قلبي ولا كلمة تضمد بها جروحه..
آلامي ليس لها من طبيب، فطبيبها أُم تطيبها بأملاح
تشعلها، لهذا محوت وجودها من تلك المكانة وأعلن قلبي الحداد عليها منذ زمن"
أنهى كلماته بنظرات قوية حازمة بينما ظل جاد يطالعه بتأثر واضح على محياه فنظر للطريق بصمت يستعيد رباطة جشأه.
فأكثر ما يكرهه هو شفقة أحد حتى لو كان هو.. ولكن قلبه يؤلمه عليه
ليس شفقةً بل كرهًا لتلك المرأة وحبًا لإلياس.
فكيف يكون هذا الرجل من تلك المرأة الخبيثة؟
استمرا في رحلتهما، نزلا إلى الأسواق بالمملكة و دَون إلياس كل الملاحظات التي سيناقشها مع الوزراء حين عودته.
لا أحد يعرفه هنا ولا يريد الشكوك تزداد حوله، فكان يتفقد أحوال كل بلد يومًا أو يومين، ويستأجران غرفة للمبيت ثم يستأنفان رحلتهما صباحًا.
بعد عشرة أيام في تلك الرحلة التي حاول بها جاد قدر المستطاع التهوين عليه.. يحثه كل ليلة على الحديث قصرًا، ولن ينسى أبدًا تلك الليلة التي دمعت فيها عيناه..
وهل لغيرها هذا التأثير عليه.. محبوبته؟
تلك الجارية التي أحبها وخديجة انتقمت منها.
ليس لشيء سوى أن من ملكت قلب من تحبه من الجواري.
ولأنها جارية اعتقدت أنها امتلكت روحها فأخبرت الملكة رقية بحبهما.
كانت وحيدة والدها وبعد تلك الفضيحة التي شبت، قتلت نفسها ومات والدها غمًا، ومن يومها لم يعد إلياس كما كان.
ويوم التجمع بالقصر هو يوم الحزن، يخاف اقترابه كل عام لما له من أثر على صديقه، لتحديد موعده في اليوم التي انتحرت فيه حبيبته.
تذكر بضع كلمات من خاطرته..
"محبوبة فارقت الروح!!
تركتِ قلبًا محطمًا يوم أعلنتِ استسلامك..
لم تثقي بي.. لم تثقي بقوتي!
كانوا يدفعون السيف في صدري ولم يصل قلبي..
أنتِ وحدك من دفعته بقوة ليخترق القلب المكلوم لفراقها.
نزف للموت ولم يعد بعدك"
★★★★★
اللسان مجرم مسجون خلف قضبان الأسنان
والعقل مسجون بين بلورة الجمجمة
إن أفرجت عنهما عند الغضب أو الضعف
ألقوك في زنزانة الندم والحسرة
بحياة مؤبد شبيهة بالإعدام أصدر حكمها الضمير
جالسة أمام البحيرة تسترجع ما حدث قبل أيام قليلة بعد أن عادت من الشَمال..
عادت بذاكرتها إلى اليوم التالي التي هاجمت فيه الجندي لتكمل رحلتها وكأن شيئًا لم يكن، يبتاعون ما يريدون كي يكملوا أغراض العرس
***********
ذهبن إلى نفس التاجر.. ليقابلهما بصدمة من عودتهما مرة أخرى ووضع دهشته في عبارته الخافتة :
-"أنتن هنا مرة أخرى!!"
كادت أن تجيبه لكن شاهدته ينظر لنقطة ما في الخلف ثم ما لبس أن جذبهن لداخل محله يشير بإصبعه أن يلتزمن الهدوء قبل أن يخرج.
سمعته يتحدث مع شخص ما يسأله قائلًا :
-"أخبرني أيها البائع، ألم تأتِ تلك الفتاة مرة أخرى إلى السوق؟"
ابتلع الرجل ريقه بتوتر خفي ولكن بصوت ثابت أجابه :
-"لا سيدي لم أرها وبالتأكيد هي ليست مجنونة لتأتي إلى هنا ثانيةً!"
أمره الجندي قبل ذهابه قائلًا :
-"إذا أتت ثانيةً أخبرنا.. وإلا فأنت تعرف عقابنا"
أومأ له الرجل الكبير ورجفة تصيب قلبه يعلم جيدًا أساسها لكنه تجاهلها، وبعد أن تأكد من ذهابه عاد إليهن يتنهد براحة؛ فأخذت تنظر له بدهشة وتساؤل من فعلته!
سألته تنظر له بقوة وغموض :
-"لماذا أنقذتنا ولم تسلمنا له؟"
جلس بتعب يستند بمرفقيه على قدمه يتطلع إليها بحزن بادٍ في عينيه، يتنهد قبل أن يقول :
-"لأنني لا أريد أن أصبح جبانًا مرة أخرى!"
عقدت حاجبيها بتساؤل تبادل صديقتها النظرات بعدم فهم فرفعت عائشة كتفيها بجهل لما يحدث معه!
أردف مفسرًا المقصد من كلماته يبسط كفيه أمامه ينظر إليهن بغضب :
-"لقد أعطيتهم ابنتي بيدي هاتين.. أعطيتهم فلذة كبدي!!
من سهرت لتعبها.. من كبرت وعلمت.. شقى حياتي لأجلها ذهب أدراج الرياح عندما أخذتها بنفسي وسلمتها للملكة رقية خاضعًا لقانونهم المجحف ولم أكن من القوة التي تجعلني أقف في وجههم كما فعلتِ أنتِ."
أنهى كلماته بصوت أشبه بالنواح من شدة الألم، يرثي حاله وحال ابنته التي لم يرها لخمس سنوات حتى الآن!!
يبكي وما أقهر دموع الرجال عندما تهبط من الذل والهوان!
مسحها بقوة ثم رفع نظراته إليهن :
-"رأيت ابنتي فيكن، لم أستطع ان أكرر الخطأ مرتين لعلّ هذا يشفع لي عند ابنتي وأراها مرة واحدة قبل موتي!"
انتبه لشهقات عائشة التي سقطت دموعها تضع يدها على فمها، وسارية التي اغرورقت عيناها ليهبط خطين رفيعين على وجنتيها ناظرة له بشفقة وحزن وغضب دفين..
كل مدى وسخطها على تلك القوانين يزداد!
ألا يوجد للظلم حدود!!
تنهدت تسيطر على نفسها تزفر الهواء بقوة دفعةً واحدةً، حاولت التحدث فخرج صوتها خافت :
-"سترى ابنتك مرة أخرى إن شاء الله عماه..
اطمئن.. سيأتي يوم كل هذا سينتهي، والآن علينا الذهاب فيبدو أن وجودنا في هذه المملكة سيسبب متاعب أنتم في غنى عنها"
نهض فجأة يطلب منهما الانتظار قليلًا ثم خطى إلى مكان أشبه بغرفة للتخزين، ليغيب دقائق قليلة ثم يعود ومعه قطعتين من القماش ذو فتحات واسعة، أسود اللون تبين أنهما غطاء للوجه أو ما يسمى النقاب.
نظرت الفتاتان لبعضهما بدهشة قبل أن تنظران إليه بتساؤل أجابهما عليه سريعًا :
-"ضعا هذا الغطاء حتى تستطيعا الخروج من هنا، فمهما كان لا يمكن لأحد من الجنود أن يجبر امرأة على كشف وجهها، فلا ترتدي هذا سوى المرأة المتزوجة"
وبالفعل ارتدين إياه ليخرجا بسلام من محله، وظل ملازمًا لهما حتى عبرتا حدود تلك المملكة لتزفر سارية براحة.
*******
عادت من شرودها تبتسم للأمان التي شعرت به عندما عادت لأحضان والدها مرة أخرى، لم تتركه تلك الليلة بل نامت بين يديه، شعرت أن طاقتها قد استنزفت في تلك الرحلة، وعلمت مدى الحماية والأمان التي تشعر بيها في ذلك البيت الصغير.
انتبهت على صوت الفتاة التي ظهرت برأسها من وسط البحيرة، تقول لها بسعادة جمّة :
-"كفاكِ تفكيرًا وتعالي، الماء منعش"
ضحكت لها وهي تسبح في البحيرة باستمتاع على ظهرها تغمز لها بابتسامة، فآثارها مشهدها لتقف تتخلى عن فستانها فظهر لباسها الداخلي.
ألقت بنفسها في المياه متناسية كل ما بداخلها من ضغوط تحاول الاستمتاع بهذه اللحظة.
كانت تتراشق بالمياه معها بعض الوقت لتخرج مارية تخبرها أنها ستأتي ببعض الاعشاب بالقرب منها.
هبطت بجسدها بالكامل تحت الماء كمن تغسل روحها وتنعش نفسها ثم اندفعت برأسها للخارج شاهقة بقوة ترفع يدها تزيح شعرها للخلف، خرجت بعدها من الماء تبرم خصلاتها تزيح قطرات الماء منها.
ارتدت عباءتها وكادت أن ترتدي قلنسوتها، لكنها سمعت صراخ صديقتها قادم من الخلف، فألقت ملابسها راكضة باتجاهها، ظنت أن أحد الحيوانات هاجمها ، لكن ما رأته فاق توقعاتها.
جندي من جنود الحدود يثبت يديها على الارض محاولًا الاعتداء عليها وتقبيلها!
تسمرت للحظات تستوعب المشهد قبل أن تركض نحوهما تزيحه من فوقها بركلة من قدمها إلى خصره جعلته ينقلب على ظهره مما أعطاها مساحة لانتشال مارية من تحته.
هب واقفًا ينظر إليها بحقد فبحثت عن خنجرها فلم تجده!
تذكرت أنها تركت كل شيء عن البحيرة.
في هذه اللحظات كان إلياس وجاد يسيران بعدما ارتاحا قليلًا بظل الشجرة القريبة من البحيرة، وربطا بها جوادهما بناءً على رغبة إلياس بالسير على الاقدام.
قطع الصمت ينظر لجاد قائلًا :
-"ألم تخبرني أن قريتك بالقرب من هنا؟
لمَ لا نذهب إلى هناك؟"
دهشة أصابته عندما سمع طلبه!
فمهما بَعُد بتفكيره هذه أول مرة يأتي فيها بذكر قريته بل ويريد الذهاب لها!
حثه على السير ضاحكًا كأنه صدقّ الأمر :
-"حسنًا يا صاح لك هذا.. وأيضًا سأعرفك على معلمي والذي له الفضل لما وصلت إليه الآن "
★★★★
مازالت واقفة بوجه الجندي ينظر لها بمكر، قبل أن يقترب منها ببطء وعلى وجهه ابتسامة خبيثة، يحوم بنظراته على جسدها من أعلى لأسفل لتتوقف عند جيدها الظاهر من أسفل عباءتها، سال لعابه بتقزز وأسرع بخطواته ناحيتها يمسك بعضديها يحاول التحرش بها وتقبيلها غصبًا، قاومته وهي تنتفض بقوة لتأتي مارية من الخلف بصخرة ضاربةً إياه على رأسه ليقع مغشيًا عليه.
سقطت سارية على ركبتيها تلتقط أنفاسها بصعوبة تحاول لملمة شتات نفسها وقوتها حتى تستطيع التفكير، طلبت منها أن تأتي بأغراضهما من جانب البحيرة.
عادت بعد لحظات تحمل الأغراض وقد ارتدت عباءتها لكن من شدة توترها نسيت قلنسوتها.. لتترك شعرها حرًا فكل ما يهمها حاليًا الهرب من هنا.
جذبت سارية أمتعتها بقوة تعبث بها بارتباك وعدم تماسك، ابتسمت عندما وجدت سياج خيلها في جعبتها، فأخرجته أمام أنظار صديقتها المندهشة مما تفعله لتسألها بتعجب :
-"ماذا تفعلين سارية؟
هيا لنذهب من هنا قبل أن يعود لوعيه"
نهضت تتفقد السياج وطوله بأعين متوهجة ترمق النائم بغضب..
يتعاملون معهن معاملة الذئاب للنعاج!
ولا يعلمون أنه إذا غضبت النعاج أصبحت أكثر شراسة وقوة!
استدارت لمارية وقالت بنبرة شرسة متوعدة تشير إلى الممتد على الأرض برأسها :
-"سنذهب لكن بعد أن نلقن هذا الحقير درسًا..
هيا أرفعيه معي"
رمشت مارية بأهدابها عدة مرات تحاول استيعاب ما تريد فعله، فانتفضت على صرختها في وجهها ورفعته معها من ذراعيه، تهز رأسها من جنان صديقتها!
ثبتته سارية على جذع الشجرة تطلب منها إمساكه من كتفيه، وشرعت في لف السياج حول جسده والشجرة.
فاق الجندي يحاول فهم ما يحدث له، جحظت عيناه مما يرى وصرخ بصوت عالٍ عندما رآها تثبته في الجذع، فانتفضت مارية للخلف خائفة من شكله وصوته لتكمل سارية عملها دون الالتفات إليه.
وصل صوته لإلياس وجاد اللذان تبادلا الأنظار بدهشة قبل أن يركضا باتجاهه، وصلا إلى مكانه فتسمرا أمام هذا المشهد..
جندي مثبت في جذع شجرة وأمامه فتاتان..
واحدة بشعر أسود تبدو عليها علامات التوتر والخوف، والأخرى بشعر ناري يظهر عليها علامات الشراسة والتوعد تنفض يدها بعدما انتهت من ربط السياج.. والاثنتان يبدو عليهما أثار السباحة من خصلاتهم المبتلة.
أول من فاق من تسمره جاد عندما همس قبل أن يركض:
-"سارية؟"
وصل إليها يتبادل النظر بينها وبين الجندي الذي يستنجد بنظراته أن ينقذه من تلك المجنونة!
سألها بتعجب من فعلتها :
-"ما الذي فعلتيه يا مجنونة؟"
نظرت له ببراءة وقالت بفرحة طفولية
-"جاد.. كيف حالك يا صديقي؟!"
هز رأسه بيأس يفرك وجهه بيده، فاقترب إلياس منهما يتساءل :
-"ما الذي يحدث جاد؟!"
ثم نظر للجندي فرأى خط من الدماء يهبط من رأسه، ليعيد نظره إلى سارية يسألها لكن لون عينيها المبهرتين يراه لأول مرة بحياته أوقفه لحظات قبل أن ينفض رأسه وعاد للامبالاته، والموقف الذي أمامه قائلًا ببرود وتريث يحاول فهم الدافع وراء فعلتهن :
-"ما الذي فعله لكِ كي تفعلي به هذا؟!"
كادت أن تتحدث لكن قاطعتها مارية تجيبه بصوت ساخر:
-"أتريد حقًا أن تعلم!
ببساطة يا سيدي كان يحاول الاعتداء عليّ!"
أنهت كلامها بصوت عالٍ وغاضب تشير بإصبعها للجندي الثائر من وضعه، والمرتعب لوجود رجلين أمامه يخشى أن يقع في فخهما وينتقما منه أو أن يكونا من أقاربهما وقتها حقًا انتهى أمره!
اتشحت عيناه بالغضب القاتم الذي لم تنتبه له مارية ولا سارية المشغولة بتهدئتها.. ولكن انتبه له جاد فسبّ في سره وحاول إثناءه عما هو مقدم عليه، يحاول تنبيهه أنه هنا ليس بصفته الملك!
انشغل الرجلان بالنظرات بعيدًا عن الفتاتين.. فجاد محاولاته كلها لا تفيد، يعرف كم أن الموقف أيقظ شياطينه، ولو أنه حصد رؤوس جميع الزناة وناقصي الرجولة لن يهدأ ولن يطفئ ولو شعرة من نيرانه.
أما إلياس فنيران اشتعلت بين ثنايا قلبه!!
يعلم أن مملكته كما فيها الجيد يوجد السيء، لكن أن يحدث هذا أمامه أيقظت الوحش الكامن بداخله!
يكره العنف والدماء إذا تعلق الأمر بقضية ما في مملكته!
لكن لو كان الأمر دفاعًا عن الشرف ولو أقرب الأقربين لن يتردد.
عقاب الجندي في ذمته ولو لآخر نفس يتردد في صدره!!
هدأت مارية وسارية استفاقت مما اعترى صديقتها على صدمة أنهما بثياب خفيفة وجزء من جيدها ظاهر.
استغلت انشغال الرجلين لترتدي قلنسوتها، بينما مارية رحلت في عالم آخر، فقلبها الآن مخطوف بـ جاد!
من رفضت الجميع تقع أسيرة تلك البشرة البرونزية التي تلتمع تحت أشعة الشمس الخجولة من بين أوراق أشجار الغابة المتشابكة.
عيناه بلون القهوة متدرجة في اللون، يرتدي عمامة باللون الأسود، وحاجبان معقودان على الدوام.. أنف مستقيم وشارب يعلو شفاه غليظة!!
جسد محارب مليء بالرجولة القاتلة اضطرب لها قلبها!
كانت تحدث نفسها وقبل أن تهبط بعينيها تستكشفه وكزتها سارية بجانبها، يبدو أنها لم تسمعها حين نادتها:
-"ما بالك يا فتاة؟
المملكة كلها سمعتني وأنتِ لا؟
لماذا تحدقين بجاد بتلك الطريقة؟!"
سألتها بهمس لكنها لم تجبها وأخذت تردد اسمه بقلبها قبل شفتيها.. لكن عندما نظرت له بأعين واعية وجدته يحدق فيها بحاجبين مرفوعين بعد أن انتبه لتحديقها به، وسمع سارية حينما نادتها ولم ترد عليها.
يا لإحراجها..!!
تمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها والصدمة الكبرى من نصيبها!
مازالت بشعرها المبتل وجيدها مكشوف للعنان!
شهقت بقوة ونزعت القلنسوة من يدي صديقتها لارتدائها.
عاد جاد إلى سارية التي تقف بلامبالاة وكأنها لم تفعل شيئًا، حاول أن يثنيها عن غضبها بهدوء اندهش له إلياس من تلك الفتاة وما علاقتها بجاد لكي يتعامل معها بأريحية؟
يبدو أن هناك المزيد عن صديقه سيعرفه عما قريب.
سمعه يقول مشيرًا للجندي :
-"سارية أنزليه وأنا سآخذ لكِ حقك، تعلمين أنني قادر على ذلك"
نظرت له بتفكير مصطنع ترفع حاجبًا واحدًا، تزم شفتيها قبل أن تقول :
-"أعلم أنك لن تخذلني، ولكني لن أحل وثاقه"
نظر لها بنفاذ صبر وكاد أن يتقدم ليحل السياج من حوله لكنها بخفة رفعت جذع شجرة ملقى على الأرض ووقفت بينه وبين الجندي، تشهره في وجهه بمرح تهز رأسها ببطء جعل خصلاتها تلتصق بجبهتها ووجهها :
-"حاول أن تتقدم على فعلها وسأعلمك دروسًا جديدة لم تلتحق بها مع بدر الدين منذ ذهابك"
رفع حاجبه بدهشة ممزوجة بإعجاب للفتاة التي اشتاق لها، وأوشك على أخذ العصا منها لكن سبقه إلياس باختطافها منها بحركة محارب ماهرة ونظر لها بقوة يشاور بإصبعه بينها وبين أغراضها :
-"ارفعي أغراضك وأذهبي أنتِ وصديقتك من هنا، وأتركي هذا الشيء لنا"
التفت جاد أيضًا إلى مارية الواقفة بهدوء متمسكة بطرفي عباءتها :
هيا مارية خذيها من هنا واذهبا الآن!"
أومأت له عدة مرات ونظرت لها تحاول إرجاعها عما يدور في عقلها :
-"هيا سارية، طالما جاد هنا فلا قلق"
لم تلتفت لها وظلت تتبادل النظرات القوية مع إلياس تتنفس بقوة وعنف..
كادت أن تعترض لكن نظراته الحادة جعلتها تصمت، يشجعها جاد على الذهاب فرمقت الجندي باشمئزاز قبل أن ترفع أغراضها وجذبت مارية لتذهب.
التفتت له أثناء سيرها لتجده يتابعها بنظراته الغامضة يشير لها بالابتعاد، فأشاحت برأسها بقوة وأسرعت بخطواتها تاركة ثلاثتهم في الغابة سويًا.
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤