تُبدي الغرام وأهل العشق تكتمُه
وتدّعيه جِدالًا من يُسلِّمه
ما هكذا الحب يا من ليس يفهمه
خلِّ الغرام لصب دمعُه دمُه
حيران توجدُه الذكرى وتعدمُه
دعْ قلبَه في اشتغالٍ من تقلبُّه
ولبَّه في اشتعالٍ من تلهبُّه
"منقول"أتى الغروب، وبدأت الشمس في الغوص خلف الجبال بخجل معلنة عن نهاية النهار، تلونت السماء بخطوط الشفق الأحمر التي تخبرنا بكم الشوق الذي تحمله الشمس!
شوق لا يقل عن الذي يملأ قلبه لها!
كالشمس هي.. تجذبه ببريقها وناريتها في لحظات إشراقها، تسحره في غروبها في صورة صاغتها يد الرحمن في إبداع!
أخذت خيوط الظلام في التسلل إلى الأرض وانسدل الستار الأسود.. فالليل آية الله التي تحمل بين طيّاتها بلسم الشفاء للقلوب المجروحة بلوعة البعد عنه.
حاول بقدر الإمكان أن يعجل من الانتهاء من الاجتماع الذي طال مع وزراءه يخبروه بكافة ما حدث في المملكة وأحوال الرعية في غيابه.
جسده في المجلس لكن عقله مع النارية القابعة في جناحها والتي لم يستطع الانفراد بها طوال أيام الاحتفال.
حاول التركيز مع حديثهم كالسابق لكنه لم يستطع المكوث أكثر فاستقام آمرًا :
-"لنكمل في وقت لاحق، فأنا إلى حد ما اطمأن قلبي على أحوال المملكة"
ثم التفت إلى أمين خزينته قائلًا :
-"أريد جميع المدونات لما تم إنفاقه طوال هذه المدة وفيما أُنفق"
أومأ الرجل بطاعة وابتسامة على محياه قبل أن ينصرف.
مر أولًا على جناحه يبدل ثيابه بأخرى أكثر راحة، تخلى عن عمامته الملكية ليخرج بعدها قاصدًا إياها.
دلف وأغلق الباب خلفه يتطلع حوله باحثًا عنها، دار بعينيه في الأرجاء بحاجبين معقودين يفكر أين ذهبت؟!
أيمكن أن تكون مع وسام تتفقد القصر؟
أصابه الجذع واليأس وكاد أن يعود أدراجه للخارج، ألا أن صوت خطوات رقيقة تكاد تسمع أثارت حفيظته، ليراها تظهر من خلف الستار المخملي، برداء قطني أبيض يصل لأسفل ركبتيها، ذو أكمام قصيرة بالكاد تصل لمرفقيها، ممسكة بمنشفة صغيرة تجفف خصلاتها المبللة بسخاء.
لم تلحظْ وجوده يتأمل هيئتها المغرية بجسد متصلب، أنفاس ثقيلة وأعين ازداد سواد حدقتيها من فرط المشاعر التي تقطر منها.
حاول الإلمام بشتات نفسه حتى لا تضطرب من هوج مشاعره الشبيهة بالموج، اقترب يحتضنها بغتةً من الخلف، فانتفض جسدها من المفاجأة تضغط على المنشفة بقوة وأنفاسها تثقل، ليطمئنها بصوته الرخيم ضاغطًا على عضديها برفق :
-"أهدأي حبيبتي، هذا أنا"
زفرت باطمئنان، ثم رفعت عينيها تنظر له في المرآة.. رأسه مستكين على كتفها، أنفاسه الحارة تضرب عنقها جعلتها تبتلع ريقها ببطء وترقب، لم يهمها هيئته بحجم اهتمامها بنظرته السوداء التي تلوح في عينيه، نظرة جعلت القابع بين طيات أضلعها يدوي بصخب عندما التقطت ما ينوي من حدقتيه.
اسدلت عينيها بخدر و يداه تسبح على طول ذراعها ببطء مميت، شفتاه بدأت تقبل كتفها، أنفاسه الهوجاء تصل مسامع أذنها، احتضانه لها زادها حرارة، توجست الخطر فحاولت التملص منه بخجل تهمس بصوت متحشرج متقطع :
-"إلياس.. إلياس أنا.. لا....."
لم تكمل كلماتها وهي تجده يجذبها من خصرها بذراعه اليسرى، ترتطم بجسدها في صدره، فتأوهت بدهشة، لا تستطيع المجابهة ضد مشاعره.
نظر للمرآة يراها بأحضانه تتنفس بهوجاء، تنتفض كل حين مقشعرة.
انخفض يقبل كتفها و حدثها بهمس :
-"أفتحي عيناكِ سارية وأنظري إليّ.. أريد أن أراهما!
أريد الشعور بما يعتمر خلجاتك فيهما!"
فتحتهما رويدًا، فوجدت صورتهما أمامها كيف تبدو بأحضانه؟!
وجهه، شعره المتناثر، أنفاسه و صوته.. كل شيء كان كأول مرة لها.
أخبرها بصوته المختلج بعشقه لها والذي ما عاد بإمكانه إخفائه أكثر :
-"ليس هناك شيء أحب على قلبي من رؤيتك هكذا بين يدي.. عاشقة"
تنفس بقوة يزفر أنفاسه بتأوه عاشق وأكمل :
-"أرى العشق في عينيكِ سارية.. أما آن الأوان لينطق بها لسانك؟"
ظلّت تنظر إليه تبتلع لعابها بروية، معه كل الحق فهي قابعة في حبه.. لا تدرى متى وكيف؟
ما عادت قادرة على تعذيب نفسها وتعذيبه بإخفاء حبها خاصةً بعد ما فعله أمام شعبه وتصريحه أنها من ملكت قلبه، ووعده أنها ستكون زوجته الأولى والأخيرة.
أغمضت عينيها للحظات قبل أن تتحرك شفتيها بهمس خجول :
-"لا أعلم كيف ومتى حدث؟
لكن كل ما أود قوله أنني لا أريد لهذا الزواج أن ينتهي، أريده أن يكتمل للأبد.. شعور الأمان الذي أشعر به معك هو ما أشعره مع أبي، تخطيت مراحل الثقة والراحة"
صمتت تستجمع شجاعتها فشعرت به يقبض على خصرها يحثها وحركته بها نوع من اللهفة لتنظر لانعكاسه في المرآة ترمش عدة مرات وقالت :
-"القلب القابع خلف الأضلع يخفق لك فقط إلياس.
نعم أنا.. أنا أحبك"
أغمضت عينيها بخجل تشهق بقوة عندما شعرت به كيف هاجمها على الفور بهدير أنفاسه الملتهبة يهمس بشغف :
-"أنا أحبك سارية، لقد تمكنتِ من القلب فأصبح تائهًا في محراب عشقك.. جعلتِ الخافق ينبض من جديد بالحب بعد أن ظننت أنه منبوذ من العشق"
كانت قد أغلقت عينيها بخجل، و ما أن صرح برغبته حتى استفاقت بخشية مما يريده :
-"أحبك و أريدك الآن زوجة فما عاد للانتظار من مكان بيننا"
ورآها رأى خوفها يقطر من عينيها المتباينة، وأنفاسها اضطربت، فأدارها تواجهه يمسك بوجهها بين كفيه يخبرها بابتسامة ونظرات مشبعة بالاطمئنان والثقة :
-"لا تخشِ شيئًا طالما أنتِ معي سارية.. أنا أحبك، كوني متأكدة أنني لن أسمح لشيء أن يؤذيكِ"
هزت رأسها بموافقة خجلة تعض على شفتها السفلى فتناثرت خصلات شعرها تقطر ماءً، اقترب ببطء مميت يمحي المسافة بينهما وهي تتأمل هذا الاقتراب بتوتر، يمسك برقبتها بيمينه، وبالأخرى يزيح خصلاتها خلف أذنها، يقربها ليلتصق جسدها به فيشعر بكل شيء بها.
رفع وجهه ببسمة سعيدة وهمس لها بحرارة :
-"مبارك لنا سارية، مبارك عليّ أنتِ"
ثم اختطفها في موج بحاره الثائرة.. أقبل عليها يُقْبلها بنهم، جائع لها.
حملها بين ذراعيه وعينيه تغوص في عينيها يسير تجاه الفراش، فتناثرت ضحكاتها بصخب عندما تعثر في طرف السجاد ليسقطا فوق الفراش وهو فوقها لتشهق وضحكاتها تزداد فتركت يداه و تمسكت بمقدمة ثوبها بعفوية يناظرها بشراسة.
قهقهت بضحك حين نظر للسجاد بغيظ طفولي ثم رمقها بمكر يخبرها بهمس وقح :
-"تضحكين أليس كذلك!"
طالعته بشقاوة لترفع يدها تتلمس لحيته بشعيراتها الصغيرة تغلغل أناملها بينها، فتنفس بعمق وحرارته تشتعل من حركتها ثم انحنى يقبل عنقها مرة أخرى بنهم أكبر.
يحتضنها بشوق و لهفة حتى أيقن أنه لن يستطيع أن يتخيل حياته بدونها.
أغلقا أعينهم و سبحا في عناق ملحمي يلفه العشق والشغف أشبع كلاهما.. واستكانا.
مر الوقت وكان يحرك أنامله على كتفها بحنان فترفع وجهها تقبله قبلة صغيرة أسفل فكه، فضم جسدها إليه باعتصار، مواجه وجهها يلمسه بكفه فيسألها بهمس يغلفه الحنان :
-"أنتِ بخير؟!"
أومأت بزمجرة هريرة صغيرة تغوص في أحضانه مغمضة العين غير قادرة على النطق، فأعاد خصلاتها المتناثرة على وجهها إلى خلف أذنها يشاكسها قائلًا وابتسامة رضا على محياه :
-"لماذا لا أسمعك الآن وطوال الفترة الماضية كاد يصيبني الصمم من شجارك"
عضت على شفتيها بخجل ولم ترفع رأسها له تجيبه بصوتها المتقطع :
-"أنا بخير عزيزي"
قهقه يحتضنها بين يديه يهمس لها بكلمات اشتعلت لها وجنتيها، فضربته بقبضتها على صدره ليتأوه بزيف يقول :
-"حسنًا سأصمت"
صمت يعقد بين حاجبيه فانتبهت إلى سكوته لترفع عينها له بتساؤل فأعاد نظره إليها يخبرها بجدية مزيفة فقط لإثارة غيرتها :
-"أفكر فيما أقحمت نفسي والجواري في قصري حرمتهن على نفسي؟!"
شهقت بقوة وعينيها تجحظ بصدمة من وقاحته التي تكتشفها لأول مرة هذه الليلة وقد تخلى عن وقاره وجديته، لكمته في بطنه ثلاث لكمات ليترك أحضانها متألمًا بزيف ضاحك :
-"على رسلك قليلًا؟!"
صرخت به وقد استحال وجهها للون الأحمر من فرط خجلها و كانت حرجة حد الغضب :
-"اقترب من إحداهن وسأقتلك بدم بارد..
ثم منذ متى وأنت بهذه الوقاحة؟"
تعالت ضحكاته وعاد يسكن أحضانها مرة أخرى بدفء، يقول بصوت حمل كل معاني الحب :
-"كل ما بي أنني أحبك، وصرتِ زوجتي قولًا و فعلًا، فهل تبخلين عليّ بفرح بعد كل هذا الجفاء؟!"
رفعت نظراتها لتجده يحدق بها بخبث فضيقت عينيها بتفكير في مغزى هذا السؤال وقالت بهمس مهددة إياه بمرح :
-"أبعد نظرتك هذه عن عينيك إلياس وإلا قتلتك"
دفن وجهه في عنقها ضاحكًا بسعادة لا حد لها قبل أن يرفع رأسه مقبلًا جبينها ويضمها بحنان.
قلبه ينطق قبل لسانه بشكر الله على إهدائه مثل هذه الفتاة في حياته.
********
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤