قد يكون اللقاء قريبًا من يدري؟
لكن هناك طيف يحضرني كل يوم لا أعلم هويته
هل هو البعد أم استحالة اللقاء؟
مر شهر ومازالت الأحوال كما هي..
نيار لا يتعامل مع ليان بالرغم من محاولاتها الكثيرة في التحدث معه والطلب في رؤيته لكنه يرفض.
إلياس كان يطمئن عليها عن طريق وسام التي علمت بخبر حملها وفرحت كثيرًا، لكنه أخبرها ألا يعلم أحد عن الأمر لإبعاد الخطر عنها.
جالسة بالشرفة الواسعة حولها العديد من الجاريات كل منهما منشغلة في شيء ما، الستائر الشفافة ترفرف من حولهن بفعل النسيم اللطيف، الحمام الأبيض على الحافة يعطيها مظهرًا جميلًا.
جلست وسام بجانبها تناولتها كأسًا من الحليب لتغذيتها فهزت رأسها بنفي لكنها أصرت أن تشربه :
-"سارية هذا لا يصح يجب أن تشربيه"
نظرت لها بنفاذ صبر وأخذت الكأس تتجرعه على دفعة واحدة ثم دفعته لها وهي تناظرها بشزر ابتسمت لها الأخرى لأنها تعلم السبب، فأعطت الكأس لإحدى الفتيات وأحاطتها هامسة لها :
-"أعلم أنكِ اشتقتِ له، وهو الآخر أرى الشوق في عينيه عندما يسألني عن أحوالك لكن كبريائه يمنعه"
نظرت لها بصمت مبتسمة بحزن وظلت تمسد على ظهر الحمامة الساكنة في كفها، ثم أطلقت سراحها في الهواء ووقفت تنظر إلى الحديقة بالأسفل لبعض الوقت حتى رأته يأتي من ساحة التدريب ببنطاله الأسود الفضفاض وقميصه الأبيض المجرد من الأكمام تظهر ذراعيه تلمعان تحت أشعة الشمس بسبب حبيبات العرق.
وقف يتحدث مع جاد يرفع أنامله بين الحين والآخر يعيد خصلاته المبللة للخلف، رأته يلتفت يشير له على شيء ما رافعًا عينيه فجأة تجاهها فرأها تقف تطالعه بصمت وخصلاتها تغطي نصف وجهها بفعل الهواء، تتألق بثوب أصفر ناسبها كثيرًا بعد ازدياد وزنها بفعل حملها.. اشتاقت له كثيرًا وهو لا يقل اشتياقًا عنها!
شملها بنظراته كأنه يطمئن عليها فرأت حنانه الفطري يقطر من نظراته سرعان ما تحول إلى جمود!
ما فعلته جعل غضبه وكبريائه يقفان عائقًا بينهما وعليها أن تجد حلًا لهذا الأمر.. لم تندم للحظة على ما فعلته وإن عاد الزمن سوف تعيد الكرّة مرة أخرى.
تنهدت بعمق ولم تحد بنظرها عنه لكنه قطع حديث العيون معها والتفت إلى جاد الذي طالعه بمكر وحاجب مرفوع :
-"لمَ أنت قاسي هكذا إلياس؟
أنت أكثر من يعلم سارية وجنونها، فماذا كنت تتوقع بأقل مما فعلته وهي تراك هكذا؟!"
طالعه باشتعال وكاد أن يصب غضبه عليه فرفع جاد كفيه أمامه ليهدأ مبتسمًا :
-"أهدأ يا رجل، أخبرني ماذا ستفعل مع كهرمان؟!"
اسودت عيني إلياس وتغيرت ملامحه إلى الشراسة لكن نبرته جاءت باردة وغامضة :
-"لقد تخطى كافة حدوده وحان الوقت لوضع نهاية له، أريد منك أن تخبر نيار أنني أريد الاجتماع به"
أومأ له بطاعة وهو يراه يتجه للداخل، فرفع نظراته لسارية التي تتبعه بنظراتها حتى اختفى ثم وجهتها له، هز رأسه مبتسمًا علامة أن كل شيء سيصبح على ما يرام لتبادله الابتسامة قبل أن تلتفت وتذهب إلى الداخل.
★★★
وفي جناح الآخر يقف أمام مرآته يعدل من هندامه قبل أن يخرج لملاقاة أخيه، انحنى يلتقط عمامته لتتجمد يده عليها وتكفهر ملامحه عندما شعر بطيفها ورائحتها التي حملها الهواء من حوله.
لم يلتفت لها بل لم يبدِ اهتمامًا بوجودها ليلقى نظرة عابرة عليها وقال بجمود :
-"لم آذن لكِ بالدخول إلى جناحي"
وصله تنهيدتها العميقة ثم قالت مشيرة للباب :
-"لم يمنعني حارسك"
لاحظت اهتزاز كتفيه فعلمت أنه ضحك بسخرية، ثم رفع ذراعيه يضع العمامة فوق رأسه :
-"كيف سيمنعك؟
هذه إهانة لكِ لن أقبل بها يا جلالة الملكة"
زفرت بهدوء حاولت التحلي به تفرك جبهتها بأناملها ثم نظرت لانعكاس وجهه في المرآة عله ينظر إليها :
-"طال عقابك نيار، شهر بأكمله لم أرك فيه؟
هل هُنت عليك لهذه الدرجة؟"
خفت صوتها في نهاية حديثها وهي تشعر بغصة بكاء ترتفع في حلقها، أغمض عينيه بشدة يسيطر على نفسه كي لا يضمها لأحضانه.
خطؤها أكبر من خطأ سارية!
سارية مندفعة، متهورة، إن فعلت أقل من هذا سيكون هنا اللوم.. لكن هي؟
متى كانت بهذا التهور والغباء؟
هي العاقلة الهادئة، المعروفة بحكمتها وقدرتها على تيسير الأمور، كيف يصدر عنها هذا الأمر؟
كز على أسنانه بقوة وعيناه تُغشى بنيران الغضب والغيرة كلما يتذكر أمر رغبة كهرمان من الزواج منها!
تعلم من هو.. أرادها زوجة ورفضت عندما علمت بخِسّته، ثم تذهب له بقدمها؟
اضطرب قلبها وانتفض جسدها بخفوت عندما التفت لها بنظراته الحارقة، ملامحه السوداء فعلمت أنه لم يتجاوز الأمر بعد!
اقترب منها حتى التصق بها، حام بنظراته على وجهها لثواني ليقرع قلبه بالاشتياق لكن العقل يخرسه بعنف، انحنى إلى أذنها هامسًا :
-"لو كان الأمر يقتصر على ذهابك برفقة سارية لربما كنت تناسيته وسامحتك..
لكنك ألغيتِ وجودي، ضربتِ بغضبي وغيرتي عرض الحائط وكأن لا وجود لي"
شعر بهزة رأسها الضعيفة رافضة ما يقوله هامسة باسمه، لكنه لم يعطها فرصة التحدث وأكمل بقسوة :
-"ذهبتِ إلى من أرادك زوجة، لتتزوجي بعدها من عدوه.."
رفع رأسه مبتسمًا بسخرية، وأنامله تعيد خصلاتها خلف أذنها يتأمل عينيها اللامعتين بالدموع، ثم لمس جانب جبينها بظاهر كفه :
-"سأترك لتفكيرك العاقل ونظرتك الحكيمة دومًا أن يتخيلا ماذا كان بوسعه أن يفعل بكِ؟
وعلى الرغم أنكِ كنتِ بين يديه تركك تعودين.. لماذا؟"
لم يقل أي كلمة أخرى وانطلق للخارج تاركًا إياها تنظر في الفراغ الذي تركه تفكر في حديثه بدموع تركت لها العنان على وجنتيها.
★★★★
إن اللئيم على حقارة قدره
لَينال من عِرض الكريم منالًا
يؤذيه وهو بطبعه متنزه عنه
فيقصر رفعة وجلالًا
كالكلب يُقلق بالنباح ضبارما
والكبر يمنعه عليه مصالًا
"مقتبس"
دلفت رقية إلى جناح زوجها لتجده جالسًا يقرأ كتابًا، فجلست بجانبه تهز قدمها بغضب وعلامات التفكير بادية على وجهها، طالعها بجبين متغضن وهمس لنفسه :
-"أعان الله من يشغل تفكيرك يا رقية"
مرت دقائق أخرى ومازالت على حالها تزفر وتتنهد غاضبة فوضع الكتاب من يده ورفع رأسه إليها متسائلًا :
-"أراكِ ستشتعلين من الغضب، ما الأمر؟!"
ناظرته بشراسة والغضب يلوح في حدقتيها تهتف من بين أسنانها :
-"تسألني ما الأمر؟
هناك ما يحدث في القصر لا أعلم ما هو.. اختفاء ليان وسارية المفاجئ كل منهما في جناحها، على الرغم أنني أرى ليان بين الحين والآخر في الحرمليك أو الحديقة لكن مكوث تلك الفتاة في جناحها يثير دهشتي!"
تنهد تقي الدين من تصرفاتها وانشغال عقلها بزوجات ولديهما فقط فقال بهدوء :
-"رقية كفاكِ تفكيرًا، يفعلن ما يشئن لا دخل لكِ"
نهضت بعنفوان وظلت تسير في الجناح ذهابًا وجيئة تفرك كفيها أمامها بعصبية هاتفة :
-"لست أنا من تجلس ولا تدري بما يحدث حولها.. إن كان أبنائي تزوجا فهذا لا يعني أنهن أصبحن ملكات، فلا توجد ملكة غيري هنا وكلتاهما تخضع لأوامري فقط..
أنا لم أفعل كل هذا لتأتي هاتان ويعزلاني من مكانتي!!"
تطلع إليها من مجلسه يتأملها، يشعر أنه لا يري إنسانة أمامه بل يراها شيطانة السحر الأسود!
لأول مرة يرى وجهها الحقيقي.. وجه الجشع والسلطة!
يعلم أنها لم تعرف للحب طريقًا على الإطلاق.. لم تستطع أن تكون زوجة.. فشلت كأم وامرأة، لكنها نجحت في جشعها والوصول لما تريده، يكفي أنها فعلت ما لم يستطع أحد فعله وفرقت بينه وبين صديق عمره بدر الدين!
نهض من مكانه يقف أمامها يطالعها من أعلى تاجها الذهبي والمرصع بالألماس هبوطًا على ردائها الأحمر المليء بالفصوص الماسية، ابتسم بسخرية على ما اقترفه في حق نفسه :
-"الآن فقط أدركت الشبه بينك وبين الساحرات"
فغرت فاها واستدارت له برأسها بعينين جاحظتين بدهشة مما يقوله ليكمل غير عابئ بها :
-"لكن كساحرات السحر الأسود تحول كل جميل إلى غبار أسود نتن، تتمتع بالوجه الحسن لكنه قناع يخفي خلفه خبث ومكر الذئاب!!
يمتلكن فم ينطق كلمات لطاف، لكن بين حروفها يكمن سمّ الأفاعي"
شهقت بغضب من حديثه معها بهذه الطريقة لتشتعل النيران بداخلها وهتفت باعتراض :
-"ما الذي تتحدث عنه؟!"
رفع كفه أمام وجهها لتصمت فنظرت إليه بدهشة، هتف بحدة ونبرة تسمعها منه للمرة الأولى :
-"صوتك لا يرتفع في حضوري رقية، لا تنسي من أنتِ عندما تقفين أمامي"
اقترب منها تتطلع إليه ببلاهة تحاول استيعاب نبرته:
-"هل تتذكرين من أنتِ وكيف كنتِ، أم تريدين مني تذكيرك؟"
هبط لأذنها يهمس باشمئزاز :
-"جارية يا رقية.. جارية ماهرة استطاعت أن تصل للسلطة.. جارية استطاعت التفريق بين أصدقاء العمر لمجرد أنه رفض حبها"
رجعت للخلف بصدمة وشهقة عالية من معرفته بالأمر، ليضحك بصوت عالٍ ساخر من ردة فعلها ودار حولها هامسًا :
-"هل كنتِ تظنين أنني غبي كي لا ألاحظ عشقكِ لبدر الدين؟
نعم فأنا الغبي لأنني وافقتك في كل ما قلتيه، والنتيجة ماذا؟!
غياب رفيق دربي عشرون عامًا"
وقف أمامها يتطلع لها بسخرية وأكمل :
-"عثتِ فسادًا في حياة كل من حولك، دمرتِ حياتي والمملكة، حتى أبنائك لم يسلموا من شرك.. بسببك تفرقوا لخمسة أعوام.. بسبب غرورك وجشعك"
تسارعت أنفاسها وتحولت نظراتها إلى الاشتعال والغضب، تشعر بأنه يكسر شوكتها وأنها تفقد السيطرة على الوضع فصرخت بانفعال :
-"نعم معك حق، لكن أبنائي أنا أعلم مصلحتهما، فهل كنت تظنني أنني سأقبل بجارية زوجة لابني؟!
نعم أنا كنت جارية، وما تسميه جشع فهو طموح، ولا تنكر أنكَ أحببتني أيها الملك!"
قالت جملتها الأخيرة بسخرية، لينظر لها بصمت فأكملت بكره وحقد دفين جعل نبرتها تخرج كفحيح الأفاعي :
-"بدر الدين يستحق كل ما فعلته به.. يستحق أن يتجرد من كل شيء لرفضه لي!
لكن كان يجب أن أحرق قلبه أكثر عندما رأيت الرضيعة وعلمت أنها ابنته، كان عليّ التخلص منها ليفكر ألف مرة قبل أن يرفض شيء مني..
والآن بعد كل تلك السنوات يأتي وابنته يشاركانني كل شيء!"
تخطته تنظر في الفراغ بنظرات سوداء وملامح تحمل الحقد بداخلها تجاه سارية وأكملت بصوت كريه :
-"ابنته وقفت أمامي تتحداني، تحدثت معي باحتقار وعدم احترام.. مكانتها كانت جارية لدي لكنها أخذت ابني وأصبحت ملكة؟!"
صرخ بها بحدة ونبرة خشنة فاستدارت له بقوة :
-"كفاكِ خلق أوهام وتصديقها رقية.. سارية لم تتعامل معكِ كما تقولين بل معاملتك المتكبرة معها من دفعها إلى ذلك"
ضحك بسخرية وأشار بيده إليها قائلًا :
-"لا أعلم ماذا كنتِ تظنين أن تتعامل معكِ ابنة بدر الدين عندما توجهين الإهانة لها بل ومحاولاتك لقتلها؟!
ولا تقنعين نفسك أن إلياس كان في كنفك وجاءت تنتشله من بين يديكِ.. فلا فائدة من تذكيرك بالحال بينك وبين ولدك من قبل أن تظهر"
ارتفع صدرها بقوة بتنهيدة عالية تكبح سيطرتها على غضبها، لكن ما قاله الآن لم يزد الوضع غير سوءً :
-"كلتاكما كانت مجرد فتاة عادية، لكن ليصح القول فإن سارية ذات شأن أعلى منكِ رقية، هي ابنة كبير وزراء المملكة بينما أنتِ جارية..
أنتما الاثنتان وصلتما إلى لقب الملكة لكن بردود فعل مختلفة..
أنتِ ما زلتِ جشعة لا تستطيعين تحمل فكرة أنه لم يعد لديكِ سلطة.. أما هي لم يُشكَل أي فارق معها أنها أصبحت ملكة أم لا ، مازالت كما هي ببساطتها ونفسها الطيبة"
طالعته بجمود وصمت، أبعد ما توقعته أنه يعقد مقارنة بينهما تراه يهز رأسه بيأس وعدم فائدة قبل أن يخرج من جناحه، تاركًا إياها تحدق في مكان وقوفه بأعين فارغة، تشد على أكمامها بقبضتيها وكادت أظافرها أن تخترق قماش ثوبها، فأمسكت الكوب النحاسي الموضوع على الطاولة بجانبها تقذفه بعنف في الحائط وزمجرة قوية صدحت منها تظهر مدى الكره الدفين في صدرها، بداخلها تقسم أيمان الله أن تتخلص منها في أقرب فرصة.
******
الغدر كالموت لا يسمح بالفوارق
دلو الخيانة يملأ بالحقد والكره
ومتى فاض لا عزاء للضحايا
دفعت باب جناحها بقوة ووجهها شديد الاحمرار ثم ألقت جسدها على الأريكة وعيناها جاحظتان في الفراغ، تفكر في كلمات زوجها التي مازالت ترن في أذنها، همست لنفسها بعدم تصديق :
-"أنا تقارنني بها!
تتحدث معي بتلك الطريقة بسبب فتاة لن ترتقي إلى ما وصلت له!"
نهضت واضعة يد في خصرها والأخرى على جبهتها تفكر فيما ستفعله وتابعت حديثها من بين أسنانها :
-"ماذا أفعل معكِ؟
كل خططي معكِ تفشل، أنقذكِ إلياس من حادثة التسمم بل لن أنسى اليوم الذي قذفني به بالشراب المسموم بتهديد..
وبدلًا من أن يأتي السهم في قلبك أخذه ابني فكاد أن يفقد حياته بسببك، لابد من التخلص منكِ سارية حتى يرتاح قلبي"
رفعت رأسها لأعلى غارقة في التفكير حتى سمعت صوت يأتي من الحديقة المطل عليها جناحها فخرجت لشرفتها تتفقد ما يحدث!
رأتها تسير برفقة وسام والحراس ينحنون لها احترامًا بابتسامة على وجوههم فتردها لهم بتواضع، الجميع يحييها بنبرة تقدير.
تمسكت بحافة الشرفة بقوة تتابعها بنظرتها الشرسة، فلو كانت تقتل لكانت في عداد الموتى من سهام نظراتها!
سيطر شيطانها عليها فلم تعد ترى غير التخلص منها، فاندفعت إلى الداخل تهتف على خادمتها بقوة للمثول أمامها فأتت مهرولة تضم يدها أمامها تنحني قائلة بخفوت :
-"أمرك مولاتي"
ظلت صامتة بضعة لحظات قبل أن تلمع عيناها بنظرة شيطانية، فالتفتت إليها تطالعها من أعلى لأسفل ثم قالت بغموض :
-"أريد أن تأتي لي برداء من ملابس الخدم وخنجر حاد النصل"
اضطربت من نظرات ملكتها التي تنم على أنها تنوي شرًا، وأن هناك كارثة سوف تحدث لا محالة.. ابتلعت بصعوبة تتساءل بقلق :
-"عذرًا في سؤالي، لكن لماذا تريدين هذه الأشياء؟!"
رفعت رأسها بشموخ وتخطتها تحدق في الفراغ تتنفس بهدوء وابتسامة غريبة ظهرت على ثغرها وقالت :
-"سأتخلص اليوم من متاعبي كلها، سأتخلص من سبب كل هذا"
عقدت الخادمة حاجبيها بتعجب لم تفهم حديثها، لكنها استمعت لها تكمل فاتسعت عينها صدمةً مما تحدث :
-"اليوم سيكون آخر يوم في حياة سارية"
في هذه اللحظات كانت أروى في طريقها إلى جناح رقية، كادت أن تدق الباب لكنها استمعت إلى ما تنوي فعله فتراجعت عن الدخول ووقفت تستمع إلى البقية من حديثها، فقالت خادمتها تحاول إرجاعها عما تريده :
-"مولاتي أرجوكِ أعيدي التفكير فيما تريدين فعله، فكري بالملك إلياس وردة فعله بعدها إن علم أنكِ فعلتِ ذلك"
التفتت لها رقية ومالت برأسها فظهرت بهيئة بثت الرعب فيها خاصةً بعد أن همست :
-"أتعلمين لا يمكن أن تعيشي حياتك للأشخاص الآخرين، بل عليك أن تحاربي من أجل مصلحتك حتى وإن كلفكِ هذا جرح بعض الأشخاص المقربين لكِ في حياتك"
نظرت أروى إلى الباب بغموض وتراجعت عائدة إلى غرفتها.. أغلقتها بإحكام ووقفت بمنتصفها تفكر فيما سمعته، وقع نظرها على صندوقها الخاص فاقتربت منه تفتحه وأخرجت منه اللفافة التي تخفيها بعناية تعيد قراءتها من جديد :
-"أروى.. أبعث لكِ بتلك الرسالة لأنني أعلم أنه من الصعب لقائنا هذه الفترة، لكن أريد تحذيرك والانتباه إلى رقية..
هذه المرأة حية في هيئة بشر وأنتِ رقبتك في يدها، إما أن تقتلك أو تسلم رقبتك إلى إلياس..
أحذري.. وإن شعرتِ بالخطر أو أنها تنوي الشر لا تترددي في القرار.
( الملك كهرمان )"
*******
يطول العتاب لكن الحب هو المستقر
يستمر الحزن والغضب ليالي
وعندما ينقشع وينكسر
يكشف قوة تعزز الحب في القلب أكثر!
الصمت هو السائد على القاعة بعد أن سردت ليان ما حدث في رحلتهما إلى كهرمان للمرة الثانية، ومن قبلها أكد الطبيب حديث سارية أن السم الذي دخل لجسده علاجه لا وجود له إلا في مملكته..
هو واثق تمام الثقة فيما قالته زوجته لكن غرضه من الاستماع إلى ليان والطبيب العثور على أي شيء يفيده في خطته للانتقام.
حال بنظره بين نيار وزوجته ووجه حديثه إلى ليان متنهدًا :
-"لا أعلم ماذا أقول!
هل أكون ممتنًا لعدم تركك لها أم أغضب لتعريض حياتكما للخطر؟
لكن أنا لا يحق لي فعل شيء فزوجك أدامه الله من يحق له هذا"
نظرت لزوجها باشتياق ورجاء أن يسامحها لكن نظراته كانت غامضة لا تُقرأ، اقترب إلياس منه مشددًا على كتفه يهمس له :
-"كفاك عقابًا لزوجتك!
هي وسارية فعلتا هذا بعدم تفكير واندفاع، وقد طال عقابهما..
يكفي أن زوجتي تحمل طفلي وأنا لا أستطيع أن أكون بجانبها بسبب غضبي"
تحولت نبرته إلى الغضب يشوبه الغيظ :
-"سأجعله يدفع ثمن هذا"
ضحك نيار بخفوت وأومأ له مربتًا على كتفه قائلًا بسعادة حقيقية لشقيقه :
-"مبارك لكْ أخي، ويحضر إلى الدنيا بخير وسلام"
ابتسم لأخيه بمحبة وانطلق خارجًا من القاعة تاركًا إياهما حتى يهدأ الوضع بينهما واتجه إلى الحديقة يطمئن على زوجته هذه المرة بنفسه، فوسام قد أخبرته أن نفسيتها تزداد سوءً واقترحت عليه أن تخرج بها إلى الحديقة فوافق على الفور.
اشتاق لها حد الجنون.
يعترف أن كبريائه وغضبه من أكبر عيوبه لأنه لا يستطيع التحكم بهما فهما السبب في الابتعاد عنها كل هذه الفترة.
في دين الحب
العشق طريقة، والحبيب طريق
الصدق سُنة، والحنان شريعة
والشوق إيمان
تقدمت من زوجها الذي كان يتأملها بصمت يده خلف ظهره، عضت على شفتيها بتردد ونظراتها مثبتة على قبضتيها تفركهما بتوتر، ثم رفعت عينيها إليه ترى نظراته مثبتة عليها.
رأت لمحات من الاشتياق شجعتها على رفع كفيها تضعهما على صدره فشعرت بانقباض عضلاته أسفلها فابتسمت في نفسها قبل أن تهمس له بأنفاس صفعت وجهه :
-"أما حان وقت الاقتراب بعد كل هذا نيار!
لقد اكتفيت من بعدك عني، أنت تتحدث معي برسمية مدة لا تزيد عن الدقيقتين، تحملت كل هذا فقط لأنني أعلم أنني أخطأت لكن اكتفيت من تلك المسافة بيننا"
رفع أنامله يعيد خصلاتها خلف أذنها ثم نظر لعيونها بمكر وابتسامة جانبية هامسًا أمام وجهها :
-"اشتقتِ إليّ؟
اكتفيتِ من طريقة معاملتنا والبعد بيننا.. صحيح؟!"
تغضن جبينها بتعجب ونظرت له بحذر مما يقصده، شهقت عندما أحاط خصرها يجذبها إليه أكثر فأحاطت عنقه بذراع ومازالت يدها الأخرى على صدره فوق قلبه ليكمل همسه بكلمات جميلة متغزلًا، وعيناه تتأمل قسمات وجهها الذي اشتاق له :
-"ومن عجبي أني أحن إِليكِ..
وأسأل شوقي عنكِ وأنتِ معي..
تبكي عيني وأنتِ في سوادها
ويشكو النوى قلبي وأنتِ بين أَضلعي"
فغرت فاها بروعة من الكلمات وتطلعت به بحب متلمسة وجنته بكفها هامسة :
-"هذه الكلمات لي!"
ابتسم لها بعشق نظراته تحمل شوقًا جمًا لها، وأمسك كفها يقبل باطنه وضمه إلى صدره :
-"إليكِ يا من احتوتك العيون..
يا من أعيش لأجلها فقط
إليكِ يا من يلاحقني طيفها
و أرى صورتك في كل مكان
في ورقي، في نومي، وفي صحوتي"
رفع كفيه يحتوي وجهها بينهما يمسح دمعاتها التي هبطت على وجنتيها تأثرًا وحبًا، وهمس مستندًا جبينه فوق جبينها يومئ برأسه:
-"إليكِ يا من يرتعش كياني من شدة حبي والشوق لها..
إليك يا من أعادت نبض الفؤاد ببسمة منها"
حبه كالشمس قوي كضوئها
دافئ كأشعتها
مسيطر كمركزها
كالدماء الحمراء تسير بجسدها
تعانق كل ما يقابلها ويجعلها تنبض بالحياة!
هزت رأسها تضحك من بين بكائها ترتمي معانقة إياه بقوة دافنة وجهها في عنقه تكرر :
-"أحبك نيار، أقسم أنني لم ولن أحب غيرك"
ضمها بشدة إليه يهمس لها بدوره :
-"وأنا أحبك نمرتي"
★★★★★★
قتله الشوق والحنين
مزقه البعد والفراق
يحن إلى الأمس البعيد ولحظات وجودها معه!
اشتاق لكلمة منها.. لنظرة أو ابتسامة
ولكنه كان قاسيًا وحُرِم حلاوة اللقاء ونداوة رؤياها!
وقعت عيناه عليها واقفة أمام أشجار الورود المفضلة لديها ووسام بجانبها تتحدث معها كمن تحاول أن تشغلها بالحديث، رأى إشراقة وجهها منطفئة، ابتسامتها باهتة، وعيونها ذابلة.
على قدر حزنه لحالتها لكنه سعيد أنه يؤثر بها وتحبه بهذا القدر.
ابتسم بحب لكن ابتسامته تلاشت وهو يرى الخادمة التي تتقدم منها بحذر واضعة القلنسوة على رأسها تخفي ملامحها!
عقد حاجبيه بغرابة لكن اتسعت عيناه بصدمة وتسمر جسده مكانه وهو يرى بريق نصل خنجر أسفل أكمامها.
وفي نفس الوقت هناك من يراقبها من أعلى نقطة في القصر، متخفية في ردائها ممسكة بالقوس والسهم بيدها على استعداد أن تصيبها به.
اقتربت من سارية تقف خلف ظهرها مباشرة ثم رفعت يدها الممسكة بالخنجر تنوي طعنها به لكن صوت إلياس الصارخ بقوة هزت أرجاء القصر وركضه تجاه زوجته بأسرع ما يمكن وترها :
-"ســـارية احتــرسي..!!"
في نفس لحظة صراخه أُطلق السهم الذي كانت تثبته تجاه قلبها لكن التفاتها جعله يستقر أسفل ظهرها فسقطت على وجهها.
لا تدري سارية ما الذي يحدث؟
كل شيء مر بسرعة البرق!
صراخ إلياس..
تجمهر الحراس حولها..
جسد مسجى على الأرض بسهم في ظهره..
لتجد نفسها فجأة بين ذراعيه!!
تسارعت أنفاسها بلهاث شديد وعيناها متسعة بذعر، تدور برأسها حولها تجد جاد يهرول بأقصى سرعته وخلفه العديد من الجنود يضع وسام خلفه كمن يحميها.
نيار وليان أتيا بذعر عندما استمعا إلى الصراخ.
الجميع يلتف حولها وعيونهم على الجسد المُلقى.
شعرت بكفه فوق بطنها وذراعه يضم كتفها إلى أحضانه متسائلًا بقلق وخوف لا يخرجان إلا لها :
-"حبيبتي هل أصابك شيئًا؟
أنتِ وطفلنا بخير أليس كذلك؟!"
يعلم بخبر حملها!
هي لم تخبره فمن أين وصله الخبر؟
رفعت حدقتيها إليه ولاح بنظراتها العتاب والحزن من أنه استطاع تركها كل هذه الفترة بدون رؤيتها أو الحديث معها، حتى بعد أن علم بحملها لم يشفع الأمر لها في قلبه!
شعر بحزنها وعتابها فضمها أكثر إلى أحضانه لاصقًا شفتيه على جانب رأسها يحتويها، وعيناه على الغارقة في دمائها وقلنسوتها تخفي وجهها، نظر إلى جاد في إشارة له أن يكشف عنها فتقدم يجلس القرفصاء بجانبها وكشف عن وجهها لينصدم الجميع وتعالت الشهقات بصدمة وفزع عندما وجدوها "رقية"
اندفع نيار وإلياس إليها في ذات اللحظة بصدمة، ليحملها الأول وانطلق بسرعة نحو جناحها في حين هتف إلياس لجاد :
-"أخبر الطبيب أن يأتي في الحال"
ثم التفت إلى حراسه آمرًا إياهم :
-"ابحثوا عمن أطلق السهم، هذا الشخص هنا في القصر أحضراه إليّ في الحال"
نظر إلى سارية وجدها تنظر إلى مكان سقوط والدته بجبين متغضن كمن لم يستوعب ما حدث حتى الآن!
تنهد بقوة واتجه إليها يحتوي وجهها بين كفيه مجبرًا إياها على النظر له وقال بلهفة :
-"سارية أنظري إليّ.. سارية أفيقي وانتبهي إليّ حبيبتي"
رفعت نظرها له بتيه فمسد وجنتها بإبهامه وبادلها النظرات بأخرى مطمئنة :
-"أنتِ بخير عزيزتي لم يحدث شيء"
ابتلعت بصعوبة ورمشت عدة مرات وتركيزها يعود إليها ببطء لتقول بتيه جعله يناظرها بدهشة :
-"والدتك أصيبت بسهم، لقد كانت غارقة في دمائها!"
لم تستوعب أن والدته كانت تحاول قتلها!
كل ما يقلقها أنها أُصيبت!
يا الله ماذا يفعل بها!
طالعها بصمت ومازال يحتويها، ثم التفت إلى ليان :
-"من فضلك ليان.. هل يمكنكِ أخذها إلى جناحها؟"
أومأت عدة مرات واتجهت نحوها تضمها من كتفها تقودها نحو جناحها، سارت معها بلا وعي وعيناها عليه فهز رأسه باطمئنان لها واتجه نحو جناح والدته يرى كيف الأحوال؟
دلف إلى الداخل فرأى كبير الأطباء يحاول وقف النزيف والسيطرة عليه، بجانبها نيار يطالع الفراش بذهول وجاد يقف بجانب الباب.. وقف بجانب أخيه الذي قال بتيه :
-"ما الذي يحدث إلياس؟
أمي مرتدية ثياب خدم مصابة بسهم في ظهرها وغارقة في دمائها؟
أخبرني ما الذي يحدث أنا لا أفهم!"
أظلمت عيني إلياس ونظراته لا يزيحها عن والدته القابعة بين يدي الطبيب يحاول إنقاذها بشتى الطرق، يجيبه بصوت خافت :
-"حاولت قتل زوجتي..
كانت واقفة خلف سارية تنوي طعنها ليأتي السهم من اللاشيء يعيقها عما تنويه"
جحظت عيني نيار وزوى بين حاجبيه بصدمة هامسًا بذهول :
-"أمي أرادت طعن سارية!"
نظر إلى جسدها بصدمة، يضرب بقبضته على فخذيه بيأس وقلة حيلة وخرجت منه زمجرة عنيفة تنم عن غضبه..
لا فائدة منها!
حقدها لسارية منذ أن رأتها لابد وأن تكون هذه نهايته.
انتبها إلى الطبيب الذي تقدم منهما بإنهاك بعد أن سيطر على النزيف وضمد جرها، فسأله إلياس عن وضعها ليهز رأسه بيأس وأعين تحمل نظرات الأسف :
-"تم وقف النزيف وهي الآن بخير، فالسهم لم يكن مسممًا، لكن....."
عقد نيار حاجبيه بتساؤل :
-"لكن ماذا؟!"
تنهد الطبيب بعمق قبل أن يقول بهدوء :
-"مع كامل أسفي، فجلالة الملكة لن تستطيع الحركة مرة أخرى"
سيطرت الصدمة على الجميع!
وقفوا كأن على رؤوسهم الطير لا يستوعبون ما يقال!
لكن نيار لم يستطع السيطرة على صدمته فأمسك الطبيب من تلابيبه يهزه بقوة يصرخ به :
-"ما الذي تقوله أيها المعتوه؟
ماذا تعني بأنها لن تستطيع الحركة؟!"
استطاع إلياس إبعاده عن الطبيب والسيطرة على غضبه، يلجم حركته بذراعيه يستمعان إلى تفسيره لما آلت إليه حالتها :
-"السهم أصابها في موضع شديد الحساسية في عمودها الفقري، الإصابة في هذا المكان تسبب نزيف يؤدي إما للوفاة أو شلل الأطراف الأربعة وعدم حركتها مرة أخرى.. لقد فعلت كل ما بوسعي لأنقذ حياتها وليس في يدي فعل أكثر من هذا"
تهدلت أكتاف نيار، وأغمض إلياس عينيه بقوة يسيطر على صدمته..
رقية بجبروتها ستقضي ما تبقى من عمرها طريحة الفراش لن تتحرك!
يا الله إن النفس تطمع والأسباب عاجزة..
والنفس تهلك بين اليأس والطمع
ولقد أهلكها جشعها وها هو مصيرها
كان جاد قد انسحب من الغرفة تاركًا إياهم في خوض المشاعر حتى يرى هل وجد الجنود صاحب هذا السهم أم لا؟
رأى وسام تتقدم منه بأعين قلقة فمد كفه لها لاستقبالها لتمسك به تحول بنظرها بينه وبين باب الجناح تسأله :
-"جاد ما الأمر، لماذا ملامحك هكذا؟
أخبرني ماذا قال الطبيب؟!"
زفر بقوة مشددًا على كفها يجيبها بأسف وشفقة :
-"يقول أنها لن تستطيع الحركة مرة أخرى"
شهقت واضعة كفها فوق شفتيها وقالت بتلقائية وغير إرادة :
-"شُلّت!"
طالعها بدهشة وضحك دون إرادة منه على عفويتها التي تخرج في غير أوقاتها، لتعض على لسانها مما قالته بخجل فأخفضت رأسها وهمست :
-"أنا أسفة لم أقصد أن تخرج بهذه الطريقة، لكن من مفاجأتي"
سيطر جاد على نفسه ودفعها برفق أمامه كي يذهبا ثم سألها :
-"لا عليكِ عزيزتي.. أخبريني كيف حال سارية؟!"
عبست بحزن وهي تسير بجانبه وأجابته بنبرة حزينة :
-"مازالت في صدمتها مما حدث.. بُعد إلياس عنها الفترة الماضية خاصةً في حالتها تلك جعلت حالتها النفسية تسوء، وصدمتها أن الملكة أقدمت على محاولة طعنها لم تستوعبها"
توقف جاد بتعابير مندهشة لتنظر له وسام متسائلة فقال :
-"بعد إلياس عنها في حالتها هذه؟"
تيقنت أنه لم يعلم بخبر حملها ، فاحتارت هل تخبره أم لا؟!
لكن هو أكثر شخص في هذا العالم يثق فيه إلياس وسارية، وإن لم يعلم سيحزن كثيرًا فقررت إخباره :
-"سارية حامل.. علمت أثناء عودتها من مملكة كهرمان، وعندما علم زوجها ازداد غضبه أكثر بسبب قلقه أن يحدث لها شيء في الطريق فتتأذى هي وطفله"
ابتسم بسعادة عندما علم بهذا الخبر..
أخته وصديقة طفولته تحمل طفل صديقه العزيز..
ابتسمت على سعادته لتبدأ في السير مرة أخرى وقال :
-"حسنًا أذهبي الآن إلى سارية ولا تخبريها شيئًا، وأنا سأتحدث مع الحراس وسآتي للاطمئنان عليها"
أومأت له بطواعية لتذهب في طريقها وهو ذهب يرى نتيجة بحث الجنود.. تقدم منه أحد الحراس يحمل في يده قوس وعباءة رمادية وأعطاه إياه :
-"لقد وجدنا القوس والعباءة في الطابق الثاني في ذلك المكان"
أشار بيده للمكان الذي وجدهم فيه، ليعقد حاجبيه بتفكير وتقدم للمكان التي كانت تقف فيه سارية ودار برأسه حول المكان يستكشف من أين يمكن أن يُلقى السهم؟!
فوضعيته التي أصاب بها ظهر الملكة تؤكد أنه أُطلق من مكان عالٍ.
رأى أنه على يمينها الشرفة الواسعة التي تؤدي إلى الحرمليك والتي يستحيل أن يطلق منها أحد ، فانعكاس أشعة الشمس من هذا الاتجاه سيجعل انعكاس جسده يُرسم في هذا المكان وبالتالي سيجذب الأنظار إليه..
التفت لليسار فرأى البرج العالي، تفقد المسافة بينه وبين المكان ليجده مناسبًا لإطلاق السهم، لكن وجود تلك الأشياء في الجهة الأخرى من القصر لا تعني غير أن ذلك الشخص وضعها في هذا المكان كي يبعد الأفكار عنه، يشهد له أنه ذكي لكنه سيأتي به!
★★★★
دلف إلى جناح سارية بعد أن فتحت له وسام ليرى الجميع حولها.. قابعة في أحضان أبيها ترتعش وقد فطنت لكل ما حدث، بجوارها ليان تمسح على ظهرها ووسام وأروى تقفان بجوار بعضهما.
وقفت ليان وتقدمت منه بقلق تسأله :
-"جاد أخبرني ماذا قال الطبيب؟
هل مازالت على قيد الحياة؟!"
تشابكت أيدي أروى بقوة وعيناها عليه تنظر إجابته التي تتمناه لكنه قال :
-"نعم مازالت على قيد الحياة.. لكن الطبيب يقول أنها لن تستطيع الحركة مرة أخرى"
حدقت الأعين به بصدمة وذهول لما آل إليها حالها ، إلا وسام كانت على علم بهذا وأروى أخفت سعادتها بكسر جبروت تلك الطاووس خلف نظراتها المندهشة.
كسر هذه الصدمة همس بدر الدين بأسف:
-"لا إله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين"
ظل يكررها يضم ابنته إلى صدره يربت على ظهرها، مازالت ليان في صدمتها ووضعت كفيها على فمها هامسة :
-"نيار.. نيار"
اندفعت تجاه الباب مهرولة حيث جناح الملكة، تعلم أنه على قدر علمه بشر والدته وحقدها الذي يملأ قلبها لكنه يحبها ومتعلق بها كثيرًا وخبر كهذا لن يتحمله.
ركضت إليه وخلفها أروى لن تتركها وحدها تنتهز الفرصة كي ترى رقية في هذه الحال.
اقترب من سارية وجذبها برفق كي تقف، رأى القلق يكسو ملامحها.. عيناها زجاجية بفعل الدموع التي تملأها.. قلة حيلتها التي يستشعرها منها.. فابتسم لها يشدد على يدها :
-"سأصبح عماً عمَ قريب ولم تخبريني يا فتاة!!"
ابتسمت له بعذوبة فوضع ذراعيه على كتفيها هامسًا لها :
-"أعرف أنه قسى عليكِ في عقابه، لكن صدقيني فلو كان غيرك كان مصيره الموت، تأكدي أنه لم يحب غيرك وتصرفه أكبر دليل..
أنتِ لا تعرفين العداوة بينه وبين كهرمان يا سارية فلا تغضبي منه"
تقوست شفتيها بحزن واغرورقت عيناها أكثر بالدموع لتقول بطفولية :
-"لقد كان يعلم بأمر حملي ولم يشفع هذا عنده"
ابتسم والدها على طفولتها التي لا تخرج إلا نادرًا، بينما ابتسم جاد بشدة على عبوسها وضرب جانب رأسها بسبابته :
-"يا غبية هل تظنينه سعيد بهذا الشيء؟
لن أخبرك بحاله كيف كان.. سأدع هذا له"
-"نعم دع الأمر لي وأخرج من هنا ، لقد حذرتك من الاقتراب من زوجتي"
جاءه صوته من خلفه مليئًا بالغيظ فنظر إلى سارية هامسًا :
-"جاء الغيور، سأخذ حبيبتي وأذهب"
جذب وسام من كفها وخرجا دون الالتفات إلى إلياس، ووقف بدر الدين متقدمًا نحوه مشددًا على كتفه :
-"أخبرنا جاد بما قاله الطبيب.. لله الأمر من قبل ومن بعد بني ، لا أحد يعلم حكمته فيما حدث"
أومأ إلياس متنهدًا بقوة وقال بصوت خافت :
-"أعلم عماه أعلم.. ستأخذ وقتًا حتى تفيق"
ربت بدر الدين عدة مرات على كتفه قبل أن يتركهما ويخرج ليغلق الحراس الباب الرئيسي للجناح.
نظر لسارية التي أعطته ظهرها وتقدمت تجاه فراشها بهدوء بثوبها الأخضر البسيط، تأخذ وعاء الأعشاب الذي أعطاه له والدها وتضعه في كأس من الماء، شربت دواءها ثم عادت تقف على مسافة منه تضع كفيها فوق بعضهما أمامها قائلة بجمود :
-"كيف حال والدتك جلالة الملك؟!"
قطع المسافة التي صنعتها بنفسها ووقف على بعد خطوة منها، فرمشت عدة مرات باضطراب.. فعلى قدر اشتياقها له حزنها من قسوته بنفس القدر.. لاحظ اضطرابها فقرر استغلاله ليقترب أكثر قائلًا بجمود وأعين ضيقة :
-"يبدو أن الله فعل هذا انتقامًا لكِ على كل ما فعلته بكِ وما كانت تنوي فعله"
حالت بعينيها بين حدقتيه بصمت.. يجب أن تسعد لما حدث لها، فلقد شُفي غليلها لما كانت تفعله ومحاولاتها قتلها!
لكن كل ما يساورها شعور الأسف والشفقة فقط.
لا تستطيع التخيل أن شخصية كرقية بغطرستها وكبريائها تقضي الباقي من عمرها طريحة الفراش غير قادرة على الحركة!
تنهدت بقوة تستدير متجهة نحو فراشها وقالت بصعوبة لكن بنبرة حقيقة تتظاهر بترتيب الوسائد :
-"في وقت باكر من اليوم حاولت قتلي للمرة الثانية، لأتفاجأ أنها أصيبت بسهم جعلها غير قادرة على الحركة.. لكن أنا لا أشعر بالانتصار، لا بشماتة ولا بسعادة"
نظرت له عندما جلس بجانبها على حافة الفراش، فتنفست بعمق تراه يحدق بها بغموضه وصمته يستمع بقية حديثها :
-"لم أشعر غير بالأسف عليها"
نهض من جانبها يتجه نحو الشرفة يتطلع منها مكتفًا ذراعيه خلف ظهره :
-"أنتِ على الأقل تستطيعين تحديد شعورك، لكن أنا لا..
لقد فقدت الشعور الذي من المفترض أن يكون بيني وبينها منذ سنوات عديدة، لم أشعر بالأمومة منها حتى أستطيع أن أشعر بها كابن"
التفت لها بجانب جسده وأشعة الشمس تنعكس على جانب وجهه يكمل بنبرة شرسة :
-"لو كنت أمسكتها قبل أن يصيبها السهم لكنت قتلتها بدلًا عن المرة ألفًا"
تعلم أنه حائر بين حزنه عليها وبين ألمه منها.. فهي في النهاية والدته.
وقفت أمامه ترفع يدها إلى وجنته بحنان وقد تناست عتابها عليه وهمست بابتسامة :
-"أعلم أنك حزين لما حدث إلياس، فمهما وصلت قسوة المرأة لن تكره أبنائها حبيبي"
ابتسم بسخرية يخفض رأسه يهزها أسفًا ثم أعاد نظره إليها :
-"نعم أنا حزين لكن ليس عليها.. فقلبي كان يتألم ولا أجد له محتضِن، كنت أعيش الحياة مشتت حائر مع أقرب الناس إليّ..
القدر كان قاسي للغاية سارية..
أُم غايتها السلطة.. أب لا يستطيع كبح جماحها..
قاسي ليفرق بيني وبين أخي سنوات بسببها..
تائهًا بين هموم ويأس لا يساندني غير جاد حتى ظهرتِ أنتِ"
ابتسم بحزن يلتفت مرة أخرى إلى الشمس في طريقها للغروب وقال :
-"أتعلمين شعور أن تكوني في أشد احتياجك لا تجدي عضدًا، تجتاحك الدموع بمذلة وخضوع وتخنقك العبرات، ولكنكِ تفضلين الصمت ولن يفهمه أحد؟!"
اختنقت بالعبرات وشعرت بغصة البكاء في حلقها، فهذه المرة الأولى التي يتحدث بها بتلك المشاعر ويفتح علاقته بوالدته.. اقتربت منه تحيطه من ظهره تضع كفيها على صدره ورأسها على كتفه، ليغمض عينه للحظات قبل أن يمسك كفها بين قبضته يسمعها تهمس :
-"أحيانًا أقول إن الحياة تقسو بلا معنى، وأوقاتًا أقول حظنا منها وإن ساء أقل قسوةً من الآخرين، أقل بكثير.. أنا أشعر بك"
جذبها أمامه بلطف لتستند إلى الحائط فأحاطها بحنان مبتسمًا بحب يرفع كفها إلى فمه يقبله، همس محاولًا أن يشاكسها :
-"أرى أن الحمل يجعلك عاطفية كثيرًا، فلم يكن من السهل عليكِ البكاء"
لم تستجب لمشاكسته بل رفعت عينيها بعتاب وتقوست شفتيها بحزن تفهمه فدلك ظاهر كفها بإبهامه وهمس لها :
-"هل تعتقدين أنه كان من السهل ابتعادي عنكِ؟!
كما أخبرتك ما حدث ليس بالهين، كما أنني لا أستطيع التعامل مع أحد وأنا غاضب منه، خاصةً إن كان أغلى شخص في حياتي..
كان يجب أن يهدأ غضبي حتى آتي إليكِ، فلا تغضبي..
عبوسك وحده يضربني في مقتل فما بالك بحزنك ناريتي"
تمسكت بقبضته بشدة وعانقت كتفيه بذراعها هامسة بقلب ملتاع :
-"أعلم أنني أخطئت، لكن لو عاد الزمن للخلف لفعلت هذا الخطأ مرة أخرى فقط لأجلك، فأنا أحبك"
ضربته بقبضتها على ظهره ليبتسم لها، فتخللت خصلاته خلف عنقه بأناملها وتابعت همسها :
-"أعلم أن والدي من أخبرك بأمر حملي لأنه الوحيد الذي كان يعلم وقتها، كنت سأخبرك لكن لم أشأ أن أتخذ هذا الأمر سبيلًا كي لا تغضب..
نعم أصابني الحزن وتمنيت أن يرق هذا القلب لتكون بجانبي"
توسدت صدره برأسها ليحيطها بذراعيه مستندًا بذقنه على رأسها ويده تتخلل خصلاتها وقال :
-"أنا معكِ، ليس لأنكِ بحاجة إليّ لكن أنا من لم يعد قادرًا على الابتعاد أكثر..
لكن عديني أنكِ لن تكرري هذا الأمر، لن تفعلي شيئًا تعلمين أنني لن أوافق عليه سارية"
شددت ذراعيها حوله ومسحت رأسها على صدره كالقطة مغمضة الأعين وهمست براحة :
-"أعدك.. أقسم لن أفعلها ثانيةً"
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤