الحياة كالسرداب الطويل..
بابه الرغبة
وجدرانه اللؤم والشك!
حجارته الكذب تبرز منها سنون الغدر والخداع
تُدمي قدميك كلما دعست عليها وما زلت تمضي..
سقفه الغرور والجشع
مغطى بخيوط الحقد أشبه بخيوط العنكبوت.
الكذب.. الخداع.. الغش
ثلاث حفر إذا سقط القائد في أحدهم
سقطت الثقة من قلوب أتباعه!
وهما لم يسقطا بل من قاما بالحفر ووقفا على الحافة يتابعان سقوط الجميع بانتصار!
متناسيان أن ذَلة صغيرة ويحتويهم القاع!
نهضت من جانبه ترتدي مئزرها تواري عُري جسدها، تتقدم نحو قنينة الشراب تصب كأسها واستدارت للمضطجع على الفراش عاري الجسد سوى من الفراش الذي يداري نصفه السفلي.
رفعت كأسها تشرب منه وقالت بسخرية:
-"أتعلم يا كهرمان!"
أولاها انتباهه فأكملت بابتسامة جانبية:
-"أنت كالحصان الأسود في لعبة الشطرنج.. تقف وتنظر.. تجمع خيوط اللعبة في يدك، وفي لحظة معينة تتجاوز وتقفز"
أسندت ظهرها على الحائط خلفها، مكتفة ذراعيها أسفل صدرها، رافعة حاجبها بمكر :
-"وفجأة تحكم الخناق على الجميع"
قهقه بصوت أجش وغرور ثم نهض من مكانه يلف الفراش حول خصره واستند بكتفه على عمود فراشه:
-"عزيزتي.. إن لم تعرفي قوة خصمك ستدهسين تحت أقدامهم"
ثم غامت عيناه بسواد حقده وامتلأت نظراته بالكره الدفين:
-"وإلياس ليس بالخصم السهل، إن علم ما فعلتيه لن يكون في عمرك يومًا آخر"
عقدت حاجبيه بعدم فهم واشتد جسدها بتوتر، فابتسم في نفسه ثم تقدم منها ببطء حتى وقف أمامها يعيد خصلة خلف أذنها، يستند بكفه الآخر على الحائط خلفها هامسًا:
-"تُرى ماذا سيكون رد فعله عندما يعلم بخيانتك له خديجة؟
ومع من؟
مع ألد أعدائه!"
راقب اتساع مقلتيها باشتعال فهو للمرة الأولى يتطرق لهذا الأمر.
إن كان هو ملك الخديعة فهي حرباءة تجيد التلون وبرعت فيه.
هتفت به بشراسة في حين تربت بنوع من العنف على صدره:
-"لن يكون أقل مما سيفعله بك، وإن علم لن يكون إلا عن طريقك..
حينها لن أبقي على شيء"
هبط بأنامله على وجنتها إلى أن وصل إلى ذقنها فشهقت بقوة عندما جذبها منه وما زال محتفظًا بابتسامته:
-"تذكريني بمن يعيش مع الذئب ويبكي مع الراعي"
ثم هبط إلى أذنها هامسًا:
-"لكن اطمئنِ إن علم لن يكون عن طريقي بل عن طريقك أنتِ"
-"كيف؟"
سألته بدهشة فباغتها بقوة:
-"فتون.. خادمتك"
عقدت حاجبيها بعدم فهم تهز رأسها بتساؤل فابتعد يوليها ظهرها هاتفًا بجملة واحدة وترك الاستنتاج لها:
-"جاد وبدر الدين في قرية سارية"
★★★★★
ساحرة ترتدي ثوب البراءة، وفي عينيها أمارات الحقد
في يدها أعواد الخبث تصنع أول وجه من قفص المكر حول ضحيتها النائمة بعد أن تناولت تفاحتها المسممة!
تحت أنظار سيد الجحيم المراقب باستمتاع.
غزلا خيوط الخداع ببراعة وما الضحية سوى اثنين جمعتهما براءة الحب.
عاد وفي قبضته أولى الحقائق التي ستصلهم لكافة الحلول.
عاد وقلبه مشتعل بنيران الانتقام لصديقة طفولته، ومن الناحية الأخرى مشتاق لمن تربعت بالداخل.
سار في طريقه يلتفت حوله علّه يرى طيفها غافلًا عمن تراقبه من أعلى مبتسمة بخبث، مشيرة لبعض الفتيات بالتحرك.
مر عليهن في الحديقة بجانب نافورة المياه وجذب حديثهن انتباهه وتسمر مكانه:
-"منذ يومين رأيت الوزير مأمون يخرج من غرفة وسام متسللًا في منتصف الليل وهو يغلق قميصه أمام الباب"
ثم عضت على شفتيها تنظر بجانب عينيها بخبث لمن يستمع حديثها بصدمة ضربته في مقتل، فأكملت تضرب الحديد وهو ساخن:
-"ولكم أن تتخيلن ماذا يفعل رجل في حجرة امرأة في مثل هذا الوقت وهذا الشكل"
شهقت أخرى بتصنع واضعة كفها على فمها:
-"يا الله ما أخبث تلك الفتاة!
ترتدي قناع العفة طوال الوقت ترفض أن يمسها أحد وهي....''
تركت كلماتها معلقة تفسح المجال لوضع أي وصف منحط لها.
صاغا الخطة وتركا عرائسهما الخشبية تؤدي الدور ببراعة..
فسقط الوزير في الفخ..
والضحية لا تعلم شيئًا عما يُحاك ضدها.
نسي ما جاء به وما كان يحمله!
تلقى صاعقة قوية في منتصف صدره ألقته أرضًا على حين غفلة منه.
أصبح كالثور الهائج لا يرى سوى اللون الأحمر أمامه فانفلت زمام تعقله واندفع يبحث عنها!
استغلت غيابه وخانت حبه؟
رفضته واستسلمت لمأمون؟
الأمر الذي رفضه القلب ومضى العقل موافقته عليه!
وجدها تقف برفقة أروى تتحدثان.
حانت منها نظرة عابرة فرأته واقفًا يتطلع لها بغموض.
رمقته الفتاتان بنظرات اتفقت في ظاهرها على الاشتياق لكنها اختلفت بما تخفيه!
أروى تخفي الخبث وانتعش داخلها بانتصار عندما رأت غضبه وقُرب حلول العاصفة!
لكن وسام لم تشعر سوى بالحب، تتسارع نبضات قلبها حتى كادت تذهب بأنفاسها خاصةً وهي تراه يقترب منها بخطوات ثابتة تعرف هدفها ، يتطلع إلى عينيها بنظرات سوداء يطفو الغضب على سطحها لا تعرف مصدره!
عيناها متعلقة به وكأن في حضوره تتلاشى الوجوه فلا تبصر سواه!
صوته حياة..
رؤيته عمر ثاني..
وجوده كالسحر..
ونظراته كالقفص المحيط بقلبها
فأصبح سجينه بمليء إرادتها!
رسمت ابتسامة جميلة تلاشت في لحظتها عندما قبض على رسغها يجذبها خلفه بعنف، لا يرى أمامه سوى جسدها بين ذراعي مأمون!
دلف إلى جناحه يدفعها أمامه بحدة لولا تماسكها لسقطت أرضًا، ناظرته بصدمة قابلها بغضب!
هزت رأسها بتساؤل تفرك رسغها من ألم قبضته:
-"ما الأمر جاد؟
ما سر هذا الغضب؟"
كان يستند على الباب المنغلق يقبض على قبضتيه خلف ظهره بقوة، قلبه يرجوه أن يترفق ويستمع والعقل ينهره ألم يستمع لما قيل!
صدح صوته بهمس حاد يخرج من جوف بركان خامد بدأ بالثوران:
-"لم أحب أحدًا في حياتي، ولم أكن مما قُدّر لهم الحب قبل أن أراكِ"
عقدت حاجبيها بعدم فهم تراقب تقدمه البطيء بحذر:
-"أخبرتك أنكِ لي، لا يهمني إن كنتِ جارية أم ملكة، أصدرت حكمي بكِ وانتهى الأمر..
وأنتِ ماذا فعلتِ وسام؟"
رمشت بأهدابها تلتقط القسوة والحدة من حديثه لا تعلم مصدرهما، سؤاله ألقاه كالاتهام ينتظر منها الدفاع عن نفسها فهمست بصدق:
-"أحببتك"
انتفضت صارخة بصدمة تضع كفيها على رأسها عندما ركل الكرسي خلفها وزعق بحرقة:
-"أحببتني؟
أحببتني وفي غيابي تلقين بجسدك في أحضان آخر؟"
غصة سكنت صدرها.. صدمة احتلت نظراتها.. وعقلها لم يستوعب حتى الآن المؤامرة التي تحوطهما!
ابتلعت لعابها ببطء هامسة لنفسها:
-"أحضان آخر!"
ثم تطلعت به باستنكار تشير لنفسها:
-"أنا ألقي بنفسي في أحضان آخر!"
جذبها يلصقها به وقد أعمته غيرته، دخان الخديعة أعتم قلبه ونيران صدره تزداد في الثوران.. همس وأنامله تقبض على خصرها بعنف:
-"أخبريني وسام كيف كان يلمسك؟"
ضغط بقسوة على شفتيها بإبهامه فتأوهت تحاول الإفلات منه وقد ملأها الخوف وأكمل:
-"رفضتِ قبلتي وصرختِ بي ألا أعيدها فلم يجرؤ أحدٌ على لمسك.. فهل استطاعت قبلته تغيير رأيك؟"
تحركت بعنفوان بين ذراعيه كي تتحرر منه وعقلها لا يستوعب اتهاماته فصرخ بها بغضب وغيرة:
-"أخبريني وسام، هل كان مأمون هو هدفك؟
هل استغليتِ حبي ليأتيك هو؟"
صفعة كانت إجابتها على حديثه.. تلاها صمت طويل!
ضربته نظرة الخذلان في عينيها في مقتل فكانت كطرقة أصابع للإفاقة!
كانت الكلمات خشنة فلم تملك سوى الصمت والخيبة، تتنفس ببطء وقد تلاشى الغضب واحتل مكانه الحزن!
همست بصوت مبحوح يملأه الانكسار:
-"نعم مأمون جاءني يراودني عن نفسي، أراد امتلاكي بالقوة لعلمه رفضي له"
رفعت سبابتها مشيرة إلى مكان صفعتها:
-"وتلك الصفعة كانت ردي عليه تلاها طردي له.. والسبب كان أنت"
ناظرها بجمود وصمت أنهى على الباقي من أملها في تصديقها، اقتربت منه بهدوء تناظره بنظرة لوم وخذلان لم تظن أن توجهها له وهمست بسخرية:
-"هو كان أمامي طيلة الخمس سنوات الماضية، وإن كنت أريد الوصول إليه لفعلت"
سارت بنظراته عليه بنوع من الاستهانة ترد به كرامتها التي أهدرت:
-"لم أكن بحاجة إليك لجذبه إليّ"
رأت الشك في عينيه وبوادر حديث تلوح في نظراته وأدتها بكلماتها:
-"أتعلم!
مأمون لم يهدر كرامتي مثلما فعلت أنت الآن أيها الوزير"
هبطت دموعها دون إرادة منها وقالت بقسوة:
-"لم يجرؤ أحد على لمسي وإجباري على حبه غيرك، والآن أنت أول من أرفضه"
عادت خطوة للخلف وانحنت بجمود ترسم ابتسامة باردة على شفتيها:
-"مرحبًا بعودتك أيها الوزير، أتمنى أنها كانت سفرة مثمرة وجيدة"
ألقت كلماتها والتفتت لترحل من أمامه دون أن تستمع لرده، تريد الهرب من هنا بأي طريقة كانت.. لكنها توقفت أثر إمساكه بقوة من مرفقها تستمع لسخريته القاسية أشعرتها بالخزي:
-"أخبريني لماذا سأصدقك؟
ولماذا ستكذب هؤلاء الجواري إن لم يكن هذا حدث؟"
-"كفى.. لا تتحدث مرة أخرى جاد"
هتفت بصراخ باكٍ فشدد على قبضته رافضًا تركها يهز رأسه بلا، وأكمل بشراسة كرهتها:
-"لا دخان دون نار عزيزتي!
لماذا مأمون بالأخص من سيتهمونك معه كما تقولين؟
فأنا أعرف مأمون منذ زمن، لا يلقي بنفسه على من ترفضه.. فكيف سيجبرك وسام؟"
قرب وجهه منها يزرع عينيه في خلصتها بقوة هامسًا بقسوة:
-"إن لم يكن لقى منك استجابة"
لا يوجد عقاب في الكون كالشعور بالندم، يجعل الإنسان كالميت الحي!
ناظرته بصدمة غير مصدقة أنه يراها هكذا!
جذبت ذراعها بعنف وعادت خطوة للخلف ثم قالت بهدوء ساخر:
-"ماذا تحمل من إهانات أخرى؟
الاحترام الذي صنعته منذ أن دلفت هذا القصر، جعلته هباءً بما فعلته، أهدرت الثقة التي كانت تُبنى بيننا"
أدارت ظهرها له هاتفة بقسوة:
-"لن ترى وجهي بعد الآن أيها الوزير.. فليس من مقامك أن تكون على معرفة بعاهرة تلقي بجسدها في أحضان الرجال"
قاسية حواء عندما يتعلق الأمر بكبريائها!
تعرف متى تشن حربها!
ومتى تسن سيوفها؟
لكنها تناست أن السيف خُلق له، حياته بأكملها في ساحة الحرب، وحرب حواءه ليست بالمستحيلة عليه!
هدم جناحه رأسًا على عقب من فرط غضبه مما عرفه، ومن قبلها نفسه!
منذ متى وهو يحكم قبل أن يستمع؟
منذ متى يلقي الاتهامات دون دليل قوي وواضح؟
هل من الممكن أن يكون حديثها صحيحًا وهناك مؤامرة تُحاك ضدهما؟
استند على حافة الشرفة يقبض عليها بعنف حتى ابيضت مفاصله.
اسودت نظراته بقسوة وبداخله يقسم أن يعرف ماذا حدث ومن خلف ذلك؟
وإن كانت بريئة سيكون مشواره طويلًا لطلب غفرانها.
★★★★★
إذا وجدت نفسك متلبسًا بالغيرة على شخص ما
فتفقد أحاسيسك جيدًا فقد تكون في حالة حب وأنت لا تعلم..
فقليل من الغيرة بناء
وكثرتها قيد وسجن تهدم الحب وتمحيه!
معينة لكن توقفت عندما وجدت خديجة تتقدم منها بابتسامة باردة، فتنفست بعمق حتى توقفتا أمام بعضهما فبادرت خديجة بخبث :
-"مرحبًا ليان.. تبدين في أبهى صورك اليوم ، ترى ما الأمر؟!"
ضحكت بسخرية وترمقها بنظرات مترفعة وحاجب مرفوع ثم قالت بنبرة واثقة:
-"أنا دائمًا أكون في أبهى صوري خديجة، لا أعلم ما الغريب في الأمر؟"
تخطتها وكادت أن تذهب لكن توقفت عندما استمعت إلى صوتها مرة أخرى :
-"هل أنتِ ذاهبة لرؤية نيار؟"
لم تجبها ولم تلتفت لها حتى لتكمل بنبرة ذات مغزى وصلتها كفحيح أفعى لكنها ظهرت بريئة :
-"أتساءل حتى لا تتعبين نفسك بالذهاب إليه في الوقت الحالي..
كنت أريد رؤيته لكن يبدو أنه مشغول"
لتقترب منها حتى صارت خلفها مباشرة تهمس بخبث تبث سمومها وتعطيها طرف الخيط لبداية المشاكل بينهما :
-"عندما سألت أخبروني أنه برفقة إحدى جواريه ، يبدو أن المغوار قد عاد"
التفتت لها ليان بحدة لتراها توليها ظهرها وعلى وجهها ابتسامة ماكرة فقد حققت مرادها.
تسارعت أنفاسها بشدة، واتسعت عيناها بقوة قابضة على ثوبها تنفس عن غيظها.
اتجهت بخطوات رزينة نحو جناحه لتأمر الحارس بفتح الباب، لكنه تردد :
-"مولاتي.. جلالة الملك أمر ألا..."
أشارت له بسبابتها كي يصمت، ترمقه بنظرات حادة وثابتة، لتعيد جملتها بتأني ضاغطة على أسنانها :
-"لا يهمني الأوامر، إن لم تفتح الباب سأفتحه بنفسي وأعدّ نفسك لعقابي"
دب الخوف في جسده ليقوم بفتح الباب بعد تردد طويل، فاندفعت بقوة إلى الداخل تدور برأسها باحثة عنه.
وجدته جالسًا على كرسيه الكبير، يستند برأسه للخلف وفتاة تدلك كتفيه بدلال وغنج يثير الغثيان، وقفت صامتة تتأملهم بغموض حتى انتبهت لها الجارية فانتفضت للخلف تزيح كفيها عنه وتقدمت منها تنحني باحترام وتوتر.
وقفت أمامها بصمت لتشير لها ليان بالخروج، فحادت بنظرها بينها وبينه بقلق كأنه تنتظر أمره، فوجدته يبتسم بغموض وأعاد رأسه للخلف وقال بلامبالاة :
-"عندما تأمر الملكة فلا يتردد أحد عن التلبية.. أمرتك بالخروج فماذا تنتظرين؟!"
رفعت ليان حاجبها بسخرية وكبحت غضبها حتى يكونا بمفردهما، ففرت الجارية إلى الخارج عندما استمعت له.
أُغلق الباب خلفها ليصدح صوته الماكر غامزًا بعينه لها :
-"بما أنك قطعتِ وصلة الراحة خاصتي فعليكِ بتعويضي"
زمجرت بغيظ والتقطت الوسادة من جانبها تقذفه بها لكنه تفاداها بدهشة، وانحنت تلتقط أخرى لكنها وجدت ذراعيها مكبلة خلف ظهرها يحاصرها بين ذراعيه هاتفًا بمرح :
-"كفى ليان ما بكِ؟"
تحركت بهستيرية كي تتحرر منه لكنها لم تستطع، لتنظر له بغضب يشع منها وهتفت :
-"تتساءل ما بي؟
أنت ستظل كما أنت لن تتغير، تدعي الحب ومن الناحية الأخرى برفقة عاهراتك"
اتسعت عينيه بقوة من كلمتها ليهمس :
-"عاهرات!"
فصرخت أكثر :
-"نعم عاهرات.. من تلقي بنفسها على أي رجل لا تكون سوى عاهرة"
شدد من قبضته حولها وجذبها أكثر إليه، يضع كفه خلف عنقها يثبتها ثم صرخ بها حتى يسيطر عليها :
-"كفى ليان.. كُفي عن تلك الترهات، هل رأيتنا في وضع مخل؟"
حررت نفسها من قبضته بحدة وضربته بقبضتيها على صدره ليتراجع خطوة إلى الخلف من صدمته جراء فعلتها وهتفت بغضب بلغ أقصاه منها بكلمات خرجت بتلقائية :
-"هل تعلم ما المخل نيار؟
هو أن فكرة وجودك مع غيري جاءت على كرامتي وكبريائي، مما يجعل شخصية مثل خديجة تقف أمامي متشفية بخبث لعين أنني لا أدري ما يفعله زوجي"
ضحك بقوة من حديثها حتى دمعت عيناه.. حبيبته تغار وهذا ما أراده!!
وإذا غارت المرأة على رجلها فإن غيرتها تكون مزدوجة..
غيرة على الرجل، وغيرة من المرأة فتكون آلام غيرتها مضاعفة!
راقب عينيها تتسع بذهول من ضحكاته، ظنت أنه يسخر منها فكادت أن تستدير مندفعة للخارج تهتف بغيظ تشيح بيدها في الهواء :
-"سأجعلك تعرف جيدًا من أنا، سأجعلك تندم على هذا أعدك"
لم تصل إلى الباب حتى وجدته يجذبها من خصرها يديرها إليه، ثم دفعها برفق إلى الحائط خلفها يحاصرها بينه وبين صدره، يحاول كبح ضحكاته حتى يكبح غضبها، ثم وضع كفه فوق وجنتها لتزيحها بشدة، فتسللت نحو خصرها يجذبها إليه وقال بهمس :
-" تغارين أليس كذلك؟"
رمقته بغضب وكادت أن تتحدث لكنه وضع إصبعه فوق شفتيها وأكمل :
-"أتعلمين لأول مرة أجد فائدة لخديجة في هذا القصر، لقد تعمدت أن يصل الأمر لها بوجودي مع جارية بمفردنا بأسوأ صورة لأنني أعلم أنها ستهرول إليكِ.. وظني لم يُخب فلقد استطعت إثارة غيرة حبيبتي"
دفن وجهه في عنقها يستنشقه، ثم وضع شفتيه على عرقها النابض برقة جعلت قشعريرة تسير في عمودها الفقري متناسية غضبها.
أغمضت عينيها بتأثر، ليرفع وجهه يتلمس وجنتها بأرنبة أنفه قبل أن يضع يطبع قبلة على جانب شفتيها :
-"لا تعلمين كم أن مذاق غيرتك لذيذ..
حقًا أحببت غضبك كنمرة شرسة تهاجم ذئبًا حاول التعدي على ممتلكاتها"
كلماته كانت تحتوي على كثير من العلامات، يشيد بقوتها، إعجابه بها في إظهار غيرتها.. وتصريحه بأنه ملكها فقط.
وضعت كفها خلف عنقه ترفع رأسه إليها، ثم أمسكته من ياقة ردائه تجذبه وهمست بشراسة تدافع عمن لها، وأنفاسها الحارة تلفح صفحة وجهه :
-"نعم أغار بشدة عما هو لي..
عندما قررت الزواج مني حينها حُرمت عليك أي فتاة أخرى غيري"
لتدفعه فجأة تهمس بهدوء مميت :
-"وأنا لا أترك ممتلكاتي لأحد نيار"
لم تستمع إلى كلمة أخرى وخرجت من الجناح تتوعد له لكن من داخلها سعيدة للغاية وابتسمت بشدة وحب لهذا المستفز.. تركته خلفها وضحكاته تصلها وهمس لنفسه :
-"تمت المهمة نمرتي"
★★★★★
أخبروه أن يُصادق الذئاب على أن يكون فأسه مستعدًا
لكن لم يخبروه أن الأفاعي أشد خطرًا عليه!
لا تُرى، لا تشعر بها، وفي لحظة تبخ سمومها!
فالخيانة كالموت لا تأبه بالفوارق!
ربت إلياس على عضديّ صديقه بعدما طلب رؤيته عند علمه بعودته من الجنوب..
رأى الجمود في نظراته وعلم أن به شيئًا فسأله بحذر :
-"كيف حالك جاد؟
هل أنت بخير"
أجابه بابتسامة صادقة لرؤيته وقرر ألا يتطرق لما حدث بينه وبين وسام، فهذا الأمر يخصه وحده.. لكن الآن عليهما الانتباه إلى ما علمه من فتون :
-"أنا بخير يا صديقي لا تقلق"
لم يصدقه فترك له حرية التحدث، فعاجلًا أم آجلًا سيعرف:
-"وماذا حدث هناك؟
إلى ماذا توصلت أنت والشيخ مع تلك الفتاة؟"
تنهيدة عميقة خرجت من صدره أثارت دهشة إلياس، فنظر له بحاجبين معقودين، عاقدًا ذراعيه خلف ظهره يقابل نظرات جاد الغامضة بنظراته المتسائلة يحثه على التكملة، فتقدم إلى الطاولة الموضوعة في منتصف الجناح يتناول كأس الماء يتجرعه بالكامل قبل أن يقول بجدية وتروي :
-"لقد تحدث بدر الدين مع فتون.. لكن لم أكن أتخيل أن يصل بها الحقد في قلبها تجاه سارية إلى هذا الحد!
أن تضع يدها في يد خائن كي ترضي حقدها وكرهها"
تنهد إلياس ضاغطًا على كفه بقوة وهتف بنفاد صبر:
-"جاد أخبرني ماذا حدث دون توقف ومقدمات؟"
سرد له لقائهما معها وحديثها، فيزداد غضب إلياس مع كل كلمة يقولها صديقه..
هل يمكن أن يصل الحقد والكره من شخص يفترض أنه يسمى صديق؟
هل هذا رد الجميل لشخص مثل بدر الدين أراد الطريق الصحيح لهم؟!
لاحظ أن جاد توقف عن الحديث بعد أن قال :
-"لكن الشخص الذي لجات له ليس بغريب، بل قريب للحد الذي لا يصدق"
نظر له بأعين ضيقة ونظرات متسائلة عما يقصده، وقبل أن يتحدث وجد الباب يطرق ويتقدم الحارس منحني الرأس :
-"مولاي.. الملك نيار بالخارج يطلب الدخول!"
طالبه بالدلوف فورًا، لا يعلم لماذا كان يود قدومه في هذه اللحظة؟
لديه شعور أن ما سيسمعه لن يستطيع تحكم أعصابه فيه..!
لاحظ نيار جاد فرحب به على عودته سالمًا، وسأل عما يحدث فأجابه إلياس باختصار عما سرده صديقه، نظر نيار له بدهشة :
-"من تقصد؟!"
حول نظراته بينهما، لا يعلم ردة فعلهما عندنا يعلمون أن من ساعد فتون ليست سوى ابنة عمهما خديجة!
نيار يغلبه اندفاعه وغضبه وهذا لا يبشر بخير..
أما إلياس فغضبه الكارثة بحد ذاتها لأن ردة فعله لا يمكن توقعها؟
طالعهم بقوة وجدية قبل أن يهتف :
-"الأميرة خديجة"
صمت احتل الجناح لا يكسره سوى الأنفاس الخارجة منهم بمشاعر مختلفة!
نيار جحظت عيناه بقوة لا يصدق أن كل ما حدث سببه خديجة؟
إلياس أظلمت نظراته بغموض ووتيرة أنفاسه ثابتة كأنه لم يسمع شيئًا، ولم يخرج منه ردة فعل غير همسة واحدة :
-"كيف..؟!"
أجاب جاد بحذر بعد أن رمق صديقه بنظرات قوية يحاول قراءة أفكاره :
-"الأميرة لها خادمات خارج القصر، يجلبون لها كافة الأخبار ومن بينهن فتون، أرادت أن تؤذي سارية فلجأت إليها وصادف الوقت الذي بعث فيه الملك نيار الجندي للبحث عنها.. استغلت وجوده وأخذته إليها لتكون خطتها أن يأخذ مارية إلى الشمال فترة من الزمن حتى تحقق مرادها"
اشتعل أوج غضب نيار وهو يستمع إلى ما يقوله جاد:
-"وهذا لتنجح في إرسال سارية إلى هنا!"
نظر إلياس إلى أخيه بنفس الغموض لكن عيناه اشتد سوادهما أكثر من ذي قبل :
-"وماذا أكد لها مجيئها؟"
جاء الرد من جاد :
-"لأن فتون أخبرتها أن مارية دلفت إلى هذا القصر كجارية خاصةً أن موعد الاحتفال قد اقترب.. تعلم كره سارية للقانون وأنها لن تجلس صامتة"
تساءل نيار هذه المرة بعد تفكير عميق :
-"يبقى السؤال الأهم.. من قتلها؟"
ضغط إلياس بقوة على فكيه فاصطك صفيّ أسنانه، قابضًا على قبضته بشدة حتى ابيضت مفاصله!
هتف نيار بغضب مرة أخرى ملقيًا الكوب بقوة في الحائط متهشمًا إلى أجزاء صغيرة:
-"لن أستبعد أن تكون هي القاتلة بعدما تأكدت أن سارية ستحتل مكانة هامة هنا بعد أن كان مصيرها كالجواري.. فقررت الانتقام"
جاءه همس إلياس كأنه يخرج من بئر عميق يثير الخوف في القلوب وعينيه مثبتة على نقطة في الفراغ :
-"هذا السؤال لن يجيب عليه سواها"
تقابلت نظرات جاد ونيار في توتر للحظات..
يعلمان ما يكمن خلف هدوئه ونظرته الثابتة، فتقدم منه أخوه يضع كفه على كتفه مشددًا عليه وقال :
-"إلياس.. دعني أتولى هذا الأمر، لا أفضل أن تتحدث معها في حالتك هذه"
التفت له برأسه يرمقه بثبات وقال :
-"لا ، لن يتحدث معها غيري"
لم يكد ينهي جملته حتى اندفع للخارج بثورة قاصدًا جناحها، فكاد نيار أن يلتحق به لكن يد جاد التي تمسكت بمرفقه أوقفته قائلًا :
-"أتركه مولاي.. طالما قرر فعل شيء لن يستطيع أحد ردعه"
هز رأسه بيأس تاركًا زمام الأمور لأخيه الذي خرج بغضب وخطوات تكاد تحفر خندقًا في الأرض، لا يرى أمامه غير الشر المتجسد في هيئة خديجة.
الغضب في عينيه يشبه زلزال أسفل بحر هائج، كان هياج أمواجه ردة فعل عنه!
كانت ترى كل ما يفعلوه كي يصلوا إلى الفاعل الحقيقي وتتعامل ببراءة وهي المتسببة في كل شيء!
بل لم تستحِ على نفسها وذهبت تتعاون مع والدته كي تؤذي زوجته!
صفع باب الجناح بقوة فرآها جالسة أمام مرآتها تحيط بها وصيفاتها.
رأت انعكاسه خلفها واقفًا بشموخ واضعًا ذراعيه خلف ظهره فصاحت بالجميع آمرة :
-"هيا إلى الخارج، لا أريد أن يزعجنا أحد"
ثم تقدمت منه بلهفة:
-"لا أصدق أنك أتيت إلى جناحي بنفسك إلياس!"
أرادت احتضانه لكنه سبقها بإمساك خصلاتها من الخلف بقوة حتى كاد أن يقتلعها بيده، فخرجت صرخة عالية منها سبقتها شهقة مليئة بالصدمة، تضع كفيها فوق يده، تحاول فك قبضته عن شعرها فلم تستطع..
هبط على أذنها هامسًا بحدة :
-"أتعلمين خديجة.. أنا لا أكره في حياتي غير الخيانة، لا أبغض شيء سوى أن يستهين أحد بي، ولهذا قاطعت أمي طيلة هذه السنوات!"
تسارعت وتيرة أنفاسها، تتحرك بين يده لتفلت من قبضته وقالت بعدم فهم حديثه :
-"لا أعلم شيء عما تتحدث عنه.. خيانة ماذا، واستهانة بمن؟!
أقسم لا أعلم ولم أفعل شيء!"
صرخ بغضب يهز رأسها بين يده بقوة :
-"كاذبة.. لا تقسمي ولا تأتي بلفظ الله على لسانك..
كفاكِ قذارة!
لا أعلم كيف كنت سأتخذك زوجة لي وملكة لبلادي؟
كيف كنت سأتخذ قاتلة زوجة؟
من أين جاء كل هذا الحقد والشر أخبريني؟"
أنهى كلماته بصياح يدفعها بقوة فسقطت على الأريكة وارتدت رأسها على حافتها الخشبية، شعرها انتشر على جانب وجهها وثوبها حول ساقيها.
طالعها من أعلى وصدره ينتفض من ثورته، فالتفتت له برأسها تطالعه بدهشة، للمرة الأولى تشهده بهذا الغضب والحدة فقالت بصوت خفيض :
-"قاتلة!
أقسم لا أعلم ماذا تقصد ومن أين أتيت بهذا الحديث؟!"
ناظرته ببراءة مشيرة إلى نفسها :
-"هل تصدق أنني سأقوم بمثل هذا الفعل؟!"
تمثيلها الآن أمامه يثير بداخله الرغبة في قتلها الذي يحاول كبحها بشدة، امتدت يده إلى رقبتها يجذبها تقف أمامه ضاغطًا على فكيها بقوة :
-"لن أصدق غير هذا على شخص كان تحت تربية ومراقبة رقية طوال حياتها فأصبح كالمسخ لها..
هل تريدين مني إخبارك عمن أقصد؟!"
دفع رأسها للخلف مرة ليرتد للأمام ومازال ممسكًا بها، يراها مغمضة عينيها بألم لكنه لم يرأف بها وتحدث من بين أسنانه :
-"أنتِ السبب في كل ما حدث لمارية؟"
شهقت بقوة ودب الخوف في صدرها الذي ارتفع وانخفض تتسارع وتيرة أنفاسها، اتسعت عيناها برعب من حديثه، يرتعش جسدها بأكمله ترى عينيه السوداء تطلق شزرًا إليها فعلمت أنه اكتشف كل شيء.
كلمات كهرمان منذ أيام أضاءت في عقلها فعلمت أن الأوان قد فات ووصلوا لفتون قبلها!
حاولت التحدث لكنه أوقفها بوضع يده حول عنقها والأخرى أمسك خصلاتها وهمس لها بصوت دب الخوف أكثر بها :
-"إياكِ والكذب!
وإلا أقسم بالحي الذي لا يموت لن أتردد قط عن قطع رأسك لتكوني عبرة.."
لم يكن هناك شيء تفعله في هذه الحال غير أنها أومأت برأسها عدة مرات.. دفعها للخلف حتى كادت أن تسقط، لكنها تماسكت، فسعلت بقوة قبل أن تقول بصوت محشرج :
-"لم أكن أعلم أن كل هذا سيحدث..
كل شيء بدأ عندما جاءتني فتون تخبرني أن هناك فتاة تنغص عليها حياتها وتريد التخلص منها..
صادف هذا حضور الجندي الذي بعثه نيار للبحث عنها ومن مواصفاته اتضح أنها صديقتها..
أخبرتها أن نسلمها له مباشرةً لكنها أخبرتني أنه من الصعب فعل هذا"
فركت كفيها ببعضهما بتوتر لتكمل وهي تخطو للخلف تبتعد عنه :
-"أخبرتني بكرهها لقانون القصر هنا، فقمت باستغلال هذا لاستدراجها إلى القصر، وبهذا تقع في يد نيار"
حك ذقنه بتفكير بعض لوقت لتتأمله بحذر حتى استدار لها بأعين ضيقة يتقدم نحوها بثبات جعلها تزدرد لعابها بصعوبة :
-"لكن ما لا أستطيع فهمه، ما الذي جعلك متأكدة أنها ستأتي إلى هنا؟"
-"ما كنت متأكدة منه أنها عندما تعلم أن صديقتها اتُخذت كجارية لن تهدأ حتى تسترجعها"
جذبها من مرفقها بقوة حتى كاد يُخلع في يده فصرخت بألم وهو يصيح بها :
-"من أجل خادمة خائنة تضعين اسمي ومملكتي في الوحل وأكون في أعين الجميع منافق!
من الظاهر ينادي باحترام الجميع وإكرام الفتيات.. وفي الخفاء يأخذهن سبايا؟"
كان يهزها في حديثه بعنف ولم يأخذه بها رأفةً:
-"لأجل حقدك تقتلين فتاة بريئة لا دخل لها في شيء؟
بسببك كنت سأتسبب بالأذى لسارية دون وجه حق لأنني ظننت أنها تكذب!"
كانت تستمع له مطأطأة الرأس في خزي حتى قال جملته الأخيرة فثارت مشاعر البغض والغصب بصدرها نحوها، وأن كل ما يشغله هي فقط..
بسببها جعلتها تقوم بفعل هذا ليكون في النهاية كره إلياس لها هو الناتج!
فصاحت بكره ظهر جديًا في نبرتها :
-"سارية.. سارية.. سارية!!
بسببها كل هذا حدث، لولا وجودها لما قدمت على تلك مساعدة.. ظننتني سأبعدها عن طريقي لا أن تأخذ مكاني في القصر"
اقتربت منه ووضعت كفيها على كتفيه ممسكة بثيابه وقالت بهمس عاشق :
-"وكان أول ما أخذته قلبك..
أنا من كانت ستصبح زوجتك..
أنا من كانت ستصبح الملكة وليست هي!"
ابتعدت خطوات للخلف وأولته ظهرها تتابع بكره أكبر وغيظ وأعماها حقدها :
-"للحظات كنت سأتوقف عن إخفاء مارية ليخرجا من حياتي، لكن بعد أن رأيت تبجحها، لم أجد فائدة من إيجادها مارية، بل أكبر عقاب لها أن تظل في حيرتها وحرقة قلبها لينتهي الطواف بكذبها أمام الجميع وعقابها، وبعد ذلك ....."
التفتت بوجهها له تتابع حديثها لكن صدمتها صفعة هبطت على وجنتها اليمنى بقوة جعلتها تسقط على الأرض، وصوت تأوهها يرتفع من الألم، لترفع رأسها في نفس الوقت الذي تفاجأ به إلياس من صوت الصفعة وسقوط خديجة.
استدار لجانبه فرأى سارية تنظر لها بوجه شديد الاحمرار من المفاجأة، الانفعال يظهر في عينيها المتسعة، أنفاسها يسمعها الجميع بوضوح.
تقف بجانبه بتعبيرات متألمة غاضبة وثائرة، ترمقها بعدم تصديق أنها السبب بكل هذا!
جاءت إلى هنا عندما أخبرتها إحدى الجواري بغضبه وتقدمه نحو جناحها، فخافت أن يكون حدث شيء كانت السبب فيه، فأسرعت حتى ترى ماذا حدث، وتحاول كبح غضبه عنها.
وقفت عند الباب تستمع إلى كلماتها الأخيرة بصدمة فهمت منها أنها خلف كل هذا العذاب الذي عاشته الفترة الماضية!!
خرج صوتها كالآتي من بعيد دون مشاعر سوى الدهشة :
-"أنتِ سبب عذابي!
أنتِ خططتِ لكل هذا الشيء!"
تعالت وتيرة صوتها بحشرجة وغلالة من الدموع ظهرت في عينيها :
-"تلاعبتِ بحياتي وحياة الجميع لأجل ماذا؟
لأجل إرضاء فتاة يملأها الحقد منذ الصغر!"
لم تشعر بدموعها التي هبطت على وجنتها بغزارة تفكر في العذاب الذي عاشته مارية قبل موتها بسبب لعبتهن الحقيرة، فاقتربت منها باندفاع تريد إخراج كل ما يعتمر قلبها من الغضب والثورة، لكن أعاق طريقها وقوف إلياس وإمساكه مرفقيها يكبح غضبها.
إن كان غاضب فهو يستطيع التحكم بنفسه، لكنه يعلم غضبها لا تستطيع إيقافه خاصةً عندما يتعلق الأمر بهذا الحادث.
صاحت بقوة ولم ترَ أمامها غير مظهر مارية مقتولة، فحاولت إزاحته من أمامها ومازالت نظراتها على خديجة التي ارتعبت منها في هذه اللحظة :
-"أتركني إلياس..
هذه الفتاة لا يحق لها الحياة بينما سلبتها من أخرى بريئة لا ذنب لها في أي شيء
أنت قلتها إلياس.. عقوبة الخيانة الموت!"
حاول تهدئتها مناديًا باسمها عدة مرات لكنها لم تعطه انتباهًا، فأحاط وجهها بين كفيه مجبرًا إياها على النظر إليها، فقابلها بأعين جامدة في الظاهر لكن خلف هذا الجمود حنان خاص بها وحدها يطمئنها :
-"سارية أهدأي، أخبرتك سآتي بحق مارية، سأجعل نار قلبك تثلج فلا تقلقي"
تهدلت أكتافها بيأس وتعالت شهقتها ببكاء ودموع تهبط بلا توقف، فضمها بقوة يغلغل أصابعه في خصلاتها بحركات دائرية هامسًا في أذنها :
-"أهدأي سارية.. لا تبكِ"
كانت خديجة ترمقهما بحقد دفين تستند بكفيها على الأرض، جسدها كله ينتفض من الغيظ من حنانه الذي يصبه عليها فقط ولم ينلها منه غير الغضب.
جذب أنظارها نصل سكين الفاكهة الموضوع على الطاولة يتلألأ أسفل انعكاس شعاع الشمس عليه، فاشتعلت فكرة التخلص منها بشدة في عقلها لعل قلبها يرتاح ولو أيقنت موتها بعدها.
لم تفكر مرتين وهي تزحف بسرعة تلتقطه تريد طعنها، لكن منعها كف إلياس الذي لاحظ ما تنوي فعله يقبض على نصله ضاغطًا عليه بقوة يبعده عن ظهرها بمقدار إنش واحد فقط!
سمعت سارية شهقة جاءت من خلفها، وتيبس جسده بين ذراعيها، فعقدت حاجبيها بدهشة وعدم فهم.
ابتعدت برأسها تنظر لوجهه، رأت عينيه مثبتة خلفها!
استدارت بنصف جسدها ترى ما حدث ثم صرخت بفزع وهي ترى قطرات الدماء تتساقط من كفه، وكف خديجة ممسك بالخنجر من الجهة الأخرى.
وضعت كفها بلهفة على قبضته هاتفة بفزع وقلق :
-"إلياس أتركه لقد جرحت نفسك"
لم يستمع لها، بل جذبها خلف ظهره ثم هبط على صدغ خديجة بصفعة رج صداها في الجناح بأكمله لتسقط على الطاولة ثم على الأرض يقابل وجهها الأرض.
شهقت سارية برعب وأعين متسعة مما ترى من غضبه، واضعة كفيها على فمها..
ففي أحلامها لم تتوقعه أن يكون بتلك الهيئة فالتفتت للحارس بالخارج أخبرته أن يسرع بإحضار جاد و نيار.
جثى على ركبته اليسرى بجانبها على الأرض يجذبها من جانب رأسها بشدة جعلتها تصرخ من الألم لم يأبه له فهي تستحقه..
يرى خط من الدماء يسيل من فمها وصفعته ظهرت علامتها على وجهها :
-"لم أحاسبك على مشاركتك في تلك اللعبة القذرة!
لم أحاسبك على اختطافك للفتاة، ولا على أفعالك مع سارية!!
لم أحاسبك على مشاركتك في تسميمها"
شدد على قبضته أكثر يهز رأسها بين يده وصرخ بغضب جمّ :
-"والآن لم تكتفِ بكل هذا وتريدين طعنها"
صفعها مرة أخرى على الوجنة الثانية فارتد وجهها في الاتجاه الأخرى، اتسع فم سارية بقلق غير إرادي عليها.
في نفس الوقت دلف نيار وجاد مسرعين إلى الجناح ليفزعا من مشهدها وأثار الصفعات على وجهها، وإلياس في أوج لحظات ثورته لن يجرؤ أحد على التحدث معه في هذه اللحظة.
كادت سارية أن تخطو نحوه تريد منعه مشيرة بذراعها ليتوقف، لكنه رمقها بقوة صائحًا :
-"لا تتقدمي سارية.. ولا دخل لأحد منكم"
التفت مرة أخرى لخديجة جاذبًا إياها لتنظر له، فالتفتت بوجه وجسد منهك لكنه لم يثرْ به أي نوع من الشفقة ليكمل :
-"أخبريني على ماذا سأحاسبك وكيف خديجة؟
أحاسبك على الخيانة؟
أم على القتل؟!"
كل ما خرج منها هو همسة وصلت لسمعهم بصعوبة تحاول التقاط أنفاسها :
-"أقسم بالله أن لا يد لي في قتلها..
هناك شخص آخر فعل كل هذا"
نظر جاد إلى نيار بدهشة وعدم فهم!
عقدت سارية حاجبيها بتعجب!
تقدمت خطوة تقف بين نيار وجاد هامسة بدهشة :
-"شخص آخر؟"
تنفست بقوة وأغمضت عينيها من شدة الألم الذي يعتمرها، ثم نظرت إلى نيار نظرات مطولة بغموض وصمت، فالتفتت الأنظار إليه بتعجب وعدم فهم، ليعقد ويرفع حاجبه متعجبًا من نظراتها له منتظرًا إجابتها:
-"هو من هذا القصر، قام بتأمين مكان هنا لا يستطيع أحد الوصول له ليضعها فيه لحين الانتهاء من كل شيء"
ثم توجهت بكلماتها إلى نيار الذي اتسعت عينيه بصدمة وتوقفت أنفاسه للحظات :
-"مأمون..
وزيرك المخلص من ساعدني في كل هذا، وهو من قتلها"
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤