الحياة عقبات
وبين كل لحظة والثانية تعطيك الحياة ضربة حتى تفيق وتراجع أمورك مرة أخرى.
هي بالفعل تشعرك بالوجع.. لكن هناك مقولة "إذا انكسر لك ضلع فسينمو لك أربعة وعشرون آخرون"
لكن ما هو الشعور إذا جاءت الضربة من أقرب الناس لك؟!
وجع.. ضعف.. أم انكسار؟!
ثمة حكمة تقول
من الصعب القبض على قطة سوداء في غرفة مظلمة!
ولا سيما إذ لم يكن ثمة قطة في الغرفة من الأساس!
ولهذا ليس من السهل كشف الحقيقة بسهولة سوى بالتفكير بعقل عدوك!
حينها ستتمكن بالإمساك بكافة الأدلة على وجودها..
وقف نيار في مجلسه وأمامه مجوعة الطهاة المسئولين عن طعام الملوك في القصر بعدما أمر بإحضارهم للتحقيق في واقعة تسميم سارية بنفسه.
كان يسير أمامهم جيئةً وذهابًا بهدوء يثير الرجفة في أطرافهم، واقفون يضعون أيديهم فوق بعضها ورؤوسهم منحنية بخوف لكنهم ينظرون لخطواته من أسفل أهدابهم، ثم حبسوا أنفاسهم عندما وقف أمامهم مباشرة وخاصة أمام كبير الطهاة يأمره :
-"أرفع رأسك وانظر إليّ سيد محمد"
ابتلع ريقه بتوتر ملبّيًا أمره، ليصطدم بنظراته الجامدة فخرج صوته محشرج :
-"أمرك مولاي!"
أجابه بصوت عميق هادئ :
-"منذ يومين أصيبت الملكة بتسمم بعدما تناولت طعامها..
والطبيب قال أن هناك كمية لا بأس بها من السم وضعت فيه"
ثم هبط إلى أذنه هامسًا :
-"ولا أحد غيرك مسئول عن تحضيره والإشراف عليه"
ابتعد عنه يراقب ملامح وجهه التي ازدادت توتر وخوف وحبيبات العرق التي طفت على جبهته، وتيرة أنفاسه تسارعت قليلًا من الاتهام المبطن الذي ألقاه سيده ليجيب بتلعثم :
-"مولاي.. أقسم لك لا أحد سيتجرأ على فعل شيء كهذا.. فما غايتنا من تسميم الملكة؟"
استدار له فجأة وهتف بالجميع ونظراته تجول بينهم بغضب وشراسة :
-"لكن الحقيقة تقول أن هناك من تجرأ وفعل ذلك"
صمت يستمع لفتاة كانت من ضمن الطهاة :
-"مولاي نقسم لك أننا لم نضع أي شيء للملكة فأنا من قمت بتحضير العشاء لها تلك الليلة ووضعته بجانب الموائد الأخرى حتى جاءت وسام وأخذته لها"
نظر لها بدون تعليق وبهدوء حتى قال بلامبالاة :
-"حسنًا طالما الجميع يؤكد أنه بريء، فسأعتبر أنكم المسئولين عن الحادث وسأجعلكم عبرة للمملكة بأكملها"
كاد أن ينادي على حراسه ليأخذوهم ويضعونهم في السجن، لكن الفتاة هتفت بخوف لتهبط ممسكة بيده تبكي بقوة وهبطت كي تقبلها لكنه جذبها بدهشة وهو يستمع لها :
-"مولاي أرجوك لا.. أقسم لك أنه لا ذنب لي ولا لأحد منا، سأحكي لك عما حدث في تلك الليلة لكن حبًا في الله ارحمنا"
نظر لها من علو بغموض وأمرها بالنهوض ثم بدأت تتحدث :
-"دلفت السيدة حكيمة إلى المطبخ، ككل ليلة تشرف على الطعام، لكنها ولأول مرة تسأل عن طعام الملكة سارية فهي كانت لا تلقي بال إلا للملكة رقية وجلالتك فقط، فأجبتها بصفاء نية فأومأت لي ثم انتظرت قليلًا وخرجت مثلما جاءت"
رفعت نظرها له برجاء ودموع وقالت بصدق :
-"أقسم أن هذا كل ما حدث"
-"السيدة حكيمة!"
همس بها في نفسه ليلمع في عقله اسم آخر تمنى ألا يكون خلف كل هذا وإلا يقسم أنها ستكون النهاية لصاحبه.
أرسل حارسه إلى جناح سارية يخبر أخيه بضرورة المجيء إليه لأمر هام في الساحة الخارجية للقصر.
لبى الآخر الأمر ليجده في انتظاره.
فتقدم منه واضعًا يده خلف ظهره والأخرى بجانبه ليقف بمحاذاة كتفه :
-"ما الأمر نيار؟
بعثت لي حارسك للقائك هنا فماذا حدث؟!"
تنهد بقوة قبل أن يلتفت إلى أخيه وقال بهدوء :
-"لقد وعدتك بالنظر في حادث التسمم لكن ما توصلت إليه أُبقيه لكْ فأنا لن أكبح زمام غضبي إن تحققت شكوكي"
عقد حاجبيه بعدم فهم وتساؤل ليترجم سؤاله في حديثه :
-"إلى ماذا توصلت؟!"
أشار برأسه إلى شيء خلفه فرأى الحارس ممسكًا بسيدة تبدو في العقد الرابع من عمرها تحاول الإفلات منه وعلى وجهها الخوف والتوتر تقترب منهما.. لم يتعرف عليها فسأله :
-"من تكون؟"
أجابه ينظر لها :
-"السيدة حكيمة كبيرة الخدم"
نظر له إلياس مرة أخرى بذات التعابير المتسائلة :
-"لماذا أتيت بها لم أفهمك؟!"
امتدت يده لتأخذ بكف أخيه ووضع بها القنينة المليئة بالسم التي وجدها في غرفتها بين ملابسها، عندما أمر الجنود بالتفتيش في كل إنش من مضجعها للعثور على أي شيء غريب أو يتعلق بالأمر.. نظر إلياس للقنينة بملامح جامدة يستمع لحديث أخيه :
-"الطهاة قالوا أنها كانت هناك وسألت عن طعام سارية بالأخص.. وهذه القنينة وجدت في جناحها"
ضغط عليها في كفه بقوة وملامحه تتحول للثورة والغضب، فوضع نيار كفه فوق قبضته واقترب منه:
-"تركت لك الأمر من أجل وعدك الذي قطعته أمامي، ولأنني أثق في عقلانيتك ورزانتك إلياس.. فتحكم في غضبك"
تركه وذهب، فنظر إلياس إلى حكيمة التي وقفت أمامه تكاد ترتعش من الخوف، محاولًا ضبط سيطرته على نفسه حتى لا يقتلها.. فكيف تجرأت على تسميم زوجته؟
ولكن صبرًا حتى يعلم من وراء تلك الخطة الحقيرة ، وما الذي تضمره بهذه الفعلة؟!
دفعها الحارس لتقترب أكثر من سيده الذي ناظرها ببرود ظاهري بينما يوشك على إزهاق روحها بين يديه :
-"أخبروني أنكِ كبيرة الخدم هنا، اعذريني فأنا لم أعرفك فمنذ خمسة سنوات كانت السيدة أحلام - رحمها الله - في منصبك"
انحنت برأسها وهزتها عدة مرات بحركة متوترة وقالت بتلعثم :
-"العمر لكَ يا مولاي، أخبرني كيف أخدمك؟!"
اقترب منها حتى وقف بجانبها لكنه معاكس لها ثم همس :
-"بالتأكيد تعلمين بما حدث مع زوجتي.. أريدك أن تخبريني بكل ما فعلتيه"
ابتلعت برعب دب في أوصالها وقالت بخفوت :
-"مولاي بالطبع الجميع علم بالأمر وحمدًا لله على سلامتها.. لكنني لا أعرف ما حدث صدقني"
هتف فجأة وهو يقبض على كفيه حتى لا يفعل شيء ضد مبادئه يندم عليه :
-"من الأفضل لك البدء في الحديث في محاولة لإنقاذ نفسك
فصدقيني أنا أكبح نفسي بصعوبة من فصل رأسك عن باقي جسدك"
كانت كالطير الجريح الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد محاولة اصطياد ناجحة، فملأها الخوف والدموع تغرق وجنتيها :
-"سيدي أنا مظلومة صدقني أرجوك لم أكن لأقدم على فعلة كتلك أبدًا"
فقال مدعيًا التصديق يدور حولها بخفة أثارت الرعب في جسدها :
-"يا لكِ من مسكينة!
صدقيني في وقت آخر كنت صدقتك"
ليضيف بعدها بغضب ممسكًا رقبتها بين يده وبالأخرى يرفع قنينة السم أمام عينيها :
-"ولكن تلك ماذا كانت تفعل في حجرتك؟!
هل دسها لكِ أحدهم؟"
تحول وجهها للأحمر من احتقان الدماء به تحاول التقاط أنفاسها التي على وشك إزهاقها فتحركت يديها بعشوائية محاولة التحرر، ليتركها في اللحظة الأخيرة، لتسقط أرضًا عند قدميه تشهق طلبًا للهواء وصوت توسلاتها يعلو.. ليصرخ بها باشتعال :
-"تحدثي يا امرأة إن كنتِ تنوين الحفاظ على روحك حية"
وضعت كفيها على خديها في حسرة تولول تهز رأسها يمنةً ويسارًا :
-"إن أخبرتك ستقتلني هي.. ستقتلني هي"
جثى على ركبته أمامها يستند بكفه على ركبته الأخرى، ووضع الآخر أسفل ذقنها يرفع وجهها إليه بحدة ليقول بفحيح :
-"من هي؟
إذا كنتِ خائفة أن تقتلك، فارتعبي لأنها إن لم تفعل فأنا من سيفعل.. فانجِ بحياتك وأخبريني"
لتنهار صارخة تمرغ يدها بالتراب :
-"إنها الملكة رقية..
هددتني إن لم أستمع لها ستعاقبني..
ليس لي دخل بهذا مولاي كله بغير إرادتي، أرجوك أرحمني"
غامت عينيه بالسواد ويديه تشتد على القنينة حتى أوشكت أن تنكسر بين يديه يرمق حكيمة باشتعال يهمس لنفسه :
-"الملكة رقية!"
رفعها ينظر لها بغموض والنيران تشتعل في عينيه وظلال توحي بانتقام قريب.
**********
يا من تتوهم أنك محور كل شيء
تظن نفسك الشمس والجميع كواكب في مداراتك
يا من تتوهم أنك الفائز الوحيد
لا تتمادى ولا تسعد كثيرًا
فالفوز بالخداع نهايته سقوط
جالسة في الحرمليك تتابع الفتيات بهدوء وراحة بال، تجلس بجانبها خديجة تعقد ساقًا فوق الأخرى تؤرجحها بدلال وتدندن مع الألحان التي تُعزف ثم التفتت لها قائلة :
-"أخبريني ماذا ستفعلين بعد أن فشلت خطتك؟"
ضحكت مليء شدقيها تهز رأسها بعدم فائدة ثم نظرت لها ترفع حاجبها من ضحكها بمكر :
-"لا فائدة منكِ خديجة.. أنا لم أكن أنوي قتلها فقط أردت أن تتألم قليلًا، وهذا الغرض تم وانتهينا"
قاطع الحديث صوت الحارس الذي هتف بدخول إلياس في هذه اللحظة.
نظرتا إلى بعضهن بدهشة من قدومه!
يضع يديه خلف ظهره وعيناه تدوران في المكان بأكمله يرى الفتيات يقفن باحترام، فابتسم بسخرية وهو يطالع نظرات الإغواء والإعجاب في أعينهن لينظر نظرة جانبية ذات معنى إلى الحارس ليهتف مرة أخرى :
-"الجميع للخارج، فهذا اللقاء خاص بالملك والملكة الأم"
خرجن جميعهن ولم يتبقَ غيره مع رقية وخديجة التي وقفت تنحني له هامسة بشوق ظهر في عينيها:
-"مولاي.. يبدو أنه يوم سعد لرؤيتك، يا لها من مفاجأة!"
لم يجبها ونظراته متسمرة على والدته التي تنظر له بشيء من الدهشة والتفكير في سر قدومه، فأحالت خديجة بصرها بينه وبين والدته لتحمحم بخفوت معتذرة :
-"يبدو أن لا فائدة من وجودي هنا.. سأرحل"
كادت أن تتحرك لكن استوقفها كفه المرفوع في وجهها، لتبتلع لعابها وعادت الخطوة التي تقدمتها ثم أشار بالجلوس فأطاعته مسرعة ونظراتها لم تهبط من عليه.
لا يزال ينظر إلى والدته مبتسمًا بسخرية :
-"كيف حالك أمي؟"
ابتسمت ملتقطة سخرية ابنها ووقفت بشموخ أمامه تتأمله من رأسه لقدمه لتقول :
-"لا أظن أنك اشتقت لوالدتك لتأتي إلى هنا لتتفقدني!"
قهقه بنوع من القوة يشوبها السخرية يربت على كتفها مرتين في حركة أثارت دهشتها..
فراقبت حركته ثم رفعت نظرها إليه بنصف عين :
-"بالطبع.. عندما تختفين علينا أن نتفقدك"
وقف خلفها هابطًا إلى أذنها وهمس بفحيح شرس ، نظراته تحمل اشتعالًا مما يحوم في صدره :
-"فغيابك بشكل مفاجئ لا يبشر بالخير، على الجميع توخي الحذر منكِ"
التفتت تنظر له بحدة ضاغطة على أسنانها، وتوسعت أعين خديجة الجالسة خلفه والتي انتفضت بخوف وقالت بتوتر :
-"مولاي ما الذي تقصده؟
فالملكة بالتأكيد لن تفعل أي شيء، فهي ....."
صرخ من بين أسنانه يلتفت برأسه مشهرًا سبابته أمامها :
-"لم أطلب منكِ التحدث، فلا أريد سماع صوتك حتى آمرك بذلك"
انكمشت في نفسها بتوجس تفرك كفيها ببعضهما، ليلتفت إلى رقية التي صرخت به بقوة :
-"إلياس انتبه لحديثك جيدًا أنت لا تتحدث إلى أحد جنودك، فأنا والدتك وهي خطيبتك فاحذر كلماتك جيدًا"
أنهت صراخها وجلست برأس مرفوع بعدم اهتمام، ليضحك بقوة وتقدم خطوات قليلة يرفع قدمه يستند بها على الطاولة الدائرية أمامها، يستند بمرفقه عليها وينظر لها بغموض، ثم رفع أمامها قنينة السم التي أخذها من حكيمة وقال بسخرية :
-"أخبريني ما علاقتها بتلك القنينة؟!
فهذه تحتوي على نفس السم التي تسممت به زوجتي، وللصدفة الجمة كانت بحوزة السيدة حكيمة"
أدارت رأسها ببطء تنظر لها بلامبالاة وابتسامة جانبية، ثم رفعت عينها إليه بهدوء لتقول :
-"لم أفهم ما علاقتي بالأمر؟
كونك وجدت هذه في غرفة حكيمة هذا لا يعني أنني من أمرتها، فلتسألها"
اقترب بجسده منها أكثر يذم شفتيه بتفكير قبل أن يقول :
-"حكيمة أخبرتني بخطتك الحقيرة، ولا أظنها غبية حتى تزج بكِ في حديثها افتراءً عليكِ"
ثم نظر إلى خديجة ينظر لها من أعلى لأسفل :
-" أنتِ وتلك التي تسير خلفك كالدمية ولا تفكر، حتى سيأتي اليوم وستجد نفسها مسخ منكِ"
كادت أن تبكي من فرط توترها، فحاولت أن تتحدث:
-"إلياس أسمعني أنا ...."
ليسكتها بإشارة من سبابته، فعضت على شفتيها بقوة صامتة ليخبرها بقسوة :
-"سأستمع إليكِ عزيزتي لكن دعيني أنهي حديثي مع زوجة عمك أولًا"
ثم التفت مرة أخرى إلى والدته التي تنظر له بجمود وقال :
-"ها أنا أنتظر الرد"
رفعت حاجبها له بغضب وضغطت على فكيها هاتفة :
-"نعم أنا من أمرتها، ولن أندم قط"
تحولت تقاسيم وجهه إلى الشراسة وازداد سواد حدقتيه ثم قام بفتح القنينة ووضع في أكواب الشراب الخاصة بهما قطرتين من السم.
نظر لرقية مرة أخرى وفجأة سكب باقي القنينة على ملابسها، لتشهق بصدمة تتأمل فعلته بأنفاس مقطوعة، وتتوسع عيناها بشدة وشراسة حتى امتلأت شعيراتها الدموية بالدماء، ابتسم واقترب منها عيناه تسري على ردائها المبلل :
-"أخبرتك من قبل أن دمائكِ تسري بداخلي، ومن يجرؤ على أذية أحد من عائلتي عقوبته وخيمة..
لقد قمت بقطع رأس وزيري لأنه أخرج أسراري لعدوي، فما بالك بمن يحاول أذية زوجتي؟"
ضيقت عينيها وابتسمت بسخرية تنظر للكأس المسموم ثم ملابسها وقالت :
-"أتريد مني أن أشرب من هذا الكأس انتقامًا لزوجتك؟
أم إلقائك هذا السم فوق ملابسي أرضى غرورك أيها الملك؟!"
قالوا لا خير في ود امرئ متملق..
حلو اللسان وقلبه يلتهب..
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروع منك كما يروع الثعلب.
وهي منذ البداية لم يصدر منها سوى المكر والخبث فلا داعِ للمفاجأة!
ضحك بقوة يعود برأسه للخلف لينظر للسقف يهز رأسه بيأس :
-"أنتِ أذكى من أن تظني أنني سأفعل بكِ هذا"
ليهبط إليها بأعين شرسة ونبرة قاسية :
-"لكن هذا لا يعني أنني إذا أردتك أن تتجرعيه فستمنعينني!!
هذا فقط تحذير، هذه المرة أغرقتك به من الخارج ، تأكدي أن القادمة ستكون من الداخل..
واحذرِ لأنني وإن كنت صبورًا فصبري لن يطول"
خرج تاركًا رقية ترمق الكأس بغموض وغضب ولم تلتفت للفراغ الذي تركه، لتمسكه وتلقيه بعنف في الحائط فانتشر السائل على الأرض.. أنفاسها تلهث بغضب تقبض على كفيها بعنف :
-"كل مدى ورصيدك يقل لدي يا سارية.. لن أنسى أن ابني هددني بسببك!
لنرى.. فالعبرة بالنهاية"
إذا رأيت ذئبًا يقطف الزهور ثم يرميها، فلا تتعجب!!
هناك ذئاب آخرون على هيئة بشر يقطفون قلوب بريئة ويدهسونها دون رحمة أو شفقة!
وحظها العسر أوقعها بين أُناس لا يرتقون لمكانة الذئاب، بل هم ضباع يلقون ضرباتهم من خلف ويأكلون ضحاياهم باستمتاع!
وحتى الآن هادئة، تتلقى كل هذا بصمت وسكون..
لكنه صمت لبداية لهيب خارج من الجحيم، أو جليد يتشقق من البرود!
كانت جالسة في الحديقة في انتظار وسام لتأتيها بكوب الأعشاب خاصتها، فانتشلها من تفكيرها أبغض صوت لا تتمنى سماعه مطلقًا فهي ليست بمزاج جيد للجدال، لكن من ناحية أخرى رغبة المشاكسة بداخلها لا تستطيع الإنكار أنها اشتاقت له:
-"أرى أنكِ بخير حال وصحتك أصبحت على ما يرام لتستطيعي التجول بتلك الراحة؟"
رأت رقية واقفة بشموخ وغرور كما عاهدتها وتاجها الذهبي الكبير المستريح على كعكة شعرها يهبط منه وشاحها الذي لامس الأرض خلفها.
ابتسمت بسخرية وهي تتخيلها كباقي البشر دون الزينة والتبرج كيف ستبدو؟
وضعت كفيها فوق بعضهما على حافة الأريكة وأسندت ذقنها عليه تنظر لها ببراءة مصطنعة ثم همست تذم شفتيها السفلى للأمام :
-"نعم حالتي بخير، لكن أعذريني لن أستطيع الوقوف لتحيتك.. فأنا في حالة نقاهة"
أخذت رقية شرابها من الخادمة التي أمرتها بإعداده وإحضاره للحديقة قبل أن تفاجئ بوجودها به، فقالت وهي ترفع الكوب لفمها :
-"يبدو أن السم كان قويًا سارية.. صوت صراخك كان يصل لجناحي"
ارتشفت القليل من كوبها ثم نظرت لها رافعة حاجبها بتشفي مكملة باستمتاع :
-"أتعلمين صراخك كان له وقع أجمل من سيمفونيات الموسيقى التي تعزفها الجواري، حقيقةً كنت أتلذذ في هذا اليوم"
ابتسمت عندما رأت ابتسامة سارية، فهي تعلم أنها لن تستطيع استفزازها بسهولة، فأسلوب الحرب بينهما هو الحرب الباردة والنفس الطويل، لتقول بصوت متأني وكأنها تتدلل :
-"أحزنني أن استمتاعك لم يدم طويلًا، فمن قام بتلك الفعلة لم يخطط لها جيًدا وتجاهل أن لدي صديقة بجانبي وزوج يحميني"
ضغطت على فكيها بقوة وأناملها تضغط على الكوب ناظرة للفراغ، وقد بدأت كلماتها تثير غيظها لكنها تمالكت نفسها ببراعة وقالت بمكر :
-"أتشوق لأعرف ماذا ستفعلين بالفاعل؟!"
اعتدلت سارية في جلستها مبتسمة ورمقتها بنظرات غامضة قبل أن تستند بظهرها إلى الخلف مكتفة ذراعيها أمام صدرها تجيبها بنبرة شامتة :
-"أجعله يجلس معي يتناول شرابه بكل صدر رحب"
نظرت رقية لها بأعين جاحظة وأنفاسها تُحبس في صدرها، لتضحك بقوة تأخذ كوب الأعشاب التي ناولتها إياه وسام وشربت منه القليل لتعيد أنظارها إليها قائلة :
-"خطأك الوحيد أنكِ اخترتِ نوع سم نادر الوجود كما أنه باهظ الثمن ولا يخرج إلا لذوي الشأن الرفيع كالملوك والأمراء"
لتشرب القليل مرة أخرى من حليبها تنظر لها بتسلية:
-"وبالطبع لا يوجد أحد يستطيع الوصول له غيرك"
ضحكت رقية بقوة تضع كوبها على المنضدة أمامها وتصفق بيدها تحيةً فهي حقًا أثارت إعجابها :
-" لقد أثار ذكائك إعجابي يا فتاة"
لتضع سارية كفها فوق صدرها تحني رأسها للأمام علامة على رد التحية، لتكمل وقد كسى الجمود ملامحها ونظراتها تشتعل بتشفي ووعيد :
-"لكن لا تحزني صغيرتي، تلك كانت مجرد مزحة مني.. فالقادم أسوأ أعدكِ..
لا يهمني شفاؤك من عدمه لأن موتك لم يكن في المقام الأول عندي، بالعكس ألمك بمثابة سد جوع بالنسبة لي"
أنهت حديثها تلقي نظرة على وسام التي تقف بجانبها تضغط على كتفها كمن تساندها حتى لا ترتكب حماقة بهذه المرأة فتسوء الأوضاع أكثر.. ثم نهضت وذهبت في طريقها تتركهن يتطلعان لها في صمت.
نظرات سارية يشوبها الغموض ترمق خطواتها الخيلاء وكلماتها تعاد على أذنها، بينما وسام اجتاح القلق والتوتر على صديقتها من حديثها، لتلتفت لها بقوة وهتفت بها :
-"هل يمكنك تفسير ما حدث لي؟
كيف علمتِ بأمر السم؟!"
لم تتلق جوابًا فلكزتها برفق في عضدها هاتفة مرة أخرى..
تنهدت سارية بعمق تنظر إلى رفيقتها تجيبها :
-"لقد تحدثت مع السيد إبراهيم بأمر الحادثة.. فأخبرني أنه يوجد نوع من السموم طويل المدى يسبب ألم شديد بالمعدة، ومن الصعب الوصول إليه إلا لو كان ذو شأن رفيع لثمنه الباهظ"
كانت وسام تتطلع إليها ببلاهة شديدة تحاول أن تستوعب ما قالته، ثم هزت رأسها بعنف ولكزتها في ذراعها لتتأوه بألم هاتفة بها :
-"حتى وأنتِ مسممة وتتألمين تبحثين!
ألم يعدك زوجك أنه سيأتي بالفاعل؟!َ"
لفحتها بأعين مشتعلة ونظرات حارقة تضع كوب الحليب بعنف على المنضدة فتناثرت بضعة قطرات حوله وهتفت :
-"أحقًا أنتِ مقتنعة بما تقولين؟
كل ما في الأمر مجرد سؤال ألقيته على الطبيب وأجابني عليه، والبقية استنتجته بعقلي.. من غيرها يريد التخلص مني؟"
ذمت وسام شفتيها تفكير ممسدة جبهتها بأناملها لتقول :
-"وما أدراكِ أنها الملكة رقية؟!
من الممكن أن تكون خديجة"
ضحكت بسخرية وأجابتها :
-"لا أستبعد أن تكون خديجة مشاركة لها في لعبتها، لكن بالرغم من أي شيء فهي ساذجة لا تستطيع أن تهتدي لشيء بمفردها خاصةً لو كان خطيرًا كهذا"
ضيقت وسام عينيها بغيظ تهز رأسها بيأس من عقلها لتهمس أمام وجهها :
-"لستِ سهلة يا فتاة.. لكن إن كنتِ تظنين أن إلياس سيعاقب والدته العقاب الذي يريحك سيثبت فعلًا أنكِ غبية"
رفعت حاجبها ترمقها بغموض لتبتسم مقربة وجهها منها وهمست ببطء :
-"وإن فعل ذلك لن يكون إلياس الذي أعرفه وسام"
كادت أن ترد عليها لكن الظل القابع خلفها جذب انتباهها، لترفع نظراتها فوجدته إلياس يشير لها أن تصمت ولا تظهر أمامها رد فعل ينبهها بوجوده ، فابتلعت ببطء تقول بسخرية :
-"من أين تنبع تلك الثقة لا أعلم؟!
الآن تدافعين عن مبادئه؟!"
كزت على أسنانها بقوة من الغيظ لتمسكها من مرفقها تجذبها إليها وهمست بفحيح غضب :
-"أتعلمين لو لم تكّفي عن تلميحاتك هذه سأجعل منكِ وليمة لسيفي"
ضحكت بخبث وربتت على كفها وقالت تثير غيظها أكثر :
-"حسنًا لكن لم أتلقَ إجابة على سؤالي"
أغمضت عينيها بقوة تكبح لجام غيظها وهمست من بين أسنانها:
-"أذهبي من أمامي أيتها المستفزة حتى لا أصب غضبي عليكِ"
ضحكت بقوة ونهضت لتذهب فرمقتها سارية بغيظ وأخذت كوب حليبها لتشرب أكثر من نصفه فآتاها همسًا من جانبها جعلها تسعل بقوة من انتفاضها :
-"على رسلك يا نارية"
ربت على ظهرها برفق عندما سمع سعالها القوي حتى هدأت، فتناول كوب من الماء يسقيها حتى انتهت من شربها تنظر له بدهشة من ظهوره فجأة وهمست بلا وعي منها :
-"من أين ظهرت أنت؟!"
لم يجبها بل اكتفى أنه رفع حاجبه بتملق، ليلاحظ تعبيرات وجهها تحولت للغضب وهتفت به تحاول إزاحة يده من على كتفها بلا فائدة :
-"لن ترتاحوا إلا عندما أموت أمامكم..
لمَ لم تفتعل صوتًا عن مجيئك؟!"
ضحك بخفوت ليتركها ويعود لمكانه مرة أخرى، واستند بمرفقيه على فخذيه يميل بجسده للأمام في مواجهتها هامسًا بعيون متفحصة :
-"أخبريني كيف حالك اليوم؟!"
ابتسمت بغموض واستندت بظهرها للخلف مكتفة يديها أمام صدرها، وأجابته :
-"أنا بخير الحمد لله.. لكن أخبرني هل علمت من وراء ما حدث؟!"
قالت جملتها الأخيرة بنبرة ماكرة ونظرات بريئة أخفت المكر ببراعة، لينظر لها وقد التقطه من خلف أحرفها فسألها بهدوء وأعين متربصة كالصقر :
-"وإن أخبرتكِ ماذا ستفعلين؟
ما العقاب الذي سيريحك سارية؟"
بادلته نظراته الصقرية بمثيلتها لوقت ليس بطويل، ثم تنهدت تضع ظهر يدها أسفل ذقنها موجهة سؤالها له :
-"ماذا تعتقد إلياس؟
برأيك ما العقاب المناسب الذي يجب تنفيذه عليه؟"
لم يزح نظراته من عليها يجيبها :
-"أنا أسألك أنتِ.. لو أردتِ إجابة سأقول أنني أخذت حقكِ منه ولن يجرؤ على تكرارها مرة أخرى"
تنهدت تطرد الهواء من رئتيها بقوة عندما أخفضت نظراتها إلى كفيها القابعين على قدميها، ثم رفعت عينيها إليه وقالت :
-"طالما أخبرتني أنكَ قمت بما يلزم فأنا واثقة أنك لم تظلمني"
لتنظر أمامها بتفكير وعينيها مركزة على نقطة معينة في الفراغ وأكملت :
-"يكفي أنه لاقى عقابه جزاءً بما فعل"
ضيق بين عينيه يتأملها، يحاول سبر أغوارها ومعرفة هل هي ثقة أم تخطط لشيء ما في نفسها؟
يعلم أنها لو علمت أن من قامت بذلك والدته فلن يكون هذا رأيها!
فالكراهية بينهما والحرب الباردة تجعله متأكدًا أنها سترد لها ما فعلته إما بانفعالها وسخطها، أو ستدبر لها ما يبرد نارها.. وسيكون حقها، فهو حتى الآن لا يعلم كيف تماسك أمامها، لكن تعبيراتها كانت هادئة خالية من الغموض والتفكير.
تنهد بعمق رافعًا كفه يملس على لحيته شديدة السواد يفكر في قولها، فأخرجه صوتها من أعماق عقله :
-"أنت مندهش من حديثي صحيح؟
لم تصدق كيف بتلك السهولة أضع مسئولية الأمر والحكم بيدك؟!"
رفع نظراته إليها يرمقها بهدوء يبحث في وجهها عما تعنيه وعن إجابة سؤالها ليلتقط الإجابة من ابتسامتها التي لا تكاد تُرى ليقول بدهشة عارمة :
-"أنتِ تعلمين الفاعل!"
اتسعت ابتسامتها أكثر وتنفست بعمق رافعة رأسها لأعلى وأخبرته بما أخبرت به وسام قبل قليل قبل أن تعيد نظرها إليه وأكملت :
-"أنا أعلم أنه لو كان شخصًا آخر غير والدتك كنت ستأتيني به"
نهضت من مكانها تنظر له من علو ومازال يرمقها بغموض وكل كلمة تترسخ في عقله لتكمل بنبرة شابها النعاس قليلًا :
-"وأيضًا أنا متأكدة أنك أنهيت الأمر بما يليق بكرامتي.. والآن سأذهب حتى أرتاح فقد بدأ مفعول الشراب وبدأت أشعر بالنعاس"
أمسك كفها قبل أن تذهب لتقف، ثم نهض وأدارها إليه فنظرت له باستفهام وأعين غائمة فسألها بهمس وأنفاسه تلفح صفحة وجهها :
-"لماذا؟"
عقدت بين حاجبيها بتساؤل تهز رأسها بعدم فهم ليكمل :
-"لماذا لم تخبريني أنكِ علمتِ بالأمر؟
ولماذا تتركين حرية الحكم لي؟
ما الذي يجعلك تضعين ثقتك الكاملة بي؟"
بدأ النعاس يتملك منها فدلكت عينيها بطفولة حتى تنتبه له وتستطيع الإجابة، جعلته يتسمر متأملًا تعبيرات وجهها الطفولية وحركتها بابتسامة هائمة.. من يراه لن يصدق أنه الملك الذي تقشعر له الأبدان بمجرد ذكر اسمه، انتشله من تأمله صوتها الناعس متمسكة بلا وعي بصدره بكفيها :
-"لأنني أعلم شدة حميتك لعائلتك ورعيتك، كما إنك لا تترك أحد أخطأ دون أن يعاقب.. لهذا أعلم أنك تستطيع التصرف بما يليق بمكانة الملكة الأم وأيضًا تجعلني راضية"
تثاءبت تهز رأسها كالثملة وأكملت بصوت كأنه قادم من بعيد :
-"ولم أخبرك لأنني لم أراك طيلة اليومين الماضيين، كما أعلم أنك ستتوصل له"
يا الله كيف تجمع كل تلك الشخصيات فيها؟
منفعلة وطفلة.. هادئة وثائرة في آن واحد!
لمَ لا تبقى هكذا دائمًا؟
ضيق بين عينيه يتخيلها كالقطة المطيعة الهادئة، فذم شفتيه يهز رأسه بنفي بهمس وصلها:
-"لا.. لا يليق بكِ الهدوء، عهدتك ثائرة، قوية.. شراسة تحوي بداخلها الطفلة التي لن تظهر إلا على يدي وليست مجبرة بمفعول بضعة أعشاب"
همهمت بخفوت بكلمات لم يتبين معناها لينظر إلى رأسها التي استكانت على صدره وكفيها مازالت ممسكة بملابسه فوق صدره، فضحك بخفوت يهز رأسه بيأس، وأحاط كتفيها بذراع ينحني يضع الآخر خلف ركبتيها يحملها بهدوء يضمها إليه فكانت كالطفلة، خاصة عندما تمسحت برأسها على صدره وكأنها ترتب موضع نومها لتهدأ حركتها بعد قليل عندما وجدت مكانًا مريحًا في نومها.
نظر لها بدهشة ليضحك بخفوت وانطلق تجاه جناحها تحت أنظار الجواري اللاتي بعضهن يبتسم بسعادة لأنهم أحبوها والأخريات يملئهن الحقد منها لأنها في يوم مصيرها كان جارية مثلهن.
وصل إلى جناحها ودفع الباب بقدمه ، بينما كان يوازنها على ذراعيه، نظراته لا تفارق صفحة وجهها والابتسامة على شفتيه لا يستطيع التخلص منها، إنها تكاد تصيبه بالجنون في لحظة إقدامها، وشجاعتها تصيبه بالإعجاب.. وفي اللحظة الأخرى تتصرف كطفلة كما قبل قليل لا يريد سوى احتضانها وإخفائها، والله وحده يعلم أنه لم يعد يدري ماذا يفعل معها؟!
اقتربت وسام سريعًا منه عندما رأتها بهذه الحالة، فعاجلها قبل أن تتكلم بصوت عالي وتوقظها فهمس بصوت خافت :
-"أين كان عقلك وأنتِ تعطيها الحليب في الحديقة، ماذا لو لم آتي ونامت في مكانها؟!"
قال جملته الأخيرة بغيظ ينظر لها بأعين ضيقة، فضحكت بخفوت واضعة كفها فوق فمها وهمست له:
-"صدقني مولاي وجود جلالتك جعلني مطمئنة أن لو مفعوله بدأ ستكون بخير"
تنهد بعمق وأكمل سيره وقال :
-"حسنًا ساعديني لأضعها في الفراش"
ابتسمت وهي ترى الحنان يظهر في عينيه تجاهها، ساعدته على وضعها براحة فوق فراشها ثم قامت بوضع الغطاء عليها.
لتجده ما زال في مكانه يحدق بها بتأمل وقد جلس على الكرسي بجانب الفراش، فتراجعت بخفة تتركهما بمفردهما فهما يستحقان تلك الهدنة.
********
قالوا إن الابتسامة تعبر عما في القلوب
لكن لا..
فكثير من الابتسامات مزيفة تخفي خلفها كرهًا دفينًا!
ركز في العيون يا عزيزي فهي مرآة القلب..
مهما كذبت الكلمات والضحكات
فالحقيقة تظهر في النظرات!
انتصف الليل والجميع في مضاجعهم..
يسود الهدوء في أرجاء القصر إلا من خطوات رتيبة تعرف مقصدها جيدًا.
وقف أمام غرفة بعينها يدق باباها برتابة حتى فتحت صاحبتها بأعين شبه ناعسة تحولت للدهشة عند رؤيته وعُقد حاجبيها باستنكار من وجوده وهمس متعجب :
-"مأمون!"
-"كيف حالك وسام؟"
بدون كلمة أخرى وبدون استئذان دلف للداخل بكل رعونة يجول بنظره في غرفتها البسيطة، أما عن نظراتها فكانت ترمق ظهره بعدم استيعاب ولا فهم لوجوده هنا في تلك الساعة!
-"هل لي معرفة ما سر هذه الزيارة في هذا الوقت؟"
استدار لها ببطء ونظراته تسير من قدميها الحافيتين، صعودًا على جسدها المحاط بمئزر النوم تجمع طرفيه برباط حول خصرها، مكتفة ذراعيها أسفل صدرها، ثم وجهها الأحمر من أثر النوم والذي يختفي نصفه خلف خصلاتها!
مالت شفتاه للجانب في ابتسامة أثارت توجسها وقال ببراءة لا صلة تجمعه بها :
-"اشتقت لكِ يا حسناء"
نظرت للسماء الحالكة من شرفتها وصوت الهدوء يصلها مُخلل بأصوات حشرات الليل فابتسمت بسخرية ظهرت في عينيها :
-"اشتياق بعد منتصف الليل!"
اقترب منها ببطء و في اقترابه بدى أقرب لذئب في بداية افتراس.
نظراته ثابتة ترصدها ولا تحيد عنها!
خطواته متمهلة واثقة لا تعرف للخوف سبيل!
ابتسم عندما التقط ثباتها ونظراتها الممتلئة بالثقة، يمكن أن يُقال أنها الوحيدة التي تقف له ندًا، ولا يعلم أهي ثقة أم غباءٌ منها؟
همس أمام عينيها :
-"هناك بعض الصيد يختفي في النهار فلا تستطيع الامساك به سوى في الليل"
اشتعلت مقلتيها ببوادر الغضب وقبضت بكفيها على عضديها ولم تحرر تكتفها هامسة بحدة من بين أسنانها :
-"ماذا تريد مني يا مأمون؟"
التقط سؤالها بهدوء وألقى إجابته في كلمة واحدة مجردة تحمل المعنى والضد :
-"أريدك"
زاد الاشتعال وانتفض جسدها باستنكار لكنه لم يمهلها وأكمل هجومه المتريث وقد عزم أمره على الفوز بها الليلة :
-"أريدك وسام ولم أعد أحتمل صبرًا.."
لفحت أنفاسه الحارة صفحة وجهها فارتعش جسدها خوفًا تشعر به لأول مرة وكادت أن تبتعد لكن منعها قبضتيه على كتفيها وهمسها بجانب أذنها :
-"هل رأيتِ وزيرًا يأتي لفتاة بنفسه؟
مستحيل.. وها أنا فعلتها لأجلك فتعالي إليّ"
استطاعت شم رائحة الخمر تفوح من أنفاسه فتحررت منه ووقف تجابهه من مسافة آمنة بينهما، صدرها يرتفع بعنف أنفاسها ووجهها يكسوه دماء الغضب وبداخلها ينتفض خوفًا هاتفة:
-"لقد جُننت، بالتأكيد أصاب الجنون رأسك"
أشارت بسبابتها إلى الباب خلفه وأكملت بتهديد :
-"أخرج من هنا..
أخرج وإلا سأصرخ بأعلى صوتي ليأتي الجميع ويروا الوزير الأكبر وهو يتهجم على فتيات القصر في هذا الوقت"
بطرفة عين وجدت نفسها محاصرة بين ذراعه المحيط بخصرها وكفه المغطي لفمها..
عيناه اقتنصت نظراتها فارتعد قلبها من نظراته السوداء وتلك الابتسامة الصغيرة جعلته أشبه بشيطان قادم من قعر الجحيم وهمس بفحيح :
-"لماذا كل هذا الغضب يا حسناء؟
أظن أنه يجب أن تشعري بالفخر ويمتلئ قلبك بالسعادة لأنني مولع بكِ أنتِ"
حرك كفه على ثغرها ببطء يتحسس شفتيها برغبة فأفلتت وجهها منه لكنه أطبق على ذقنها يثبتها بنظرات وعيد.
صمت قليلًا قبل أن يلوح المكر والخبث في نظراته ، ثم هبط يتلمس وجنتها بطرف أنفه هامسًا :
-"عندي الحل.. فلتغمضي عينيك وتخيلي جاد هو من يلمسكِ، يقبلكِ، يتلظى معكِ بنيران الهوى ريثما ننتهي"
صمت طفيف كسره صفعة قوية تردد صداها في هدوء الليل!
صفعة هبطت على وجهه أعادته خطوتين للخلف أخلفت جرحًا ينزف بسبب خاتمها الذي ترتديه.
رفع رأسه لها بجنون وصدمة مشابهة لها لكن السبب يختلف!
جنونها من جراء حديثه البشع والمُبخس من كرامتها.. وجنونه من كسرة كبريائه بسبب ما فعلته!
هو الوزير وهي جارية!
هو الذئب وهي الفريسة!
ولكن هنا اختلفت الموازين وانقلبت الآية
وانتصرت الفريسة على الصياد!
بهدوء معاكس لصخب انفعالاتها قالت :
-"أقسم بالحي الذي لا يموت، إن لم تخرج الآن سأخبر الملك نيار والملك إلياس بكل شيء"
اقترب من الباب ليخرج لكنها قال بوعيد :
-"ستحاسبين على فعلتك يا وسام.. وأنتِ تعرفين وعيدي"
خرج وشياطين الإنس والجن تتراقص أمام وجهه، يزيده اشتعالًا طعم الصدأ في فمه يحفر صفعتها في ذاكرته أكثر، يرغي ويزبد باسمها واسم جاد.
توقف عندما آتاه صوت أنثوي من خلفه مليء بالسخرية :
-"لم أتوقع خروجك بتلك السرعة أيها الوزير"
كز على أسنانه بقوة قبل أن يستدير لها يراها تستند على الحائط بظهرها مكتفة ذراعيها أسفل صدرها تناظره بحاجب مرفوع بسخرية ، فلم يجبها سوى بنظرات ساخطة لتقترب منه بدلال ترفع إبهامها تلامس جرحه فأشاح بوجهه عنها فهمست بفجاجة :
-"أخبرتك أن تقتنص عذريتها، لا أن تخرج ودماؤك على وجهك"
قبض على كفها بقوة يعتصره بغضب كأنها وجد ملجأه للتنفيس عما بداخله، وباليد الأخرى قبض على فكها يعتصره :
-"لا تنسي من أكون يا امرأة.. مهما كان ما يحدث بيننا فلا تتناسي أنني الوزير هنا، أفهمتِ يا أروى؟"
أزاحت يده الممسكة بفكها لكنها لم تحرر كفها بل اقتربت منها وعيناها تقدحان شزرًا وهمست بسخط:
-"وعلى الرغم أنك الوزير لم تستطع فعل شيء معها"
صمتت قليلًا ثم أكملت بغموض :
-"بيننا اتفاق على أن تمتلك وسام وحينها سأجد فرصتي مع جاد.. وفي المقابل أنفذ لك ما تطلبه مني دون اعتراض"
صمتت تناظره بشراسة ثم عقدت حاجبيها بدهشة عندما ابتسم بمكر ونظراته تزداد سوادًا وهمس ناظرًا في الفراغ :
-"النار إن لم تُرى، فدخانها يترك أثرًا"
-"لا أفهم!"
ربت على وجنتها قبل أن يكمل طريقه لجناحه وهو يقول :
-"فكري قليلًا وستفهمين"
طالعت ذهابه بحاجبين معقودين قبل أن تبتسم بانتصار عندما فهمت هدفه ثم تنهدت وهي تضع كفيها فوق قلبها هامسة:
-"أحبك جاد"
أما مأمون فدلف إلى جناحه وسار نحو مقعده الخاص بجانب مكتبته يستند برأسه للخلف ينظر للسقف في صمت وابتسامة غامضة مرسومة على محياه وأصابعه تدق برتابة على مسنده.
أخفض رأسه فوقعت عيناه على تلك الرسالة الملفوفة الظاهرة من بين كتبه والتي وصلته منذ عدة أشهر.. حينها لم يعد شيء كما كان!
جذبها بهدوء وبصره يسقط على الأسطر التي حفظها عقله بسبب التكرار ولكن في كل مرة يقرأها يراوده احساس جديد!
غضب..
سخط..
انتقام..
ندم..
والآن غموض..!!
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤