من رحم الثقة تتولد الخيانة
ومن جوف الاخلاص يُلفظ الغدر
على قدر حجمهما يكون الوجع
وعلى حجم قسوتها تكون الخسائر
فالخيانة موت مؤكد للنفس دون قتال
صغير كان يستعجل الأيام كي يكبر، والآن يترجى الأيام أن تعيده حيث طفولته وتنساه هناك.
جسد متشنج.. أعين زائغة.. نظرات غامضة.. وذهن شارد!
هكذا كان حاله وهو يقف مكتفًا ذراعيه خلف ظهره مشددًا على قبضتيه بقوة، أعلى التلة المشرفة على مملكته بالكامل.
لولا أنفاسه الثائرة وصدره الذي يعلو ويهبط لظنت أنه استحال إلى صخرة من الصخور التي تحاوطهما.
تنهدت ليان بعمق وهي تقف خلفه، تاركة له الوقت ليهدأ عقله بعد كل ما مر به، صدمته في أقرب الأشخاص إليه ليست سهلة، تركته يصب كامل غضبه ولم تلُمه على أي فعل صدر منه؛ لأنها على تمام الاقتناع أن مأمون يستحق ما آل إليه مصيره. لكن ما لن تسمح به أن ينجرف في نوبة الندم وفقدان الثقة وهذا ما جعلها تأتي به إلى هذا المكان الذي تعتبره مكانهم السحري.
هنا علمت نيار الحقيقي، قلبه وحبه.. وهنا ستحافظ على ألا يتغير هذا الشخص!
اقتربت منه بخطوات متمهلة وثوبها الأسود المخملي يتطاير بفعل نسمات الهواء مع خصلاتها بعدما تخلت عن وشاحها، وضعت كفها على كتفه فشعرت بانتفاضته الطفيفة كأنها انتشلته من تفكير عميق لكنه لم يلتفت إليها ونطق لسانه بهمس متسائلًا :
-"أشعر أن صدمتي في أقرب الناس إليّ ما هو إلا جزاء ضعفي في عدم إلغاء القانون، وذنب هؤلاء الفتيات اللاتي أُخذن بسببه!
جزاء صمتي وعدم الوقوف بجانب أخي منذ خمس سنوات"
شددت على كتفه فقبض على فكيه بقسوة وأغلق جفنيه كمن رأى مشهدًا مرعبًا يحاول نسيانه..
أليس ما مر به هو الأشد رعبًا!
فتح عينيه ونظر إلى نقطة التقاء السماء بالأرض في الأفق البعيد يكمل بشجن :
-"لكن عقاب الله شديد يا ليان!"
لا تريده بهذا الهدوء، هدوؤه يرعبها.
تريده يصرخ، يخرج ما في قلبه، أي شيء بعيدًا عن هذا الهدوء المخيف!
علمت أنه لن يتحرك إلا إذا بادرت بشد لجام الوحش الكامن بداخله ليتحرر منه، فقالت بنبرة مستفزة وبرود مصطنع لاح في عينيها :
-"أنت ملك هذه البلاد نيار، بأمر واحد منك تجعل الجميع يتهافتون على إطاعتك!
مقارنةً مع مكاسبك لا أعلم ما هي خسارتك حقًا؟!"
أولته ظهرها تقف أمام بلامبالاة زائفة، تنظر إليه بجانب عينيها وقد شعرت بانتفاضة جسده مندهشًا غاضبًا :
-"مأمون خائن لا أعلم لماذا تحزن عليه؟
أراك تبالغ نيار"
جذبها من مرفقها لتصطدم بصدره لكنها لم تتألم بل ابتسمت بداخلها لأنها نجحت في إثارة غضبه، فهتف ونبرته بدأت في العلو وعيناه تستحيل للاحمرار الشديد :
-"أبالغ في تعداد خسارتي!
ماذا تعلمين عن معاناتي؟"
قبض على ذراعيها بقوة ضاغطًا على فكيه حتى كانت عظام وجهه تخترق جلده، ثم همس بحدة:
-"أُمي كل ما يهمها مصلحتها حتى لو خسرت أبنائها!
فرقت بين أخين لأن أحدهما دق قلبه لمن تراها أقل شأنًا..
بسببها قُتلت نفس بريئة لشعورها بالخزي والخوف!
تسببت في تسميم زوجة ابنها لحقدها الدفين تجاهها!
تتفنن في إثارة غضبك وتنغص حياتك يا ليان لإخضاعك لها"
كان يهزها بين ذراعيه بدون شعور، عيناه كادت أن تخرج من محجريها، أنفاسه لاهثة متقطعة تعكس الوجع الهادر في ثنايا قلبه، فتركته يخرج ما به وأكمل بهتاف أكبر :
-"أب وجوده كعدمه خسر الكثير بسبب ضعفه، لدرجة أننا لا نشعر بوجوده!
زوج ضعيف الشخصية يقع تحت سلطان زوجته..
الشيء الحسن الوحيد التي فعلته أنها جعلته يعطينا ولاية المملكتين وإلا كانت ستضيع منذ سنوات بعيدة"
توقف عن هزها يمسكها من عضديها مقربًا إياه منها وعينيه تزداد قساوة نظراتها، شفتيه ترسم خطًا مستقيمًا بألم تتغير نبرته من الصراخ إلى الهمس الحاد :
-"صديق كان شريك دربي وكل خطوة أخطوها في حياتي.. كان أكثر من أخ، ما كان بيني وبينه لا يوجد أحد يستطيع وصفه!
لأفاجئ بين يوم وليلة ...."
هزها للخلف وأعادها للقرب منه وهتف فجأة :
-"لا في لحظة واحدة أُصدم أن سبب شقائي ووضع سمعتي وشرف مملكتي على المحك هو!
يجعلني أريد إحراق الجميع.. لا بل المملكة بأكملها ليان"
أسند جبهته فوق خاصتها ولم يقطع تواصل عينيهما يتنفس بقوة فتصفعها أنفاسه الحارة وهمس بحرقة :
-"بداخلي نار تأكل أحشائي من خيبة الأمل والحسرة.. وحش ثائر إذا خرج ستنقلب الدنيا رأسًا على عقب..
أنا متعب ليان متعب!"
وضعت كفها خلف عنقه وأناملها تتغلغل في خصلاته، واليد الأخرى كانت فوق صدره تدلكه بحنان كمن تريد امتصاص الألم من بين ضلوعه.
جذبته أكثر إليها وشفتاها تطبق على شفتيه!
قبلة تريد بها امتصاص كل الخذلان والحسرة التي تحوم بداخله!!
قبلة كالماء البارد الذي هبط على النيران المشتعلة بقلبه تخمدها مسيطرة عليها!
تودعه فيها الأمان والثقة التي يحتاجها بشدة في هذا الوقت!!
انفصلت عنه واستندت بجبهتها على خاصته وذراعيه تحيطان خصرها، فتلامست أنفيهما واختلطت الأنفاس.
هدأت نبضات القلب الثائرة، لتحل محلها نبضات هادئة جميلة.
وضعت كفها على وجنته ممسدة عليه بحنان تهمس بحب وعينيها تدور على وجهه :
-" لن يشعر أحد بما تشعر، حتى لو أمضيت ساعات تشرح لهم ما تمر به"
انسدل كفها مرة أخرى فوق قلبه تربت عليه بحنو وأكملت :
-"لن يشعر بك إلا من لمسوا قرارة قلبك، ومن تصلهم حرارة دموعك..
إياك أن تلجأ لصدور أُناس لم تشعر براحة تجاههم، فقط كي تنفض عن نفسك غبار الكتمان!
فهؤلاء صدورهم أضيق من أن تتحمل زفراتك لأنهم لا يحملوا شعور الحب لديك نيار، ومأمون كان واحدًا منهم"
انتقلت بكفها إلى ذراعيه تحركه لأعلى وأسفل ممسدة إياه وأكملت بابتسامة :
-"أنت لم تخطيء في عقابك يا حبيب القلب، أعلم وجع روحك وحرقة قلبك لكنني أعلم أن زوجي لن يجعل هذا يكسر من هامته وشوكته"
هدأت أنفاسه وتحولت نظراته لعشق كبير لهذه الفتاة التي يعتبرها مكافأة من الله لا يعلم هل يستحقها أم لا؟!
لكن كل ما يعلمه أنها تملكته بالكامل ليقربها منه أكثر ويشتد على خصرها كالخائف أن تختفي من بين يده، فأحاطت وجنتيه بيد والأخرى رفعتها تعيد خصلاته التي هبطت على جبينه بفعل انفعاله، تمسح حبيبات العرق تهمس بحب :
-"وحده الوقت سيخبرك أن حزنك على الراحلين كان مجرد هدر لمشاعرك لأنهم لم يستحقوه.. وخذلانك ممن خانوك كان مجرد ضعف منك!
قدسّ نفسك نيار، فأنت لست فرصة ثانية ولا علاج مؤقت..
إما كمال أو زوال يا حبيبي"
هذه المرة هو من جذبها إليه يقبلها بعشق وامتلاك أكثر منه شكر عميق على محاولاتها للتخفيف عنه.. لا تعلم أن مجرد رؤيتها ومجيئها به إلى هنا أكسبه بعضًا من الهدوء.
انفصل عنها يحيط وجهها بين كفيه وابتسم براحة وحنان وهمس جميل خرج منه :
-"أحبك يا كحيلة العينين"
ضحكت بسعادة تحيط كتفيه في عناق قوي كمن تريد الدلوف داخله وهمست له :
-"وكحيلة العينين لا ترى غيرك"
★★★★★★★
عندما تخوض حربًا مع أحد خضها بتأني
ربما تسقط الراء دون مقدمات
فهو كنغمة تتراقص بين ذرات الألم
تنتشي ولهًا تنمو في القلب
تسقيها المشاعر
وتعبر مسافات الحزن لتستقر في الأحضان
انتهى الأمر ودُفنت جثته لينتهي الكابوس وأتت لحظة الإفاقة!
دارت بعينيها تبحث عمن اشتاقت له روحها لكنها لم تره، بحثت في أرجاء المكان أن ما رأته ليس سوى شبح ظهر أمامها..
استدارت بيأس وتنهيدة خرجت منها فاصطدمت بصدر إلياس الذي أحاط بخصرها وحنانه المتدفق من عينيه يشملها.
استندت بكفيها على صدره ولم تقطع حبل التواصل بين نظراتهما، فرفع كفه فوق يدها المستكينة عليه وتساءل متأملًا عينيها :
-"هل أنتِ بخير؟
هل أرتاح قلبك الآن؟!"
ثم رفع يده إلى وجنتها يمسدها بإبهامه :
-"هل أوفيت بوعدي لكِ أيتها النارية أم لم تستكن روحك بعد؟!"
دارت بعينيها في المكان ترى أنه لا يوجد سواهما وقد أحاطت بهما الستائر ترفرف بفعل نسمات الهواء اللطيفة كأنها ترطب على قلبيهما بعد كل ما مر بهما، لتشتد قبضتيها بلا إرادة على رداءه رافعة رأسها إليه هامسة :
-"لا أعلم كيف أستطيع شكرك على ما فعلته ليرتاح قلبي!!
لقد كانت هناك نار تزداد اشتعالًا في قلبي كلما مر يوم وأنا أشعر بروح مارية غير مرتاحة وقاتلها حر طليق..
لقد بردت هذه النيران ولا أعلم كيف أرد لك هذا الجميل!"
عقدت حاجبيها من النظرة الغريبة التي اجتاحت عينيه فجأة!
لا يستطيع تحديد هل يجذبها لأحضانه على وضعها الثقة به إلى النهاية، أم يدق رأسها لأنها تظن أن كل هذا جميل يمنه عليها؟!
اشتدت قبضته على خصرها مما جعل جبينها يتغضن بدهشة، مقربًا وجهها منه هامسًا بحدة مزيفة :
-"هذه المرة الأخيرة التي أسمعك فيها تتفوهين بمثل هذه الترهات سارية أفهمتِ؟!"
صمت قليلًا قبل أن يقول بابتسامة ارتسمت فجأة على شفتيه ينخفض إلى أذنها :
-"المرة الثانية التي تظنين فيها أن ما أفعله لكِ يعد جميلًا سأخرج لكِ هذا العقل من رأسك لأرى مما هو مصنوع.. فأنا لم أعاهدك غبية"
اتسعت ابتسامته يرى مشاكسته لها أتت بفائدة واشتعلت عينيها بغيظ وكادت أن تنطق، لكنه رفع يده يعيد خصلاتها المتمردة من مشبك شعرها بعد أن سقط وشاحها على الأرض ليهمس مرة أخرى بنبرة عاشقة أكثر منها ماكرة، شفتيه تلامس شحمة أذنها أغلقت لها عينيها وقشعريرة تسري في ظهرها وأطرافها، الدماء تدفقت في وجهها باشتعال :
-"لكن إن كنتِ مصرة على شُكري، فسأخبركِ بما أريده ريثما نعود إلى مملكتي، فما أريده لا يجب أن يحدث إلا في قصري يا نارية"
ضيقت عينيها تحيل نظراتها بين مقلتيه تستشف المغزى وراء حديثه لكن نظرة البراءة التي غلفت عينيه ببراعة لم تفهم منها ما يريده، لترفع كتفيها بلامبالاة محاولة التغاضي عن رعشة جسدها جراء لمسته وقالت :
-"حسنًا!"
كادت أن تلتفت وتذهب لكنها تذكرت السبب الذي يجعلها واقفة كل هذا الوقت هنا، لتنظر مرة أخرى بلهفة وأنفاس متسارعة ثم تمسكت بذراعيه، فتغضن وجهه قلقًا من تغيرها المفاجئ وقالت :
-"أبي.. لقد كان أبي هنا أم يُهيأ لي؟
أبحث عنه لأراه لكنه اختفى، لقد رأيته أنت أيضًا صحيح؟!"
أحاط وجهها بكفيه يلمس عليه لأعلى وأسفل يهدأ من روعها قائلًا بهمس :
-"أهدأي حبيبتي وتنفسي، هدأّي من روعك رجاءً"
لتهمس بأعين لامعة وقالت بطفولية مطلقة :
-"أبي إلياس.."
تغلغلت أنامله أسفل خصلاتها وأكمل بابتسامة :
-"هو بانتظارك على أحر من الجمر في جناحك حلوتي"
اتسعت ابتسامتها بفرح ونطقت بغير إرادة قبل أن تنطلق باندفاع تجاه جناحها :
-"أدامك الله لي إلياس"
رفعت ذيل ثوبها وانطلقت راكضة وخصلاتها خلفها ترتفع وتهبط على ظهرها بفعل حركتها، تاركة إياه يطالعها بابتسامة وحب من جملتها العفوية.
فما يخرج دون تفكير من الفم يقرع القلب به بصدق.
ركضت بسرعة غير عابئة بمن يرمقها بدهشة على ابتسامتها حتى وصلت إلى الباب الذي دفعته بلهفة، وقفت فجأة ولم تخطُ غير خطوة واحدة.. تراه يقف أمام شرفتها يتطلع للخارج ومسبحته السوداء المتناقضة لجلبابه الأبيض في يده تنزلق حباتها برتابة واحدة فوق الأخرى موازية لحركة شفتيه بهمسه لذكر الله.
همست باشتياق وصل لمسامعه :
-"أبي..!"
التفت لها بحجم الاشتياق التي تشعر به يبتسم بلهفة يفتح لها ذراعها مشيرًا لها أن تقترب، فركضت كالطفلة يتلقفها في أحضانه يشدد ذراعيه حولها يريد أن يدخلها بين ضلوعه اشتياقًا كان أم حماية لا يهم، الأهم أنها بين ذراعيه بأمان.
كانت تشدد على ظهره بين الحين والآخر ليربت على خصلاتها مقبلًا رأسها عدة مرات يهمس لها يحيط وجهها يتفحصه بشوق :
-"كيف حالك صغيرتي؟
لقد اشتقت لكِ يا حبة القلب"
امسكت يده بين كفيها ومالت برأسها مقبلة باطنه بقوة تحيط عنقه بذراع والآخر وضعته على صدره تحركه لأعلى وأسفل كمن تكتشفه مطمئنة عليه وعينيه تتحرك على كامل جسده :
-"ليس أشد اشتياقًا مني يا نور عيني، لقد اشتقت إليك بقدر بعد السماء عن الأرض يا بدر الدين"
ضحك بحب على حنان ابنته كأنها والدته، لتعقد بين حاجبيها بحزن مزيف تلومه :
-"لم أعهدك بهذه القسوة يا شيخ..!
تترك ابنتك كل هذه المدة"
قبل جبهتها بحنان ممسدًا على ذراعيها ومازال على ابتسامته، ثم أخذها ليجلسها على الأريكة وهي بجانبه محيطًا إياها من كتفيها يضمها لصدره :
-"أصفحِ عني حبيبتي"
رفعت رأسها من فوق صدره بنظرة مشاكسة وحاجب مرتفع تقول بتعالي مصطنع :
-"عفونا عنك يا شيخ.. لأنني متأكدة أن لك مغزى آخر وراء تأخرك"
ضحك بشدة فابنته ليست بالغبية، فرفع يده إلى رأسها يمسد على خصلاتها قائلًا بمكر :
-"وأيضًا ما أنا متأكد منه أن ابنتي فطنت إلى ذلك المغزى"
طرق بأنامله على جانب رأسها مكملًا بمكر :
-"وما أتمناه أن تكون تخلت عن تصلب رأسها واستغلت عدم وجودي بشكل صحيح"
اتسعت عيناها من كلماته واشتعلت وجنتيها باحمرار من تدفق الدماء بها فهتفت بشهقة غيظ :
-"ماذا حدث لوقارك يا شيخ؟!
منذ متى تتحدث بمثل تلك الألغاز المخجلة؟!"
كبح ضحكاته بقوة وتظاهر بلا مبالاة ناظرًا لها بجانب عينه ببرود :
-"على ما أظن أن من أقصده يكون زوجك يا ابنة الشيخ"
عضت على شفتيها بقوة تكبح جماح خجلها من مقصده ونظرت لأسفل تتهرب من عينيه ولم تتحدث، ليجذبها تحت ذراعه بحنان وأدار وجهها له بابتسامة وهمس لها :
-"أريحي قلبي.. هل وفقت في اختياري لكِ أم خفقت؟!
أخبريني ما به هذا حبيبتي؟!"
أشار إلى قلبها في نهاية حديثه لتنظر إلى يده وتنهدت بتنهيدة طويلة، فشّد على كتفها يحثها على إجابته.. رفعت أنظارها إليه بخجل طفيف قائلة :
-"عندما جئت إلى هنا كنت ساخطة على الجميع بما فيهم إلياس.. كنت أظن أنه السبب وراء ذلك، لكن عندما رأيت كل ما فعله في سبيل الإتيان بحق مارية جعلني أتأكد أني كنت ظالمة له"
نظر لها بصمت قبل أن يسألها بلامبالاة ينزل عينيه إلى مسبحته يحرك حباته واحدة تليها أختها :
-"لماذا تظنين أنه فعل كل هذا يا ترى؟!
لمَ لا تعتقدين أن هذا كله حتى يعيد مكانته ومكانة مملكته التي تذبذبت بفعل اتهامك له؟!"
نظرت له بقوة وحاجبين مرفوعين بدهشة على حدته، لكنها التفتت إلى التلاعب في نظراته لتتنهد بقوة هاتفة :
-"أبي ماذا تريد من خلف هذا الحديث؟!"
رفع حاجبه يهتف مقابلها بحزم وتقرير :
-"لم تجيبي على سؤالي يا ابنة أبيكِ.. أريد أن أعلم ماذا يوجد بداخل هذا؟!"
ضغط على مكان قلبها بأصابعه التي تحمل المسبحة لتقول دون إرادة منها :
-"نعم لقد تقبلته.. تقبلته كشخص، كزوج، كرجل أستطيع أن أثق به وأشعر بالأمان نحوه"
صمتت تتنفس بسبب انفعالاتها ليبتسم براحة وحنان، فتنهدت بقوة تلقي بنفسها بين ذراعيه دافنة رأسها في صدره ليضحك بقوة محيطًا إياها ولسانه يتمتم بحمد الله قبل أن يهمس لها :
-"هذا يعني أنني وفِقت"
أومأت برأسها بدون أن تنطق ، فسألها مرة أخرى :
-"هل تشعرين بالثقة والأمان معه أم ألغي هذا الزواج؟!"
هزت رأسها بالنفي متمتمة :
-"أثق به أبي.. من فعل كل هذا لأجلي وأدخل الراحة لقلبي يستحق الثقة والاحترام"
هبط هذه المرة إلى أذنها يسألها بمكر :
-"والحب!"
رفعت رأسها في غيظ والاحمرار يزداد على وجهها، تلقي برأسها على كتفه تهزها بيأس تتمتم :
-"لا فائدة منك يا بدر الدين"
ضحك بقوة يحيطها بذراعيه وظلوا هكذا بعض الوقت تنعم بأحضانه قبل أن تتساءل :
-"ماذا حدث مع فتون أبي؟!"
تنهد ماسحًا على ظهرها :
-"لا تقلقي حبيبتي لقد انتهى الكابوس، انتقلت هي ووالدتها إلى بلاد أخرى بعيدة تعيش كما تحب لكن بعد أن تأكدت أنها لن تعود لحياتنا ثانيةً"
فقالت بصوت يغلبه النعاس الشديد بسبب جسدها المنهك جراء كل ما مرت به وانكمشت أكثر بين ذراعيه :
-"لا أعلم كيف سأستمر في هذه الحياة دون وجودك يا أبي!!"
سقطت نائمة لأول مرة بقلب هادئ وبال مرتاح بعد أن رفعت جسدها على الأريكة فافترشت طبقات ثوبها حولها نصفه على الأرض والآخر يغطيها، مسح على خصلاتها بحنان يجمعه لها بين يديه وبدأ في صنع جديلة لها كما تعود منذ الصغر.
دلف إلياس في هذه اللحظة فرآها تغط في نوم عميق على قدمه يشبك خصلاتها في اتجاهات متداخلة، ابتسم مقتربًا منه فبادله بدر الدين الابتسام وهبط على رأسه يقبل قمته في احترام قبل أن يجلس على الكرسي بجانبه.
مال بجسده إلى الأمام يقترب منه وسأله بهدوء :
-"اشتقنا لوجودك عماه.. لقد أيقنت أن وجودك رحمة بيننا، أخبرني كيف حالك؟!"
ربت على كتفه وابتسم له برضا يجيبه :
-"بارك الله فيك بني وأكسبك رضاه"
ثم نظر إلى ابنته وأعاد خصله شاردة من جديلتها سقطت على وجهها تضايقها خلف أذنها يمسح على كتفها بحنان :
-"طالما هي بخير فأنا بالتأكيد بأفضل حال، والفضل إليكَ بني فثقتي بك كانت بمكانها الصحيح"
عاد بنظره إليه فرأى في عينيه عشق دفين لا يخرج من شخص إلا لفتاة امتلكت روحه وقلبه، عشق يعرفه رجل عاش من العمر ما يجعله يقرأ الأشخاص أمامه جيدًا، فتأكد أنه سيبقى للأمد البعيد بقلب مرتاح وصغيرته معه ليسمعه يهمس بحنان :
-"هي تستحق أن يأتي إليها الشخص بقطعة من السماء ليحصل على ضحكة صافية تخرج من قلبها"
رفع رأسه إلى أبيها مبتسمًا له ورفع كفه بين يديه يلامس به جبهته علامة على الاحترام وأكمل :
-"لا أعرف كيف أشكرك على ثقتك بي، ولا على موافقتك لزواجي من سارية؟!"
ابتسم له وشدد على قبضتهما معًا قائلًا :
-"عدني أنها ستكون بخير، تحميها مما كان وأيّن يكن.. ليس لدي سواها ولا أثمن منها"
وعده إلياس من بين طيات قلبه :
-"بروحي وقلبي عماه، لا تقلق عليها"
تململت على قدم والدها فانتبه لها الاثنان بحذر حتى لا تقلق وتعاود النوم، يعلمان أنها متعبة وتحتاج إلى هذه الراحة، لترفع رأسها قليلًا تفتح عينها وما زالت في نعاس عميق، رأتهما مبتسمين قبضتهما مشددة سويًا ، فابتسمت في تيه وعاودت النوم مرة أخرى منكمشة أكثر في أحضان والدها ممسكة بكفه الذي كان يضعه فوق كتفها، لينظر الاثنان لبعضهما وضحكا بخفوت عليها.
*******
سيد الجحيم لا يُرى
الظلام راحته والجحيم منزله
في أصابعه خيوط اللعبة بأكملها
يسن قوانينها وعواقبها
يأمر وأمره مطاع لا جدال فيه
لكن لحظة أن ينهض ويتحرك ليدخل اللعبة بنفسه
فأعلم أنه لن يكون هناك مكان إلا واحترق بنيرانه
جالسًا على فراشه يمسك كأسًا من شرابه، بينما اليد الأخرى تحمل خطاب يقرأه بابتسامة مستمتعة مرتسمة على وجهه، ونظرة خبيثة لاحت في عينيه يتمتم باستمتاع جليّ وضحكته صداها يقرع في أرجاء الغرفة :
-"حسنًا.. حسنًا.. إن الأمور تدور بسلاسة أكبر مما توقعت ، والخونة يتكاثرون في القصر"
أخذ رشفة من كأسه ، واستقام دافعًا مئزره الذي يرتديه فوق جذعه العاري، يقف أمام شرفته رافعًا يديه مستندًا على حافتها وأنامله تربت فوقها بوقع أنغام واهية بعد أن وضع كأسه بمنتصفهما، ناظرًا للأفق البعيد :
-"يا ليتني كنت هناك كي أرى وجه نيار عندما علم أن صديقه الوفي الذي كان يتفاخر به وسط الحشود.. خائن"
ثم أكمل ونظراته تستحيل إلى الغموض، يلوح بها بعض من الغيظ :
-"وذلك المغرور الأحمق إلياس.. كم أتمني أن أضع رأسه في الوحل!
ولكن صبرًا جميلًا، إن غدًا لناظره قريب"
لاحت الرغبة في عينيه ولسانه يمر على شفتيه بمكر عندما تذكر يوم الاحتفال الذي أُعلنت فيه سارية زوجة لغريمه الوحيد، لينتابه نوع من الغضب والحقد لامتلاكه مثل هذه الجميلة فهمس لنفسه :
-"لقد اشتقت لأعرف كيف مذاقها؟
ذلك الأحمق لا يستحقها..
دائمًا ما يحصل على كل ما هو نفيس، ولكن قريبًا ستكون بين قبضتي راغبة شاءت أم رافضة"
أطلق ضحكة عالية يعيد النظر إلى الخطاب يقرأ آخر أسطر به رافعًا شرابه على جرعة واحدة :
-"الأوضاع ليست على ما يرام.. فالجميع كالبركان الذي أوشك على الانفجار"
التفت يدلف إلى جناحه مرة أخرى قبل أن يدق الباب ودخل وزيره منحنيًا باحترام :
-"مولاي.. أرجو أن يكون صباحك خيرًا"
ابتسم بجانب شفتيه وحاجبه الأيسر قد ارتفع باستمتاع يجيبه :
-"ومن ذا الذي يستيقظ على ما حدث في الشمال ولن يكون صباحه خيرًا!!"
ضحك وزيره بقوة وتشفي ليتقدم منه خطوة متسائلًا:
-"لكني متأكد تمام التأكيد أنك لن تمرر ما حدث مرور الكرام ولن تؤتي منفعة منه مولاي"
ملأ كهرمان كأسه بالشراب مرة أخرى لتثبت نظراته على نقطة ما في الفراغ مفكرًا ثم قال :
-"لا.. لن نستفيد مما حدث في شيء، على العكس خسارتنا بمقدار خسارتهم"
عقد الرجل بين حاجبيه لكنه مازال صامتًا منتظرًا بقية حديثه :
-"مصطفى كان عيني في الجنوب ومأمون عيني الأخرى في الشمال، مملكتي الشمال والجنوب على الرغم أنهما قبل الاحتفال كانتا منفصلتين في الظاهر ألا أنهما أشد ارتباطًا في الخفاء، ما يضر واحدة يضر الأخرى"
تجرع قليلًا من كأسه ثم أخفضه ناظرًا إليه يتلاعب به يمينًا ويسارًا في يده :
-"مصطفى بعد أن كشفه جاد وقام إلياس بقتله كان من الصعب وضع بديلًا له في الوقت الحالي، لكن الحظ كان بجانبي عندما قرر إلياس السفر إلى الشمال، فلم يكن لدي غير مأمون حتى أكون على دراية بكل مما يحدث"
أشار لوزيره بكأس آخر ليشاركه الشراب فسأله :
-"في الحقيقة هناك مالا أفهمه.. هل كنت على دراية بقصة خطف الفتاة؟!"
ضحك كهرمان بصوت عالٍ قبل أن يلتفت يجلس على كرسيه الأثير ممددًا ذراعيه على طول حافتيه، يستند بظهره إلى الخلف وابتسامة باردة على شفتيه ونظرة بنفس الشعور في عينيه :
-"أنت وزيري منذ سنوات بعيدة، فماذا تتوقع؟!"
هز الرجل رأسه بقلة حيلة يتناول مشروبه :
-"أتوقع منك أي شيء"
قهقه ببرود ورأسه يرتفع لأعلى :
-"لا يوجد شيء يحدث لست على دراية به.. عندما بعثت خديجة الفتاة إلى مأمون وأخبرته بأمرها، أتى إليّ يخبرني كل ما حدث!
فكرة أن يبقيها في القصر في الزنزانة السفلية التي لا يعلم أحد عنها شيء سواه هو ونيار.. وبالطبع أنا، كانت فكرتي"
توقف الكأس أمام فم الوزير متيبسًا ينظر إلى ملكه بدهشة ليهمس بتعجب :
-"أنت من أشرت عليها بقتلها؟"
رفع حاجبه بمكر وأجابه :
-"قلت إخفائها وليس قتلها، لقد كانت خطتي أن تظهر يوم الاحتفال مجبرًا إياها على الاعتراف أن إلياس من جاء بها إلى هنا، لكن الغبي تسرع وقتلها"
ثم رفع يده ليحك بها ذقنه مفكرًا ذامًا شفتيه للأمام ثم أكمل :
-"كلمة نيار الدائمة هي أن الجزاء من جنس العمل!
وكلمة إلياس وقانونه المستمر أن جزاء الخيانة الموت!
لكن الشيء الصحيح هو أن جزاء الغباء هو الموت، فلو لم يكن الشخص على قدر عالٍ من الذكاء بحيث لا يمكن لأحد كشفه، فهو يستحق الموت حقًا"
وضع الرجل كأسه مرة أخرى فوق الطاولة، ثم التفت إليه مرة أخرى ليسأله :
-"لكن لم أعرف حتى الآن، ماذا سنفعل؟!"
استند بمرفقيه فوق حافتي الكرسي دافعًا جسده للأمام وصمت لبعض الوقت، ثم استقام متجهًا إلى حمامه الملكي ليرتدي ملابسه استعدادًا للاجتماع بوزرائه :
-"كما أخبرتك خسارتنا مثل خسارتهم، أملي الآن هو شخص واحد فقط، لكن عليّ أن أجلس وأنتظر إلى ماذا ستستقر الأمور؟!"
اختفى خلف الستارة الكبيرة الفاصلة بين جناحه والممر المؤدي لحمامه الخاص، تاركًا وزيره ينظر في أثره يحاول تحليل كلماته.
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤