هل تعلم أن العقرب يقتل نفسه عندما يجد نفسه محاطًا بالنيران!
حسنًا.. هل تعرف أن النسر عندما يشعر بالضعف يكسر منقاره وينتف ريشه كي لا يستطيع الطيران!
وعندما ننظر إلى السبب، البعض يراه كبرياء
وآخرون يجدونه غرور!
وبين هذا وذاك كان الدافع هو الخوف من الذل والمهانة!
فالذل كالصاعقة تسقط على الرأس فيكون المصير القبر!بزغ الصباح وانتشرت الشمس بأشعتها تنير المملكة بأكملها، فتحت رقية عينيها لتجد نفسها في الفراش وألم طفيف في ظهرها، مر بذهنها كل ما حدث بالأمس بدايةً من ارتدائها ملابس الخدم منتهزة فرصة وجود سارية في الحديقة لتقتلها وليحدث ما يحدث بعد ذلك حتى لو كان موتها، لتشعر بألم رهيب يسري في جسدها بأكمله جراء السهم الذي أُطلق بظهرها.
لن يأتي في مخيلتها أن يقتلها أحد!
حاولت التحرك لكنها لم تشعر بأطرافها فخمنت أنه تأثير ما حدث، حاولت أن تتحدث تنادي على أحد لكن صوتها كان ثقيلًا جدًا فأصابتها الدهشة لحالتها.
كان نيار برفقة زوجته في جناحها، انطلقا إلى فراشها عندما انتبها إلى استيقاظها يقف بجانبها وليان بجواره تطالعها بأسف، وضع يده على رأسها هاتفًا بلهفة :
-"أمي.. أمي أنتِ بخير صحيح؟!"
حالت بنظرها بينهما عاقدة حاجبيها بدهشة، حاولت التحدث أكثر من مرة ففشلت لينظر إلى ليان بتساؤل ثم التفت إلى والدته التي خرج صوتها ثقيلًا متقطعًا :
-"ما الـذي حدث؟!
أنا لا أشعر بأطـرافي"
أغمض عينيه بقوة وشدد على قبضته بعنف، فمسحت ليان على ظهره وربتت بالأخرى على يد رقية من أعلى الغطاء قائلة :
-"الحمد لله على سلامتك.. الأهم الآن أنكِ بخير"
طالعتها بتعجب وعدم فهم تعيد نظرها إلى نيار متحدثة بنفس طريقتها :
-"أخبرني ماذا يحدث لي؟!
لمـاذا أتحـدث بتلك الطريقة ولمـاذا لا أستطيع التحـرك!"
وضع وسادة أسفل ظهرها وأمسكها لتعتدل مستندة بكتفيها إلى وسادة أخرى وضعها خلفها، ثم اعتدل في وقفته وطالعها بشفقة وحزن لم يستطع أن يخفيه، في ظل قسوتها وجشعها ألا إنه لا يستطيع إنكار حبه لها.
شعر بكف ليان تمسك يده فضغط عليها كمن يستمد القوة منها كي يخبر والدته :
-"لقد أصاب السهم منطقة شديدة الحساسية في ظهرك، كنتِ على وشك الموت لكن مازال في عمرك بقية"
ابتلع بصعوبة وتنفس بعمق ثم قال بصوت خافت :
-"لكن في المقابل لن تستطيعي الحركة مرة أخرى"
جحظت عيناها بقوة غير مصدقة لما تسمعه، من المستحيل أن تقضي حياتها بهذه الحالة!
ليست من تُكسر بهذه الطريقة، لكن للأسف إن الغرور ما يمكنه أن يحول الملائكة إلى شياطين !
حاولت التمرد عما سمعته وحاولت التحرك فلم يتحرك شيء في جسدها إلا رأسها الذي اهتز يمينًا ويسارًا صارخة بصوت متقطع حاقد :
-"لا ليـست أنا من يحـدث لها هذا، لن تنـتصر ابنة بـدر الدين عليّ"
نظر لها بذهول مما تقوله !
لم يعنيها أنها ستقضي بقية حياتها في الفراش لا تستطيع الحركة مرة أخرى على قدر اهتمامها بحربها مع سارية!
لم يستطع التحمل أكثر من هذا، فضرب بقبضته على طرف الفراش أعلى رأسها يهبط برأسه إليها، يحدق بها بأعين شديدة الاحمرار ووجه متعب هاتفًا من بين أسنانه :
-"كفى أمي كفى!
ألم تتعظي بما حدث لكِ؟!
أخبركِ أنكِ نجوت من الموت بأعجوبة لكنكِ لن تستطيعي الحركة مرة أخرى..
شُلت أطرافك الأربعة وكل ما تفكرين به سارية وكيف تتخلصين منها؟!
ألم تكتفي من الظلم والحقد الذي بداخلك؟!
انظري إلى أين قادكِ حقدك؟
ماذا فعل بكِ السواد الذي يملأ قلبك، والجشع الذي يشغل عقلك؟"
تطلعت له بصدمة فهذه المرة الأولى يرتفع فيها صوته بوجهها، فمهما وصل به غضبه كان يتحدث أمامها بنبرة خافتة!
لو كان إلياس من يتحدث لم تكن لتنصدم.. لكنها تعلم حبها في قلب نيار فلم تتخيل للحظة أن يتحدث بتلك الطريقة!
كان ينظر لها بدوره وأنفاسه اللاهثة تصفع وجهها بحرارة وعنف يهبط أكثر إلى وجهها هامسًا بشراسة:
-"من تكبر على الناس ذَل أيتها الملكة.. تذكريها جيدًا"
استقام مندفعًا إلى الخارج فتابعته ليان بنظراتها بأسى وحزن على حاله، لتتنهد بقوة تعيد نظرها إلى رقية تراها جاحظة الأعين بعدم تصديق وملامح جامدة فهزت رأسها بأسف وركضت إلى الخارج تبحث عن زوجها.
ظلت على حالها لبعض الوقت تتأمل الغطاء فوق جسدها، لا تريد أن تصدق ما قاله نيار، كل ما في الأمر أن جسدها متيبس بسبب الإصابة وستعود إلى طبيعتها مرة أخرى ما أن تُشفى.
نعم هذا كل ما الأمر، همست لنفسها بسخرية أن طبيب القصر لا يعي شيئًا في مجاله ولا يحق أن يكون طبيبًا، ستخبر إلياس أن يقيله من منصبه ما أن تراه.
لم تشعر بالباب الذي فُتح ولا الشخص الذي دلف إلى الجناح يقف أمامها مباشرةً، ظلت على حالها بعض الوقت حتى شعرت بأنفاس أحد معها في الغرفة فرفعت رأسها إليه تتفاجأ بآخر شخص تريدها أن تراها في تلك الحال.
ساد الغضب على وجهها وهتفت بنبرتها المتقطعة :
ما الذي تفعلينه هنا؟
من سمح لكِ بالمجيء إلى جناحي؟"
مازالت على حالها تقف أمامها، كفيها يسكنان أمامها فوق ردائها، متجردة من تاجها وأي نوع من زينة ، فازدادت رقية شراسة وضيقت حدقتيها بكره لتقول :
-"قدرك أنقذك من يدي هذه المرة أيـضًا ساريـة، لكـن أعدك أنها ستـكون المرة الأخيرة، سأتـخلص منكِ حتـمًا"
سارت بهدوء نحوها تقترب من الفراش وعيناها مازالت بأعين رقية، وقفت في نهايته تتمسك بأحد أعمدته النحاسية وهزت رأسها بيأس تنظر لأسفل مبتسمة ابتسامة سخرية ثم رفعت نظرها لها مرة أخرى قائلة بنبرة مدعية التفكير :
-"أخبريني ما الذي يمنعني من الانتقام منكِ؟
ما الذي يمنعني من قتلك على كل ما تسببتِ به من محاولاتك لقتلي، إهاناتك، تجبرك، وإثارة المتاعب؟
إن قتلتك لن يلومني أحد، فلقد شاهدك الجميع ملقاة أمامي عندما كدتِ أن تطعنيني"
صمتت وكتفت ذراعيها أمام صدرها واقتربت منها تجلس على حافة الفراش توليها جانب جسدها، ثم نظرت لها بعد مدة من التفكير كمن تأخذ رأيها :
-"أخبريني ما الذي يمنعني أن أنتقم منكِ على ما تسببتِ به لأبي من تركه لمنزله، موطنه، أرضه والتشرد وأسرته ليتقي بطشك؟!
لماذا لا أستل خنجري وأخرج به قلبك لأرى إلى أي مدى وصل الحقد والجشع والضغينة به ؟"
ضغطت رقية على أسنانها حتى كادت أن تنكسر في فمها من شدة غيظها وضعفها من مجرد الرد عليها كالسابق، لاحظت تحولت عينيها إلى كتلة من الدماء من شدة غضبها لتقترب منها أكثر هامسة بغموض ونظراتها تنتشر على كامل وجهها وجسدها المغطى:
-"لماذا لا أشعر بالانتصار والسعادة لرؤيتك هكذا أيتها الملكة؟
يجب ألا يكون هناك شخص سعيدًا مثلي لرؤيتك هكذا عاجزة حتى عن النطق بشكل سويّ، لكن كل ما أشعره نحوك الشفقة.. الشفقة فقط"
حاولت التحرك بجسدها لكنها لم تستطع ليسقط جسدها على الفراش فتصرخ بقوة من الألم الذي عصف بها في كامل ظهرها نتيجة تحركها الزائد، لم تتحرك سارية من مكانها وهي تراها بهذا الشكل.. تصرخ بوجع.. ضعيفة منكسرة الجبروت.
تشعر أنها أمام طاووس نُتف ريشه بالكامل لكنه ما زال يسير بغروره وتكبره يقنع نفسه أنه لن يسقطه شيئًا ولو كان بعض الريش يكمن جماله كله فيه!
طاووس تلقى طعنة لكن كبريائه يرفض السقوط حتى يلفظ آخر نفس في جسده!
جلست القرفصاء واستندت بذراعيها على الفراش واضعة ذقنها عليهما أمام وجه رقية ومازالت ملامحها تكسوها الهدوء لكن خلف الأعين الساكنة نيران تشتعل من الغضب والثورة للانتقام منها على كل ما فعلته معها، لكن كلمات والدها ترن في أذنها :
"إن ضاقت بكِ نفسك عما بداخلك، ومزق الانتقام والغضب قلبك واستبد بكِ..
فكوني موقنةً بأن هنالك باب يفيض رحمة ونورًا..
باب إليه قلوب الخلق تنطلق
فعند ربك باب ليس ينغلق..
فلا تأخذي حقك من شخص أهلكه الضعف وعقاب ربكِ فما هو عقابكِ بجانب عقاب الخالق!!"
ذمت شفتيها بأسف مزيف وسألتها بدهشة وجبين متغضن
-"أتتألمين؟
أتشعرين بالوجع؟
أنهضي وتغلبي عليه هيا.. ألم تصرخي لي أنه لا يوجد شيء يستطيع كسرك وإضعافك؟
هيا أنهضي وأثبتي لي صحة حديثك..
أثبتي لي أن هذا الالم الذي يعصف بكِ يذكرك بالألم الذي عاشه إلياس بسببكِ"
صرخت سارية بقهر تضرب بقبضتيها على الفراش لكنها ضغطت على شفتيها حتى تكبح غضبها فلا يؤثر عليها بالسلب، سمعت زمجرة شرسة تخرج من رقية وعيناها تقدح شراً وهمست بفحيح بسبب ألم ظهرها الممزوج بغضبها
-"نعم أنـا سأنـهض وحينها لن ينقـذك أحد مني، سأقتـلكِ أيتها الحقيرة سأقتـلكِ، أنا لن يحـدث لي شيء"
صمتت ضاغطة على شفتيها تتنفس بصعوبة وتكتم ألمها حتى لا تثير شماتة تلك التي تستمع إليها بصمت وتنظر لها من أسفل أهدابها، فمدت رأسها تريد الاقتراب منها هامسة بنبرة تعكس كم الغل التي تحمله :
-"سأتخلص من بدر الدين إلى الأبد، سأجعـله يندم على ما اقترفه في حقي عندما يراكِ غارقة في دمائك"
قبضت على الفراش بقوة، شاهقة بعمق تضغط على عينيها وأسنانها قبل أن تفتحها فانتشر اللون الأحمر حول حدقتيها، لتنهض فجأة تنظر لها من علو وقالت بجمود :
-" لا تقطعي الوعود هباءً أيتها الملكة، أنتِ لم تستطيعي تحقيقها وأنتِ بكامل قوتك وطغيانك فما الذي تستطيعين فعله الآن؟"
انحنت لتصل إلى وجهها فلم يفصلهما إلى بضعة إنشات فقط فأحالت نظراتها بين حدقتيها وهزت رأسها بلا هامسة
-"أنظري إلى أين أوصلك حقدك وشرك؟
في هذا الفراش لن تستطيعي الحركة مرة أخرى ، وكل شيء اكتسبتيه وخسرتِ أمامه شيء آخر أغلى وأثمن وأولهم أبنائك، لن تستمتعي به..
داين تدان أيتها الملكة العظيمة، فالديّان لا يموت "
استقامت من أمامها واندفعت خارجة من الجناح دون أن تلتفت خلفها ولو لمرة واحدة، خرجت ولم تشعر بذرة من الندم على تركها لها بهذه الحالة ولا على الكلمات التي تحدثت بها، لم تشعر بالشماتة لما حدث لها على قدر شعورها بالقهر لما تلقته منها.
★★★★
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Historical Fictionملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤