الحياة أنثى خائنة..
في كل يوم لها عشيق جديد
أنثى مزاجية الهوى
أنثى لا تؤتمن بالسعادة قط.
-أثير عبد الله الشيمي-
★★★★★
الخيانة سم بطيء المفعول
يباغتك الشعور بألمه فلا يصلك الإدراك إلا بعد فترة طويلة.
وعندما يدركك الشعور يغادرك أوان الشفاء.
كخنجر يغوص بانغراس في منتصف جرح حديث العهد.
صمت...!!
كل ما حدث بعد تصريحها هو الصمت للحظات أشبه بالدهر..
تشبيه ما حدث بالصدمة أقل وصف يدل على شعورهم في هذه اللحظة..
كلماتها المفاجأة أشبه بدلو ثلج سقط فوق رؤوسهم أصابهم بالتجمد.
سارية عقدت حاجبيها بعدم فهم وملامح جامدة، تتبادل النظرات مع جاد الذي ظهر على ملامحه علامات الصدمة تهز رأسها بتساؤل..
هل ما قالته خديجة للتو صحيح أم كذبة أخرى؟!
ليهز رأسه باستنكار علامةً على عدم معرفته بما يُقال، فيبدو أن هناك الكثير من المفاجآت والأسرار التي ستكشف.
في حين تيبست يد إلياس الممسكة بخصلاتها ينظر إليها بأعين مذهولة وقد اكتفى منها حقيقةً، ثم استدار فجأة ينظر لأخيه الواقف بجمود يطالعها بنظرات غامضة، كأنه لم يستمع ما قالته للتو..
كمن يوجد في عالم آخر، ينظر لها من علو بطريقة جعلت قلبها يرتعد بين جنباته، لم ترتعب من شخص في حياتها كرعبها من نيار، فإلياس على الرغم من غضبه لكنه يحكم عقله، لكن نيار أقل عقاب لديه التعذيب، وإن أراد الرأفة بشخص قتله!
وملامحه في هذه اللحظة لا تنم عن شيء، كأنه استحال إلى حجر يصعب قراءة ما يدور في خلده.
خرج صوته فجأة يضع ذراعيه خلف ظهره بنبرة مدافعة عن صديقه غير مصدقٍ لما قالته للتو :
-"هل وصلت بكِ الدناءة وقلة الحيلة أن تلقي باللوم على شخص آخر للإفلات من فعلتك؟!"
رفعت عينيها إليه تزدرد ريقها بصعوبة تحاول أن تقف بعد أن تركها إلياس وصوتها خرج متهدجًا من فرط ضعفها :
-"ما الذي سيجعلني ألقي باللوم افتراءً على شخص آخر وكنت قد اعترفت بكل ما حدث ولم أخفِ شيئًا؟!"
معها حق، إن كانت تنوي الكذب كانت ستفعل من البداية منقذة نفسها من كل هذا!
ما مصلحتها أن تتهم مأمون أنه السبب؟
لتلمع في عقله هذه الحقيقة.. مأمون خائن!
مأمون من وضع سمعة الجميع على المحك بقتله للفتاة؟!
شك بالجميع حتى كاد يشك في نفسه، ولم يخطر على باله أن يكون مأمون وخديجة المتسببين في كل هذا!!
ضغط على فكيه بشدة واشتدت قبضتيه بجانبه، في حين ألتمع في عينيه الشر حتى كادت أن تطلق شرارات الغضب منهما كحمم بركانية تحرق كل ما تكاله.
اندفع بعاصفته إلى الخارج يطالعه إلياس بذهول وقلق من ردة فعله، فأسرع خلفه يمنعه من حدوث أي شيء خاطئ قبل معرفة الموضوع بأكمله.
فأخاه لن يتوانى في قتل وزيره!!
جذبه من مرفقه قبل أن يدلف إلى الغرفة الخاصة لمأمون، يحاول كبح غضبه :
-"نيار توقف.. هذه ليست الطريقة الصحيحة لتسيير الأمور، عليك إلجام غضبك والتحكم به حتى تستطيع التفكير"
تطلع لأخيه بجمود قبل أن يخرج صوته من أعماق بئر حالك :
-"اتركني واذهب.. تركت لكَ التصرف بحرية حتى الآن، لكن أنا من سيتولى عقابه إن ثبتت خيانته"
حاول التملص من قبضته لكنه دفعه إلى الحائط بعنف واضعًا يديه فوق عضديه مسيطرًا عليه وقال بهمس حاد :
-"لم أكن سأتولى هذا الأمر احترامًا لك، لكن مأمون ليس بغبي ولا شخص يُستهان به نيار، عليك تحكيم عقلك والتفكير في ردود فعله وما سيفعله"
طالت النظرات بين الأخين في لحظات تفهم بينهما قبل أن يتركه إلياس.
أخبره الحارس أن مأمون ليس بالداخل فقررا استغلال الأمر.
ظلا يبحثان عن أي شيء مثير للانتباه حتى جذب أنظار نيار لفافة مطوية بجانب مكتبته ملقاة على الأرض.
فضها يقرأها وما لبث أن اتسعت أنظاره مما فيها لينتبه إليه إلياس فأخذها منه ونظراته تمسح الأسطر مسحًا، وبين كل سطر والآخر تشتد قبضته عليها وتنطلق الشرارات من عينيه.
صدح صوت من خلفهما لحارس من الحراس ينحني باحترام إليهما :
-"مولاي.. إن كنتما تبحثان عن الوزير مأمون فهو قد علم منذ قليل أنكما في جناح الأميرة خديجة، فذهب إلى هناك.. إن شئتما سأبعث إليه في الحال!"
هز إلياس رأسه برفض :
-"لا داعِ سنلحق به إلى هناك"
وفي جناح خديجة.. ظلت سارية تنظر لها بذهول، بجانبها جاد الذي تقدم منها بحزم جعلها تنكمش على نفسها، فهي تخشاه منذ زمن بعيد بحكم مكوثها معه في قصر الجنوب :
-"تعلمين إن كنتِ تكذبين لن أخبركِ ماذا سيكون عقابك؟
سأترك خيالك يرسم مصيرك بأبشع الطرق"
رفعت نظراتها له بقلة حيلة ويأس، وهتفت به بقلة صبر ورعب يغرس جذوره في قلبها لما ينتظرها :
-"لماذا سأفتري عليه؟
إن كنت أنوي الكذب كنت فعلتها من البداية"
صمتت تنظر إليه بأعين بثقة فهي لم تقل غير الحقيقة، قبل أن يجذب انتباهها إلى نقطة ما خلفه فأحالت نظرها إليها وارتسمت شبح ابتسامة على وجهها ثم أكملت مشيرة برأسها :
-"ها هو.. قم بسؤاله بنفسك"
التفتت الرؤوس إلى الباب حيث يقف مأمون الذي أتى عندما علم بوجود نيار وإلياس في جناحها وقد ملأهم الغضب، فظن أنها فعلت ما لا يحمد عقباه.
دلف إلى الجناح مندهشًا لما يحدث هنا متسائلًا بتعجب لمرأى خديجة وأثار الصفعات على وجنتيها :
-"مولاتي.. ما الذي يحدث هنا؟!"
لم يجبه أحد بل ظل الجميع ينظر إليه نظرات مبهمة انعقدت لها تعبيرات وجهه، ينتظر الإجابة من أحد منهم وقد بدأ الشك يتسلل إلى قلبه ، فتقدمت خديجة منه ساخرة من لامبالاته :
-"لا داعِ لتمثيل دور البريء بعد ذلك..
أنزع قناعك المزيف فلم يعد له فائدة تُرجى.. فلقد تم كشف كل شيء"
نظر لها بنصف عين وفكين مشدودين ليرفع رأسه أمامها بترفع قبل أن يقول بعدم فهم :
-"لا أفهم عما تتحدثين أيتها الأميرة؟!"
قبل أن تجيبه صدح صوت سارية من خلفه بعد أن استفاقت من صدمتها..
بعد كل تلك الفترة وكل هذا الألم يقف قاتل صديقتها الأن أمام عينيها :
-"تعني أنه حان وقت التخلي عن دور الصديق الوفي والوزير المخلص، مأمون"
التفت لها بوجه منفعل وحاجبين معقودين لتكمل بنبرة صارخة تحمل حرقة قلبها :
-"أرني وجهك الخائن.. فأنت قاتل لا يستحق الشرف الذي يتمتع به، بل يستحق الرجم حتى القتل عما فعله"
اتسعت عيناه من المفاجأة وتسارعت أنفاسه لينظر إلى خديجة نظرات حارقة، فبادلته بنظرات ساخرة مستهزئة علم منها أنها اعترفت بكل شيء.
كتم كل انفعالاته خلف قناع البرود ليلتفت إليها :
-"مولاتي.. أنا لا أفهم ما الذي يحدث هنا؟
خيانة وقتل؟
أنا أرفض كل هذه الاتهامات التي توجهينها إليّْ"
صاحت بانفعال وصوت تجاهد في إخراجه بعد أن كاد يختفي أثر بكاءها الشديد، وجسدها يندفع للأمام ناحيته لولا إمساك جاد من مرفقها :
-"كفى كذب كفى!
يكفي كل هذا التمثيل والتزييف، أمثالك لا يستحقون سوى العذاب لقتلهم نفس بريئة، ووقوفهم بكل هذا السفور كأنهم لم يفعلوا شيئًا"
خرج عن شعوره مشيحًا بيده في الهواء، فهو وإن كره أحد فلن يصل لشعور الكره والحقد الذي يكنه تجاه سارية..
منذ أن رآها عزم أمره أنه سيتخذها له.. لكن انقلاب كل الأمور لصالحها وزواجها من إلياس لتكون ملكة البلاد، أنشأ بداخله حقد دفين تجاهها بجانب قوة شخصيتها التي تتمتع بها، فصاح صارخًا بشراسة :
-"من البريئة؟
من تتحدثين عنها كانت ستتسبب في كشف كل شيء، في ضياع كل ما وصلت له، فلم يكن هناك سوى القتل على أن تضعني في هذا الوضع"
حاولت الإفلات من إمساك جاد لها وجسدها ينتفض من سفوره وجحوده ليشتد احمرار وجهها وأصبحت حدقتيها غارقتين في بركة من الدماء :
-"أتركني جاد لأعلم هذا المخنث كيف يكون رجلًا؟
فمن يقتل ويخون لا يصنف إلا بشبيه رجال، لا يمت للرجولة بـصلة"
ابتسامة سخرية صدرت منه قبل أن يصيح بغضب وحقد ظهر في عينيه قبل نبرته :
-"كونكِ الملكة لا يعطيكِ الحق بالتحدث معي هكذا، فلا تنسِ أنكِ في هذه المكانة بمحض الصدفة..
لا تنسِ وضعك السابق، فأنتِ لا ترتقي لهذه المكانة"
أصاب جاد الغضب من حديث مأمون السافر، عقله يضع أمامه الأحجية وضوء لامع أُضئ فيه يظهر ظلمه لشخص ما ودفاعه للحظة عن هذا السافر!
أصبحت نيران قلبه أضعافًا، من مأمون ومن نفسه قبله.. زمجر بقوة وهتف بشراسة جاذبًا إياه من ياقته وهبط بجبهته بقوة على خاصته فارتدت رأسه للخلف، ثم هبط على صدغه بلكمة قوية :
-"مأمــون..!!
لقد اجتزت كل الحدود، عقابك يزداد وصدقني لن أهمل فيه.. كلمة أخرى من لسانك البذيء وسأحرقك حيًا"
دفعه مأمون في صدره بقوة فارتد للخلف بضعة خطوات، ثم هتف بقوة مشهرًا سبابته :
-"بل أنت من تلتزم حدودك وتعلم كيف تتحدث مع أسيادك"
شهقت سارية بصدمة من أسلوبه الدنيء، وعادت خطوة للخلف، لكن شهقة عالية أخرى صدحت منها ومن خديجة عندما سقط على أرض الجناح أثر لكمة قوية بجانب فكه من إلياس الذي دلف فجأة خلفه نيار فسمعا حديثه القذر.
لم يشعر بنفسه إلا وقبضته تهبط بكل قوته على فكه، ثم جذب سارية خلف ظهره قبل أن ينحني جاذبًا إياه من تلابيبه هامسًا بشراسة :
-"عندما تتحدث مع زوجتي عليكْ أن تلتزم كافة تعاليم الاحترام.. من يشهر إصبعًا في وجهها ستكون رأسه مفصولة عن جسده قبل أن يعيد ذراعه لجانبه.. أفهمت؟"
لكمه مرة أخرى ليقع ممتدًا على أرض الجناح فوضع قدمه فوق صدره منحنيًا برأسه إلى وجهه :
-"أعرف من السيد ومن الخادم عندما تتحدث مع أحد خاصةً جاد.. فعائلتي لا تعامل هكذا من قبل خسيس مثلك"
رفع قدمه عنه وصدره يعلو ويهبط بقوة كبيرة أثر انفعالاته وثورته، فنظر له مأمون بصمت وحقد واضًعا يده فوق فكه المكلوم قبل أن يضحك بهذيان كالمجنون :
-"رائع.. حقًا ما أراه من رسم الفضيلة والأخلاق أمامي يثير إعجابي"
وقف يطالع الأوجه الناظرة له بغضب وذهول من ضحكاته :
-"غاضبون لأنني قتلت فتاة!"
ضحك بجنون أكبر جعل سارية تنكمش بدهشة ممسكة ذراع إلياس، جاد يطحن أسنانه بقوة، خديجة تراجعت للخلف بخوف، أما نيار يطالعه بصمت مبهم وهو يكمل :
-"أنا كل عام أقتل العشرات من الفتيات بسبب قانونكم المجحف ولا يتحرك أحد معترضًا!
لا أرى فرقًا بين الجريمتين، تعددت الأسباب والموت واحد"
اقترب من نيار يطالعه بابتسامة ساخرة :
-"في سبيل الحصول على شيء عليك التضحية بشيء آخر.. أليس هذا شعارك نيار؟
ولأجل حياتي كانت حياتها قربانًا"
تجابها بصمت لا يقطع التواصل البصري بينهما شيء!
صمت غامض من قبل نيار الواقف كتمثال من الشمع لولا تنفسه الطفيف لأقسموا أنه استحال له!
يتأمل الحقد الدفين في نظرات وزيره يسأل نفسه كيف لم يرها من قبل؟
كيف كان غافلًا عن ذلك الكره والخبث؟
استدار مأمون إلى الجنود الذين أحاطوا به، فرفع نظره مرة أخرى إلى نيار الذي تحدث بهدوء غامض:
-"قيدوه وألقوه في الزنزانة السفلية..
في الصباح أريد ساحة القصر مليئة بالرعية"
انحنى الجميع باحترام وطواعية لأمر ملكهم ليجذبه اثنان من ذراعيه دافعين إياه للخارج، فخرج معهما ورأسه ملتفت لنيار بغموض فبادله نظراته بقوة وملامح جامدة حتى اختفى عن أنظاره.
نظر نيار إلى خديجة يتقدم منها خطوات بطيئة جعلتها تعود بمثلها للخلف وجسدها بأكمله ينتفض من الرعب.
ملامحه لا تبشر بخير، لدرجة أن سارية شددت قبضتها على ذراع إلياس تضمه لصدرها محاولة استمداد الأمان منه فأحاط خصرها بذراع والآخر ضم به رأسها ممسدًا على خصلاتها يبثها الحماية من كم المفاجآت التي رأتها اليوم.
عيناه على أخيه الذي أمامها يجذبها من مرفقها بشدة يمد يده ممسكًا بذقنها يدير وجهها بين يديه، يتأمل وجهها المكلوم بشفاه مذمومة ثم استدار لأخيه قائلًا بحدة :
-"هل ترى واحدة تسببت في القضاء على حياة شخص بريء، تستحق صفعتين فقط؟!"
لم يجبه سوى برفعة حاجب يتابع ردة فعله، ليلتفت مرة أخرى إليها ينوى إكمال حديثه، لكن صوت أمه من خلفه استوقفه دون أن يستدير لها :
-"نيار.. ما الذي يحدث هنا؟
وماذا فعل مأمون ليجذبه الجنود بهذه الطريقة؟"
دلفت معها ليان تطالع ما حولها بدهشة ووجه متجعد جاهلة ما يحدث هنا، جذب نظرها ظهر زوجها المتشنج ، وانهيار سارية في أحضان إلياس.. وقوف جاد يطالع كل ما يحدث بغموض لتقترب منه سائلة :
-"ما كل هذا جاد؟!"
طالعها بتنهيدة عالية مكتفًا ذراعيه أمام صدره :
-"ما حدث سيقلب موازين كل شيء مولاتي.. أظن أنه عليكِ الاهتمام بالملك في هذه اللحظة لأنه لن يستطيع أحد أن يكبح غضبه سواكِ"
تطلعت إليه بعدم فهم وحاجبين معقودين قبل أن تلتفت لاقتراب رقية من خديجة تشهق بصدمة وذهول وهي ترى حالتها الرثة فحاولت أن تلمسها قائلة :
-"يا إلهي من فعل بكِ هذا؟!"
لكن ذراع نيار امتد يحيل بينهما، ثم استدار لها يطالعها بنظرة محذرة ونبرة حادة :
-"أبقي خارج الأمر أمي"
ثم أدعى التفكير قبل أن يبتسم بسخرية ناظرًا لها من أعلى لأسفل:
-" لن أستبعد أن يكون لكِ يد في كل ما حدث هنا.. فلا أحد يكره سارية بقدرك"
رفعت حاجبيها الأيسر بتعجب من حديثه تحاول أن تربط جميع الخيوط ببعضها لتفهم منها ما حدث، فالتفتت تطالع سارية تشملها بنظرات مشتعلة من أعلى لأسفل قبل أن تهتف بسخرية :
-"كان عليّ أن أعلم أن كل ما يحدث هنا بسببك.. فالمشاكل لم تبدأ سوى بقدومك"
دفنت رأسها بكتف إلياس أكثر متنهدة بضعف، وقبضتها تشتد على ملابسه جعلت أنفاسه تتسارع وعينيه تشتعل غيظًا من والدته، لكن نيار تولى الرد عليها بنبرة قاطعة وهو ينهض يقف مقابلها :
-"بل المشاكل حاضرة من قبل أن تحضر سارية بسنوات.. فلا تحاولي إلقاء اللوم عليها والتظاهر بمشهد الأم العظيمة التي كانت تحارب من أجل مصلحة الجميع، حتى جاءت الساحرة الشريرة تقلب موازينها"
ثم اقترب برأسه منها يهمس بصوت لا يسمعه سواها :
-"أم لأنها تذكرك بنفسك في الماضي أمي، لهذا تكرهينها؟"
زجرته بعينيها بشذر وأنفاسها تتسارع بانفعال.. كادت أن تجيبه لكنه أوقفها بإشارة من عينيه ونبرة صوت عالية يوجهها إلى حراسه :
-"غير مسموح لخديجة الخروج من الجناح إلا بأمر مني أنا أو إلياس حتى صباح غد"
ثم توجه بحديثه إلى والدته التي تطالعه بشموخ طاووسي :
-"وغير مسموح لأحد برؤيتها أيًا كان"
أصدر أمره للجميع بالخروج آمرًا جاد أن يتابع الجنود في جمع الرعية في ساحة القصر فخرج ينفذ ما أُمر به.
أخذ إلياس زوجته متوجهًا إلى جناحها لتستعيد نفسها، وتأملت رقية خديجة التي تشبثت بذراعها بتوسل أملًا أن تساعدها من بطش غضبهم، ليفلتها نيار دافعًا والدته برفق إلى الخارج تسبقهما زوجته وأغلق الباب بنفسه.
نظرت ليان إلى والدته للحظات بتنهيدة يائسة ثم أسرعت خلفه لتفهم كل ما حدث من بدايته.
★★★★
انكسرت الكأس بقبضة قسوتك وخذلانك
انسكبت الأحلام، وبلل ماء الأماني أرض الواقع القاحلة..
فانسابت الدموع من كثرة الألم بصمت، ساقطة من شدة القهر والألم والخداع.
دلفت خلفه بقلب تتصارع نبضاته من شدة الخوف، رأته يخلع رداءه الملكي ويرتدي ثيابًا بسيطة، فأغلقت الباب خلفها واندفعت نحوه بقلق مما يدور في رأسه من أفكار، تضع كفيها فوق ذراعيه متسائلة :
-"نيار ما الأمر؟
لا أفهم شيئًا، ماذا فعلت خديجة؟!
وماذا فعل مأمون كي تأمر بسجنه وأن تجمع الرعية في الساحة غدًا"
لم يجبها مستمرًا في لف وشاحه فوق رأسه.. فرفعت كفها إلى وجنته مجبرة عينيه على النظر إليها وقالت بصوت حنون تحاول امتصاص جزء من ثورته التي تلوح بين حدقتيه :
-"أخبرني ما بك عزيزي لعلِ أستطيع مساعدتك"
وضع كفه فوق كفها الملامس له يضغط عليها بشدة غير مقصودة كتمت ألمها بقوة :
-"حدث ما لم أظنه سيحدث يومًا ليان!"
صمتت تستمع له وقلبها يقرع بقلق من بقية حديثه ليكمل :
-"آتتني الطعنة من أقرب الناس لي.. ابنة عمي و وزيري"
تلكأ في كلمته الأخيرة بذهول لم يفق منه بعد، فتوسعت عيناها بصدمة وعقلها يفسر ما يقال :
-"لا لا هناك شيء خاطئ بالتأكيد..
مأمون لن يفعل هذا، فهو قبل أن يكون وزيرك صديقك ورفيق دربك"
تطلع إليها من علو ثم ربت على وجنتيها بطريقة أثارت ريبها، وابتسامة غامضة على شفتيه :
-"الأمر أصبح طبيعيًا أن أتعرض للطعن من الخلف.. لكن الألم عندما التفت لأجد صديقي"
ارتعدت من جملته وعلمت أن القادم أسوأ، ما فعلوه حرك الوحش الكامن في أغواره ولم تنتبه إلا على خروجه من الجناح، حاولت مناداته لكنه لم يستجب وانطلق في طريقه إلى الزنزانة السفلية حيث يقبع مأمون هناك.
وفي جناح سارية أجلسها إلياس على الأريكة الواسعة جاثيًا أمامها ممسكًا بكفيها بين قبضتيه يفركهما يحاول السيطرة على انتفاضة جسدها من الحزن والتوتر.. رفع يده أسفل ذقنها يمسح بإبهامه أسفل فكها لترفع نظرها إليه يلوح بها مشاعر متفاوتة بين الصدمة والغضب هامسة بصوت منخفض:
-"مأمون هو القاتل؟!
كيف تظاهر بكل هذا الكم من البراءة والتعصب لسمعة القصر وهو السبب في كل هذا؟"
وضع كلا كفيه على جانبي عنقها ممسدًا على وجنتيها بإبهاميه قائلًا بحزم :
-"من جعل صديقة طفولتك يملئها الحقد تجاهك لتتسبب في كل هذا.. يجعلك تتوقعين أي شيء من أي شخص"
اقترب يغوص في عينيها بقوة وأكمل بنبرة خفيضة :
-"هناك الكثير من الأشياء المضادة لما تربيتِ عليه مع أبيكِ في هذا القصر ستكتشفينها مع مرور الوقت، أريدك بكامل قوتك لأنها تسحق الضعيف ساريتي"
طالت النظرات بينهما حتى شعرت بالهدوء يتسلل ببطء إلى صدرها، فاستقام من جثومه أمامها ينوي اللحاق بأخيه إلى الزنزانة، لكنها تمسكت بكفيه بلهفة رافعة رأسها إليه متسائلة :
-"إلى أين تذهب؟"
ضغط على كفها يجيبها :
-"لابد أن ألحق بنيار، فوقع الخبر عليه ليس بالسهل"
لاح التردد في عينيها تنظر لأسفل ضاغطة على شفتها السفلية بتفكير هامسة :
-"لكن ..."
قاطعها وهو ينحني بجسده أمامها محيطًا وجنتيها بحنان :
-"آن أوان أن تبرد نار قلبك ساريتي..
فلقد وعدتك وسأفي به مهما كانت الظروف"
أنهى حديثه بقبلة طويلة على جبهتها وتربيتة خفيفة على وجنتيها قبل أن يتركها تشيعه بنظراتها.. لكن قبل أن يهبط إلى القبو، سمع صوتها تناديه من خلفه وصدرها يعلو ويهبط من أثر ركضها لتلحق به ، خصلاتها تنتشر على وجهها تغطي نصفه، فعقد حاجبيه بدهشة وهي تقترب منه ممسكة بذراعه قائلة بأنفاس متقطعة :
-"سآتي معك إلياس، يجب أن أعرف ماذا فعل وما دفعه لقتلها؟"
حاول ثنيها عما تريده فشددت من إمساكها به وأعطته نظرة مترجية يراها في عينيها لأول مرة وأكملت :
-"أرجوك إلياس.. لن أستطيع المكوث في غرفتي متجاهلة الأمر، لن أرتاح ولن يهدأ بالي"
رضخ لرغبتها ممسكًا بكفها بين قبضته وتوجه لأسفل.
★★★★
خذلوني أولئك الذين ظننت الحياة معهم ستكون أفضل!
فليتهم اصطفوا ضدي، ولم يصطفوا خلفي ليتقاسموا ظهري بخناجر غدرهم المسمومة!
مقيدٌ عاري الجذع من ذراعيه أعلى رأسه المنحني لجانبه بإنهاك، وأثار ضربات بالسوط ظاهرة بوضوح فوق صدره راسمة خطوط متعاكسة تنزف منها الدماء.. أمامه يقف نيار قابضًا على السوط بقوة يلهث بانفعال وحبيبات العرق الغزيرة تهبط على جبهته.
شددت سارية على كف إلياس تلتمس الحماية، وما زاد توترها نيار وملامحه خاصةً عندما استدار لهما فوقف إلياس واضعًا ذراعه الحر خلف ظهره يستمع لحديثه الساخر ظاهريًا مشيرًا إلى مأمون ويحوم حوله :
-"أرأيت أخي؟
الرجل الذي كان يتولى عقاب الخائنين والكاذبين بهذا السوط، انقلبت الأدوار فصار هو الخائن وينال العقاب"
جذب خصلات مأمون من الخلف وهمس بوحشية في أذنيه :
-"صديقي طعنني وقام بخيانتي، من وضع سمعتي وسمعة مملكتي على المحك.. لماذا؟!"
قال جملته الأخيرة بصراخ يدفع رأسه للجانب الآخر ويهبط بسوطه فوق صدره مرتين بكل خيبة أمل يقاطع صوت السوط صراخه الجوهري، ليقف نيار أمامه وقد سقطت عمامته بجانب قدمه :
-"أخبرني ماذا حدث من البداية مأمون"
ليقترب منه مشهرًا سبابته بتحذير أمام وجهه وهمس بحدة :
-"وحذارٍ أن تكذب!"
رفع رأسه بإنهاك يحوم بنظراته بين نيار وإلياس حتى وقعت عينيه عليها فابتسم بمكر وبدأ في الحديث منذ أن أرسلت له خديجة في طلبه :
-"آتتني رسالة من خديجة تطلب مساعدتي بأنها ستبعث لي فتاة تريد مني إخفائها بحيث لا يستطيع أحد إيجادها مهما حدث"
رفع أمامه اللفافة التي وجدها في غرفته وقد كانت نفسها الرسالة الخاصة بخديجة التي يتحدث عنها :
-"هذه هي.. صحيح؟!"
تطلع إلى الورقة ثم أومأ يستعيد بذاكرته ما حدث.
تسلم الرسالة من الحارس مندهشًا بعدما أخبره أنها مبعوثة له من الجنوب، ففضها يقرأ ما بها..
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه الرسالة مني أنا الأميرة خديجة إليك أيها الوزير، لكني لا أخاطبك بصفتك الوزير بل كأصدقاء.. أريد مساعدتك في أمر هام للغاية..
الجندي الذي أرسلته للبحث عن الفتاة التي تعرضت لأحد جنودكم في السوق، سأبعثه إليكَ برفقته فتاة تكون صديقتها، أريد منكَ إخفاءها في مكان لا يستطيع أحد إيجادها فيه..
أنا سأصل إلى المملكة برفقة إلياس في غضون يومين، سألتقيك حينها وسأشرح لك الأمر بأكمله"
عقد حاجبيه من مغزى الرسالة وظل يفكر فيما تفعله.. إن كانت توصلت للفتاة التي يبحثون عنها فلماذا ترسل صديقتها؟
ماذا تريد من جراء فعلتها؟
انتظر حتى وصل الجندي برفقة فتاة فاقدة الوعي.. تأملها قليلًا قبل أن يأمرهم بتركها والذهاب، ثم حملها وسار بها حتى وصل إلى الزنزانة السفلية ووضعها بها، هذه الزنزانة التي لا يعلم عنها أحد سواه ونيار فقط.
وفي جنح الليل في ليلة لم يزرها القمر، بل ساد فيها أصوات الغربان يعلن عن لقاء الأفاعي في اجتماع يشوبه المكر والحقد لتدبير المكائد.
بادر بالسؤال في عدم فهم :
-"هل لكِ أن تخبريني من هذه الفتاة؟
وإن كنتِ تعرفين مكان الفتاة الأخرى، فلماذا لم ترسليها؟"
ابتسمت بمكر تزيح قلنسوتها عن رأسها وقالت بخبث :
-"الفتاة التي يبحث عنها نيار تدعى سارية، ليست بالفتاة الهينة التي تستطيع أن تختطفها وتأتي بها إلى هنا بهذه السهولة.. فهي كما عرفت بارعة في مبارزة السيف ورمي السهام"
التفتت لها برأسها رافعة حاجبها بسخرية وابتسامتها مازالت على جانب شفتيها :
-"والدليل مهاجمتها لأحد جنودكم في وسط السوق أثناء وضح النهار"
انتفخت أوداجه منها فكتف ذراعيه أمام صدره قائلًا بنفاد صبر :
-"كفاكِ سخرية وأخبريني عما يدور برأسك؟!"
أخبرته بأمر فتون وما طلبته منها، ليحالفها القدر بمجيء هذا الجندي إلى المملكة ولقائه بها.. ثم أكملت :
-"هذه الفتاة من ستأتي بسارية إلى هنا وبالتالي نتخلص منها"
عقد حاجبيه بعدم فهم يضع يده أسفل ذقنه بتفكير :
-"كيف؟"
التفتت تسير خطوات للأمام تسترد في حديثها :
-"سارية تكره بشدة قانون المملكة، فعندما يصلها أن صديقتها اتُخذت جارية لن تجلس مكتوفة الأيدي وستأتي مطالبة بها"
ضحك يهز رأسه بدهشة ويأس مصفقًا بيده عدة مرات :
"تخونين زوجك المستقبلي وتزجين بسمعته ومكانته على المحك لتساعدي مجرد خادمة لديكِ"
أولاها ظهره وهم بالذهاب مصرحًا :
-"أنا لن أشاركك في هذا الشيء"
أوقفته ضحكتها العالية يشوبها كثير من السخرية مصفقة، فاستدار لها بدهشة من حالتها واقتربت منه:
-"لا تحاول إقناعي أنك المخلص هنا مأمون.. أنت لا تهتم سوى بنفسك وعلى أتم استعداد لفعل أي شيء يصب في مصلحتك"
ابتسمت بخبث وأكملت بفحيح:
-"حتى وصل بك الأمر أن تضع يدك في يد كهرمان وتخون صديقك"
وقفت على بعد بضعة إنشات فقط تطالع ملامحه التي تجمدت أمامها، يعلم أنها على معرفة بما يفعله عندما رأته يبعث بإحدى رسائله إلى كهرمان مع أحد رسله.. لكن أن تبتزه بهذه الطريقة!
أكملت بنبرة مبتزة :
-"لا تعطني درسًا في الأخلاق وأنت تختلس من خزينة المملكة لخزينتك الخاصة أيها.. الوزير"
أشارت بسبابتها على نفسها ثم عليه ونظرة قوية لاحت في عينيها :
-"أنا وأنت متشابهان.. كما أنني لا أطلب منك سوى إخفاء الفتاة لحين ينتهي يوم الاحتفال، حينها تلك السارية ستكون قد أصبحت ضمن جواري القصر"
تلمست ياقته مقتربة منه بدلال وغنج حتى اختلطت أنفاسهما :
-"ماذا قلت؟"
طال الصمت بينهما والنظرات بين الأعين، ليبتسم بمكر وذراعيه تحيط بخصرها هامسًا بخبث أمام شفتيها قبل أن تلامسها :
-"كما قلتِ كلٌ منا يشابه الآخر فلمَ الرفض؟!"
برع في إخفائها طوال فترة الشهرين التي أعطاها نيار لسارية، خاصةً أنه منذ أن رآها بجمالها وعنفوانها وقد أقسم بينه وبين طيات نفسه أن يتخذها لنفسه.
لكن في يوم الاحتفال دلف إلى الزنزانة، وجدها مستيقظة بكامل وعيها لكن بجسد منهك، فلقد حرص طوال الأيام الماضية على إعطائها مجموعة من الأعشاب التي تصيب بالخمول والنوم حتى لا تسبب المشاكل.
اقترب منها يجلس بجانبها بابتسامة ماكرة :
-"أشعر بالشفقة عليكِ، فلا ذنب لكِ في كل ما حدث لكن صديقتك يبدو أنها تسبب الكثير من المشاكل فقرروا التخلص منها، وما كنتِ غير طعم لاصطيادها"
زجرته بحدقتيها بعدم فهم وعقدت حاجبيها بدهشة هامسة :
-"صديقتي؟
تقصد سارية؟!"
أومأ برأسه بمكر لتشهق بقوة منتفضة بجسدها للخلف تصيح به محاولة النهوض من مكانها :
-"ماذا فعلتم بها؟
أريد الخروج من هنا في الحال.. أريد رؤيتها"
يده قبضت على رسغها وجذبها إلى صدره مسيطرًا على حركتها فهمس أمام وجهها :
-"لا لا لا.. ستخرجين عزيزتي لكن ليس الآن، فاللحظة التي يعلن فيها نيار أن صديقتك أصبحت من الجواري عقابًا لها سأطلق سراحك"
اتسعت عيناها بفزع وازدادت حركة جسدها محاولة الإفلات منه لكنه لم يتركها، فأثنت ركبتها تضربه بقوة أسفل بطنه مما أجبره على إفلاتها لتنطلق مسرعة خارج الزنزانة، تدور حول نفسها تبحث عن الطريق للخروج من هذا القبو قبل أن يمسك بها، لكنها صرخت عندما وجدت خطواته الراكضة خلفها يلحق بها.
وقفت فجأة وشهقة عالية تنطلق من أعماق صدرها عندما أمسك بها صافعًا صدغها بقوة أطرحتها أرضًا فجُرحت رأسها، وسال خط من الدماء.
جثى بركبته بجانبها فرفعت عينيها إليه تتسارع أنفاسها، فجذب خصلاته بغضب عما آلت إليه الأمور.
التفت حوله عدة مرات قبل أن يحملها بين ذراعيه وخرج من باب سري يوصله للحديقة الخلفية من القصر ووضعها حتى أتى بواحد من الخيول لينطلق بها إلى كوخ في الغابة ووضعها به ، كاد أن يخرج لكنها تمسكت به تقاومه لتخرج وتلحق بسارية.
لم يستطع السيطرة على أعصابه وزاد توتره فلم يشعر بنفسه إلا وهو يخرج خنجره ينحرها به، ثم أشعل به النيران
اجتاح الصمت أرجاء الزنزانة إلا من أنفاس سارية التي تسارعت بصدمة، وانتفض جسدها للخلف تستمع لسقطات السوط على جسد مأمون وصراخ نيار يحمل في طياته الألم خيبة الأمل :
-"أيها اللعين.. لقد وضعتك في مكانة لن يصلها غيرك، جعلتك بئر أسراري بل وفضلتك على أغلى الناس عندي، أكثر من أخي من لحمي ودمي ليكون جزائي هذا أيها المخنث عديم الشرف"
ظل يهبط بالسوط على جسده فلم يتبق جزء سليم في جذعه لم تطاله ضرباته لدرجة أن قطرات الدماء تناثرت من جرحه على جدار الزنزانة بعد كل ضربة منه، فتناثر بضعة منها على ثوبها لتكون القشة الأخيرة في انهيارها فسقطت بين يدي إلياس الذي صرخ باسمها بفزع :
-"ســارية"
يعلم أنها ستصل إلى هذه الدرجة بعد كل ما سمعته ورأته، ولهذا كان يعارض قدومها إلى هنا لكنه يعلم عنادها الشديد وإصرارها على القدوم.
التفت نيار بحدة على صراخه ليراه جاثمًا على ركبته يسندها على ذراعه يحاول إفاقتها، ثم حملها وخرج.
ألقى السوط إلى نهاية الغرفة وأمر الجنود بحراسته حتى الصباح، ثم خرج بعد رمق مأمون بنظرة تحمل كل الألم وخيبة الأمل التي تلقاها منه.
★★★★
لكل ألم نهاية
ولكل وجع دواء
لا يوجد استمرار للكذب والخيانة
سيأتي وقت وينكشف ما برعوا في إخفائه
ليأخذ كل ذي حقٍ حقه
جميع أفراد المملكة مجتمعون في الساحة الخارجية يمتدون لأمتار في الخارج..
مأمون جاثم على ركبتيه في منتصف الساحة، ذراعاه مكبلتان خلف ظهره ورأسه منحني في خزي وعار، يقف أمامه كلٌ من نيار وإلياس بشموخ.
سادت الهمهمات بين الجميع عما فعله مأمون ليصل إلى هذه الحال، حتى ارتفع صوت إلياس الجوهري جعل الصمت يعم فجأة في المكان :
-"قبل ما يقرب أربعة أشهر دلفت فتاة إلى هنا تطالب بصديقتها التي اختطفت.. على الرغم أننا لم نكن نعلم أي شيء عما تتحدث عنه وعلى يقين تام أنها ليست في القصر"
صمت قليلًا قبل أن يكمل :
-"لكنها بالفعل كانت هنا"
سادت الشهقات والهمهمات بين الجميع لما قاله قبل أن يرفع يده إشارة للصمت، وأكمل ساخرًا يجثو على ركبته بجانب مأمون ناظرًا إليه بشذر والدماء تغلي في أوردته :
-"والسبب في كل هذا الوزير والصديق المخلص مأمون..
من أخفاها حتى يجعل سارية كاذبة أمام الجميع ليجبرنا على جعلها من ضمن جواري القصر، وعندما كادت أن تفشل خطته.. قتلها"
تعالت الأصوات الغاضبة هاتفين بسباب على مأمون ناعتين إياه بالخائن، مطالبين بقتله في الحال.. فرفع نيار يده لأعلى مطالبًا بالتزام الصمت ثم قال بصوت قوي :
-"لقد صدر الحكم.. جمعتكم حتى أُريكم جزاء كل خائن وكاذب، وليكون عبرة لكل من تسول له نفسه للخيانة"
أجلى حنجرته وشد جسده يطالع إلياس بصمت تعجب له الأخير ثم هتف :
-"منذ اليوم تم إلغاء قانون الجواري في المملكة"
مال جسد ليان للأمام في جلستها تمسك بحافة الشرفة بصدمة وعدم تصديق أنه فعلها!
نيار فعلها وتحرر من قيوده!
رمقته بنظرة فخر وعشق لن تتخلَ عنه، على عكس والدته التي شهقت بذهول وغضب مما قاله!
ابتسم إلياس بفخر وقد رأى في هذه اللحظة نيار ابنه الصغير، ليقطع الأخير نظراته قبل أن يتمكن منه التأثر.
تذكر عقابه لخديجة في وقت سابق من اليوم عندما هتف بصوت خالي من الرحمة :
-"عقابك النفي.. في القصر الشرقي القابع أعلى التل في الغابة، تحت حراسة مشددة ولن تخرج منه إلا بأمر مني أنا فقط"
أخرستها الصدمة، تتمنى أن يحكم عليها بالقتل على أن تقبع بقية حياتها في هذا القصر المرعب.
قصر لا تصله شمس، أشبه ببيوت الرعب ولم يسكنه أحد منذ سنوات نظرًا للمنطقة المخيفة القابع بها، صرخت تستجديه أن يرحمها أو يقتلها على أن يأخذها إلى هناك والجنود يمسكون بها يخرجوها من القاعة.
نفض رأسه يعيد انتباهه لما يحدث الآن، ورفع نظره إلى إلياس قبل أن يكمل :
-"بعد إذن الملك، أريد من سارية النزول إلى هنا"
رفع إلياس حاجبيه بدهسة وتأمله كمن يقرأ أفكاره، ثم التفت برأسه حيث مجلسها يمد ذراعه نحوها علامةً على السماح لها بالنزول إليه.
اندفع جسدها إلى الأمام تستمع لطلب نيار وإشارة زوجها تنظر إلى ليان بتيه ودهشة، فربتت على كفها بطمأنينة وابتسامة تهمس لها :
-"أذهبي سارية، حان الوقت ليرتاح بالك ويهدأ قلبك وتستكين روح صديقتك في سلام بعد كل هذا التعب..
أذهبي لتأخذي حقك وثأرك من هذا اللعين بيدك ، لتفيقي بعدها لحياتك"
بثت كلماتها القوة في روحها، لتجد جاد صعد إليها يقف أمامها يمد لها كفه، فابتسمت له تضع يدها بيده وتهبط إلى أسفل حتى دلفت إلى الساحة، أغمضت عينيها وأشعة الشمس تنعكس على وجهها مانعة عنها الرؤية للحظات.
شعرت بأن هناك من يأخذ بيدها يحثها على التقدم، وجدت إلياس يساندها فقبضت على كفه بقوة تستمد منه القوة فأعطاه ما تريد ببذخ في قبضته على كفها وابتسامته الحنونة، تقدمت تجاه نيار الذي اقترب بخطواته منها يقول بصوت يصل للجميع :
-"على الرغم أنني أكثر شخص يريد قتله، لكن لا أحد لديه الحق أكثر منكِ أنتِ"
وضع السيف بيدها لترمقه بصدمة ثم ارتفعت بنظراتها له غير مصدقة لما يقوله فأكمل بنبرة متوحشة وأعين تقدح غضبًا ضاغطًا على أسنانه بقوة :
-"خذي بثأرك سارية"
أفسح لها الطريق في حين تراجع إلياس للخلف تاركًا إياها تأخذ قرارها بنفسها.. ظلت ترمق السيف بقوة وأنفاس ثقيلة ، وأوقاتها مع مارية تمر أمام عينيها، حتى جاءها خبر اختطافها وحضورها إلى القصر.
تذكرت بحثه معهم وكأنه لا دخل له.. فرفعت نظرها إليه وقد اعتمر الغضب قلبها وأغمضت عينيها بقوة تحاول السيطرة على دموعها التي أبت وهبطت على وجنتيها، فالتفتت إلى زوجها كمن تسأله عما يجب أن تفعله، لتجده يومئ لها برأسه وفي عينيه نظرة كمن يقول لها :
-"أفعلي ما تمليه عليكِ روحك"
تنفست عدة مرات وكادت أن تأخذ قرارها.. لكن فجأة ضج قلبها بضربات عالية وشعور غريب يجتاحها.. شعرت برياح تحمل رائحة تشتاق إليها بشدة كبيرة، لتتسارع أنفاسها وتلتفت برأسها بقوة جعلت خصلاتها تتمرد من أسفل وشاحها ملتفة حول عنقها تجاه بوابة القصر بأعين لامعة منتظرة لمن سيدلف الآن.
عقد إلياس حاجبيه لردة فعلها ولاحت منه نظرة لأخيه الذي لاحظ حركتها.
سمعوا صوت صهيل خيل يأتي من الخارج يقترب حتى دخل إلى الساحة، فكان بدر الدين قد عاد في هذه اللحظة وكأنه يشعر أن صغيرته في أشد الحاجة إليه.
وقف بخيله خلف مأمون بمسافة قليلة ولم يهبط من عليه، يطالعه الجميع بمشاعر وانفعالات مختلفة..
إلياس ونيار بدهشة يغلفها راحة يعلمان أن بعد ما سيحدث سارية ستكون بحاجة إليه.
رقية بصدمة من عودته فقد ظنت أنها تخلصت من وجوده لمدة من الزمن.
أما سارية فنظرت لوالدها نظرات فرحة.. اشتياق، وتساؤل عن القرار الصائب؟!
تواصل معها بعينيه.. نظرات طالت مدتها تعرفها جيدًا قبل أن تنظر مرة أخرى إلى السيف في يدها بابتسامة باهتة وألقت كلماتها لمأمون :
-"لن يكون هناك أسعد مني عندما أرى دمائك مسالة جراء ما فعلته.. لكن على الرغم من كم الغضب الكامن في صدري تجاهك والذي يحثني على تقطيعك إربًا بكل اشمئزاز وتشفي"
صمتت ثانية ترفع رأسها لوالدها بأنفاس ملتاعة من الشوق لأحضانه :
-"لكن ابنة الشيخ بدر الدين لا يمكنها قتل شخصًا.."
أكملت توجه حديثها لوالدها:
-"اتذكر كلماتك أبي
(إن رفعتِ سيفك وقتلتِ ستفقدين هويتك الأنثوية وفطرتك التي خلقك الله بها)"
ثم التفتت إلى إلياس وتقدمت منه حتى وقفت أمامه تمد يدها إلى كفه تضع السيف به :
-"بل أخبرني أن أدع هذا الأمر لمن قُدر له"
اقتربت منه أكثر وصوتها أقرب للهمس ضاغطة على كفه الممسك بالسيف بقوة :
-"نفذ وعدك لي إلياس.. أرح قلبي أرجوك"
تأمل عينيها غير مصدق أنها وضعت كامل ثقتها به أمام الجميع وتركت له زمام الأمور ليربت على كفها بيده الأخرى ويتقدم تجاه مأمون وهو يقول :
-"كما تدين تدان مأمون، والجزاء من جنس العمل"
ليرفع سيفه عاليًا وقال بهمس وصل لمأمون فقط :
-"وجزاء الخيانة الموت"
هبط بنصل السيف على عنقه فاصلًا رأسه عن باقي جسده لتندفع متدحرجة على أرض الساحة حتى وصلت إلى أقدام نيار الذي نظر لها بملامح صلبة غامضة، فانهار باقي جسده على الأرض صانعًا بركة كبيرة من الدماء أسفل قدم إلياس الناظر له بجمود و حدة.
أنت تقرأ
سارية في البلاط الملكي "كاملة"
Fiction Historiqueملحمة بدأت بموت وبالنهاية.. اندلع بها العشق ❤