الفصل العشرون

2.2K 88 8
                                    

الخيانة جريمة يدفع ثمنها أحيانًا من لم يقترفها.
جريمة لا تنجح أبدًا إلا إذا أعطيتها أسماء أخرى..
حماية
خوف
مصالح
نفوذ
عندما يتحالف الصديق والعدو يصبح الجرح غائرًا تاركًا ندباته في الروح مهما مر الزمان.

قلبه لا يعرف الرحمة
يده لا تعرف سوى السوط
كلماته قاسية.. نظراته مرعبة.. ابتسامته مظلمة.
كالنمر الأسود يحوم حول فريسته المدرجة بالدماء مبتسمًا بغرور وانتصار.
فريسته اليوم معلقة من قدميها ورأسه لأسفل، يتأرجح جسدها في الهواء فترسم قطرات الدماء المتساقطة منها خطوطًا على الأرض.
همسته الضعيفة بتوسل مميت وبكاء تثير شعور نشوة الخمر في نفسه :
-"أرحمني أرجوك مولاي.. أرحمني"
اتسعت ابتسامته بخبث وعيناه تهبط على ضربات السوط التي وجدت طريقها جيدًا فوق ظهره وبطنه، جلس القرفصاء أمام وجهه المعاكس هامسًا بفحيح :
الرحمة لا تُطلب ممن لا يرحمون عزيزي.. الشيطان لا رحمة له ولا لديه"
حك فكه بتفكير مصطنع سائلًا :
-"ماذا سيكون رد فعل ملكك الغالي عندما يعرف مصيرك؟"
ضحك بسخرية يجذب خصلاته لأسفل يزيد من تمدد جسده فتتسع جروحه أكثر ويزداد نزيف دمائه :
-"لماذا إلياس يبخس من قدري بهذا الشأن كي يبعث جاسوسًا ضعيفًا مثلك إلى قصري؟"
رأى عيني الرجل تنغلق بضعف ومازال يترجى رحمته، فربت على وجنته هامسًا بخبث :
-"لا تقلق سأرسلك إلى مملكتك بالتأكيد لأجعل إلياس يصلي عليك صلاة الجنازة"
ثم تركه وخرج تاركًا إياه لشبح الموت البطيء.

أما عن أروى فرحلتها إلى مملكة القمر استغرقت نصف يوم، استغلت الراحة التي أعطتها لها ليان ودبرت رقية أمر خروجها من القصر بعدما أخذت الرسالة منها وانطلقت في طريقها التي تعرفه جيدًا.. وصلت على مشارف القصر ليسمح لها الحراس بالدخول بعدما تعرفوا عليها.
هبطت من فوق خيلها وانطلقت مسرعة تعرف طريقها، قابلتها إحدى الجواري لتقف مرحبة بها قائلة :
-"مرحبًا بكِ أروى، مرت فترة لم تأتِ إلى هنا"
أومأت لها بحركة سريعة وسألتها :
-"أين الملك؟!"
أجابتها مشيرة بسبابتها إلى الممر المؤدي إلى جناحه :
-"دلف لتوه إلى جناحه"
أسرعت بخطى رتيبة منفعلة تجاه الجناح ودلفت دون أن تطرق الباب تلتفت حولها تبحث عنه فلم تجده، لكنها سمعت صوت سكب مشروب في الكأس يأتي من الشرفة الفسيحة، فدلفت إليه لتجده يقف موليًا ظهره إليها، مستندًا بكف على حافتها والأخرى ممسكة الكأس يتجرع منه ولم ترَ الابتسامة على محياه لكنها استمعت صوته البارد :
-"تعلمين أنني اشتقت إليكِ.. كثيرًا"
تقدمت منه تمد أحد ذراعيها من أسفل كتفه تمرر كفها على بطنه صعودًا لأعلى صدره، فأمسك به بين قبضته يديرها أمامه ووضع ذراعيه على حافة الشرفة حولها، ينظر إليها من أعلى لأسفل يعض على شفته السفلى ثم رفع كفه يمرره على صفحة وجهها بظاهره وقال بهمس يضحك ببرود :
-"ما هذا الكرم!
أبعث إليكِ بمرسالي لتأتي أنتِ ولم يعدْ هو"
تنهدت بسخط مزيحة كفه عن وجهها وقالت بفم ملتوي :
-"لقد جئت بالإجبار، هل تظن أنه من السهل المجيء إلى هنا؟!"
ضيق عينيه ينظر إليها بغموض، ثم اقترب بوجهه منها قائلًا :
-"لا أفهم معنى كلمة إجبار؟"
لم تجبه بل رفعت الرسالة أمام عينيه تفصل بين وجهه ووجهها، فنظر إليها بجبين متغضن وحال بنظرة مرتين بين عينيها والرسالة قبل أن يعتدل في وقفته يأخذها منها يفضها يقرأ ما بها.. سار خطوتين للجانب وبدأ في النظر فيها :
-"من الملكة رقية إلى الملك كهرمان..
كل منا يعلم مدى كرهك لابني ومدى المنافسة والتحدي بينكما، لكن أريد أن تترك هذا الأمر وتساعدني بما أريد فعله، بالطبع عصفورتك الواقفة بجانبك الآن أخبرتك بالفتاة المسماة سارية!
أنا أكرهها لمدى لا يتخيله أحد وأريد التخلص منها اليوم قبل الغد.
أعلم أن مملكتك الوحيدة التي تنتج أخطر أنواع السموم، وكذلك الدواء لا يوجد إلا عندك.. أنا أريد هذا السم لكن لا أريده سائلًا، أريد سهمًا مغموسًا فيه، أريد القضاء عليها في أقرب فرصة..
أرجو منك التعاون فهذا أول طلب لي منك"
ارتفعت ضحكاته بشكل مرعب أثار دهشة الواقفة لا تعلم أي شيء عن محتواها!
ضحكة سخرية واستمتاع من ذلك القدر الذي يعطيه ما يريد دون أن يفكر حتى!
ما أن أنهى قراءتها وطوقها مرة أخرى هتف محدثًا نفسه بصوت عالٍ :
-"يبدو أنه يوم المفاجآت!
الأم تريد التخلص من زوجة الابن، وقررت اللجوء لعدوه الوحيد تطلب مساعدته.. يا لحظي!"
استند على حافة الشرفة بكفيه وابتسامة جانبية على شفتيه مليئة بالتشفي والمرح الموشح بالمكر وأكمل همسه :
-"حسنًا لنرى ماذا سيحدث ونحقق لها مطلبها، خطأ كبير في حقي أن أردها"
ليصمت وأكمل عقله الحديث :
-"لكن مع تغيير بسيط.. هذه الفتاة أرقت ليلي ونومي!
أحلم بامتلاكها فكيف سأقدم على قتلها دون أن استمتع بهذا الجمال النادر، لكن لنفعلها على طريقتي"
صمت ومازالت الابتسامة على وجهه قبل أن يلتفت يكتب الرد على رسالتها ويبعثها مرة أخرى مع أروى.
******

حين أصبح هو البحر لم تعد تلوح طلبًا للنجاة
بل تركت نفسها للغرق تودعهم باستمتاع!
هو الأمان.. الدواء.. الوطن
هو جميعهم عندما يرحلون!

دلف إلى ساحة التدريب بعدما أرسل إليه جاد فلم يجد أحد بها وكأنها مهجورة منذ زمن، زوى بين حاجبيه بتعجب ودار حول نفسه بدهشة حتى وجد أحد الحراس يتقدم حاملًا سيفه منحنيًا أمامه يقدمه له.
لا يدري ماذا يحدث هنا؟
لكن صوت خطوات جذب انتباهه من خلفه ليجدها تتقدم بردائها الأبيض يصل إلى ركبتيها، أسفله بنطال ضيق، تلف حول رأسها وشاح يستكين طرفه على كتفها، ممسكة بسيفها وابتسامة واسعة على محياها.
فطن لما تخطط له فضحك بخفوت وطالعها بحاجب مرفوع بمرح، وقفت على بُعد خطوات منه وقالت تتأمل نصل سيفها اللامع أسفل أشعة الشمس في يدها :
-"لقد اشتقت للمبارزة، لم أحمل سيفًا منذ مدة"
ثم تطلعت إليه رافعة حاجبها الأيسر بشقاوة مكملة :
-"الجميع يخبرني أنه لم يصل أحد لبراعتك ، يهابونك ويفكرون أكثر من مرة قبل أن يواجهوك"
مال برأسه مبتسمًا يضع ذراعه خلف ظهره والسيف في اليد الأخرى، فأشهرت السيف أمامه إشارة إلى استعدادها بمكر:
-"لكنني لن أصدق إلا إذا اجتزت التجربة بنفسي"
تنهد بابتسامة واسعة وأشار إلى الحارس ليتقدم منه، تخلص من عباءته الملكية وأعطاها له ثم أمره بالذهاب؛ بقى بردائه السُفلي السكري ثم عاد يقف أمامها يقول بجدية مصطنعة :
-"أنتِ غير مصدقة لما يُقال عني صحيح؟!"
زمت شفتيها ورفعت كتفيها بعدم معرفة لكن نظراتها مليئة بالمكر والدهاء، فأشهر سيفه أمامه يشير لها بالأخرى أن تتقدم بابتسامة جانبية :
-"حسنًا دعينا نجد حلًا لهذه المعضلة"
تقدمت عدة خطوات منه تمسك طرف وشاحها تغطي به منتصف وجهها وثبتته في الطرف الآخر، أشهرت سيفها فتلامس النصلان معلنين بدايةً تلاحمهما.
تريث وبطء.. تلاحم طفيف وسارية تعود للخلف عدة خطوات ثم تتقدم ليتراجع هو.
بداية طفيفة تنم أن القادم أقوى، اشتدت المبارزة بينهما وكانت البادرة منها عندما دارت حول نفسها تشيح بالسيف أعلى رأسه فمال بجسده للخلف ببراعة ليمر السيف من أعلى عينيه ثم دار نصف دائرة وضرب بسيفه للأسفل فأعاقت ضربته.
تلاحم السيفان عدة مرات لأعلى وأسفل قبل أن يهبط على ركبته وأشاح بسيفه نحو قدمها، لتبتعد بحركة بهلوانية ثم هبطت بسيفها ليصطك بخاصته ومازال على جلسته فضغطت بقوة عليه وعيناها تناظره يرى فيهما العنفوان والاستمتاع، فهمس لها من موضعه:
-"أعشق عينيكِ"
تأثرت للحظة نجح في استغلالها وهو يدفعها للخلف، تنفست بعمق وناظرته بغيظ فبادلها غيظها بابتسامة وقال يتقدم منها :
-"الدرس الأول.. لا تجعلي خصمك يؤثر على تركيزك مهما كان قوله، إن لم تستخدميه ضده فلا تجعليه يفعلها"
لم تجبه لكنها أزالت الوشاح من فوق وجهها بل من فوق رأسها بأكمله وألقته بعيدًا ليطالعها بضحكة يكتمها بصعوبة وقد نجح في إثارة غيظها.
هبطت بسيفها أعلى رأسه ليعيق ضربتها وظلت تهاجمه عدة مرات تضغط بشدة أسنانها وشفتيها، وهو يعود للخلف حتى اصطك السيفان بقوة ووقفت خلفه تضغط على السيف بقوة وهمست بإذنه بثأر لإغاظته :
-"أدائك جيد أيها الملك، لا بأس به"
دار حول نفسه في حركة مفاجئة لتنقلب الأوضاع فأصبحت محاصرة بين السيف وبين صدره الذي يرتفع ويهبط بقوة من أثر لهاثه يهمس لها :
-"هذه شهادة أعتز بها مولاتي"
دفعت سيفه بقوة تدور حول نفسها وأشاحت أمامه ليهبط بجسده قليلًا فاصطك بأحد الأعمدة، أعادت الكرّة ليهبط على العمود الآخر.. ضرب أمام وجهها فانحنت بجسدها للأمام تتلاشى الضربة فأعاد الكرّة مرة أخرى لتصدها.
لوى ذراعه فالتوى معه ذراعها فأصبح السيفان لأسفل، ضغط ببعض القوة ينظر لعينيها فطالعته لبعض الوقت تلهث بصوت مسموع.
عادا إلى وضعهما السابق يضرب بقوة عدة مرات يمينًا ويسارًا، ضربت قدمه فتعثر وسقط.. كادت أن تهبط بسيفها إليه لكنه تحرك بجسده بعيدًا عن مرماه.
أولاها ظهره وهو جاثم على ركبته يستند على قدمه، فكادت أن تلامس عنقه بسيفها لكنه وضع سيفه أمامه لتقف خلفه تهمس له بنشوة انتصار :
-"سأنهي هذه المبارزة الآن بانتصاري إلياسي"
نظر لها بجانب عينه وابتسامة ماكرة أنهت نشوة الانتصار وهمس بصوت خافت :
-"أحبك"
نظرت له بتعجب استغله جيدًا دافعًا سيفها أرضًا واستقام فجأة مشهرًا سيفه أمامها.
تطلعت لسن السيف الموجه لعينيها عاقدة حاجبيها لا تدري ماذا حدث؟!
حدقت بسيفها في ذهول ثم نظرت له بغيظ تراه محدقًا بها بحاجب مرفوع يشير برأسه كأنه يخبرها :
-"هذا ما كان من المفترض أن يحدث"
هتفت برفض تشيح بيدها بينه وبين السيف الملقي على الأرض :
-"أنت تعمدت ذلك إلياس، هذا لا يجوز"
هز كتفيه بلامبالاة وذم شفتيه قائلًا بنبرة ذات مغزى:
-"كل شيء مباح في الحب والحرب عزيزتي"
رفعت أنظارها إليه بغيظ وتذكرت مبارزتها مع جاد عندما استغلت تشتته وانتصرت لتخبره نفس الجملة، فتنهدت بقلة حيلة ولم تجبه.
اقترب خطوتين على حين غفلةً منها وجذبها من مرفقها يعتقل خصرها بحنان هابطًا على أذنها بهمس:
-"الدرس الثاني.. لا تبخسي من قدر خصمك طالما المبارزة لم تنتهِ، فالنصر والهزيمة يتحققان في أقل من الثانية"
تقوست شفتاها بعبوس طفيف ابتسم له وأعاد خصلة شاردة من جديلتها، ليقول بعشق ظهر جليّ دون خجل في عينيه :
-"هذه المرة الأولى التي استمتع بها بالمبارزة مع أحد غير جاد، حتى لم تكن متعة السيف معه كما الآن"
لاحت ابتسامة على شفتيها كأن كلماته زادت من ثقتها وعززتها بشدة، فتلمست ذراعه تمسده بهدوء وقالت :
-"أنت تتلاعب بالعامل النفسي للخصم أكثر من الجسدي وهذا الأصح"
هز كتفيه لأعلى وأسفل يحيط كتفيها بذراع وسيفه مازال بيده الأخرى، هبطت تتناول سيفها وشرح لها:
-"العامل النفسي هو ما يؤثر على حركات جسده إن كانت قوية أو ضعيفة، لهذا الذكي من ينجح في تشتيت تركيز خصمه وبذلك سيخطئ في حركته التالية، إن أكمل استغلال ذكائه بشكل صحيح سيربح"
أومأت له بموافقة ليضمها أكثر وسارا في طريقهما إلى داخل القصر حتى وجدا جاد يظهر أمامهما من اللاشيء يقف واضعًا ذراعيه خلف ظهره يطالعهما بمكر :
-"أخبروني من الفائز؟!"
أشار إلياس لخادمه يأخذ السيف منه مجيبًا :
-"لا يهم من الفائز، فلا يوجد فارق بيني وبينها..
الأهم هو أنه يجب أن تخاف منذ الآن فلقد وجدت منافس لك جذبني للمبارزة معه كثيرًا الأيام القادمة"
أنهى جملته غامزًا له يربت على كتفه مرتين، ثم انطلق في طريقه، لينظر إلى سارية رافعًا إحدى حاجبيه بغيظ مصطنع، فرفعت كتفيها بلامبالاة ثم ألقت السيف له ودلفت إلى الداخل تاركة إياه يقف متطلعًا إليها بغيظ حقيقي قبل أن يعطي السيف للحارس ويمضي في طريقه.
★★★★★

سأسكبُ قلبيَ فنجانَ عشقٍ
لتلكَ التي تستسيغُ صُبَابةَ روحيَ
بالشِّعْر والهيلِ والزعفرانْ
سأسكبهُ للتي يرتمي
على شاطِئَيْ مقلتَيْها جُنوني
فيجذبني رمشُها في حنينٍ
ويحضنُني جَفنُها في حَنان
سأسكبه للتي تحتوينيَ
حُلْمًا شفيفًا يراودُ عينيْ غُلامٍ ذكيٍّ
تعوّدَ منذُ الطفولةِ لثْمَ المدادِ الدَّفِيءِ
على ورقٍ من بياضِ الفؤادِ
تؤججهُ جمرةٌ في الجنَانْ

"للشاعر محمود الحليبي"

تتهادى في ثوبها الفيروزي فوقه عباءة ملكية من نفس اللون بدون أكمام، مزينة بتطريزات ذهبية على طول طرفيها المثبتين بمشبك رقيق على هيئة فراشة ذهبية في منتصف بطنها، مطلقة العنان لخصلاتها تهبط بتموجات واسعة أسفل وشاح رقيق مثبت بتاج على هيئة سلاسل رفيعة من الذهب على مقدمة رأسها هابطًا على جبهتها.
تتحدث مع وسام التي استدارت لها فجأة فرأت الابتسامة على محياها فأصابتها العدوى لتتساءل :
-"يبدو أن مزاجك رائق اليوم!"
نظرت سارية براحة لرفيقتها التي تتألق برداء وردي كوجنتيها يهبط بتوسع وكذلك الأكمام تكشف عن ذراعيها بدايةً المرفق، رافعة شعرها أعلى رأسها فشردت بعض الخصلات خلف عنقها وعلى جانبي وجهها، فرفعت كتفيها بعدم معرفة مجيبة :
-"لم يحدث شيئًا مميزًا لكن أشعر بالراحة هنا.. بالرغم أنني لم أره في حياتي لكن هناك سكينة في قلبي كأنه مقدر لي منذ زمن"
أومأت لكلماتها تهمان بالجلوس أمام البحيرة، ساد الصمت للحظات قبل أن تنطق سارية تدور بكامل جسدها فجأة جعل عيني صديقتها تتوسع من الدهشة:
-"أتعلمين طوال هذه الفترة لم أعلم شيئًا عن حياتك السابقة!
كل ما أعرفه أنكِ جئتِ بناءً على هذا القانون فقط، لكن ما قبل هذا لا أعلم، وقد أخبرتني أنه ما أن تهدأ الأحداث ستسردين عليّ ما حدث"
ضحكت مليء شدقيها ثم عادت تنظر لها بمشاكسة :
-"كنت أظنكِ نسيتِ هذا الحديث فلقد مر وقت طويل يا فتاة"
أمسكت بكفيها تحثها على الحديث بطفولية دافعة جسدها للأمام قليلًا :
-"هيا بالله عليكِ أريد أن أعرف"
أومأت لها ومازالت بقية ضحكاتها في صوتها لتبدأ في الحديث وسارية تنتبه إليها بأعين متسعة من الفضول :
-"لقد وُلدت وحيدة عائلتي.. أمي كانت تعمل في الخياطة حتى تساعد أبي الذي كان يعمل في محل أقمشة لتاجر كبير، كنا أسرة صغيرة لكن يشملها الحب والحنان"
صمت تتنهد والذكريات تتدفق إلى عقلها بسلاسة كأنه الأمس فأكملت :
-"كنت مدللة أبي، لم يبخل عليّ بشيء إلا وأتى به ، بداية من المأكل والملبس حتى التعلم، بالطبع في المملكة قبل عشرة سنوات لم يكن من حق أحد أن يرتوي من العلم سوى أبناء القصر أو ذوات الشأن في المملكة"
ضحكت بألم ورأسها ينحني ناظرةً لقبضتها مع كفيِّ سارية التي هبطت عليها دمعتان من مقلتيها، فمسحت بأناملها هذين الخطين على وجهها بصمت، لتكمل بصوت متحشرج :
-"كنا ميسورين الحال لكننا سعداء للغاية، لم نكن نبتغي شيئًا غير ألا تربطنا مشاكل أو تعثرات مع أحد"
رفعت عينها لصديقتها التي تغضن جبينها حزنًا وابتسمت بألم :
-"لم أكن أعلم أي شيء عن هذا القانون إلا عندما أكملت الثمانية عشرة، أخذني أبي من يدي متوجهًا إلى القصر ليسلمني إلى مأمون، توسلت حتى لا يتركني فأنا لن أتحمل لكنه ذهب وأُغلقت بوابة القصر تحجز بيني وبين الوصول له إلى هذا الوقت"
تصاعدت شهقاتها كمن وجدت الفرصة تخرج ما يعتمر في قلبها كل هذا الوقت، فجذبتها سارية إلى أحضانها وقد هبطت دمعاتها لتتمسك بردائها من الخلف بقوة وصوت بكائها يرتفع مكلمة :
-"لم أنسَ هذا اليوم وأنا أرى الكسرة في عين أبي يا سارية، كأنه يطلب الغفران ويخبرني أنه مجبرًا"
رفعت رأسها إلى صديقتها مرة أخرى وقالت :
-"لقد تتبعت أخباره خفيةً عن الجميع، لقد أصبح من أكبر تجار الأقمشة في السوق الكبيرة وخاصةً أقمشة العرائس"
عقدت سارية حاجبيها وذكرى يوم مضى عليه أشهر عديدة تُضاء في عقلها لتطلب من وسام أن تصف لها والدها ، فاتسعت عين الأخرى وتأكدت من حدثها، فضمت وجه صديقتها بين كفيها وهمست لها:
-"لقد قابلت والدك وسام"
اتسعت عيناها وأمسكت بكفيها تضغط عليهما بلهفة ظهرت في نبرتها المبحوحة :
-"حقًا.. كيف قابلتيه وأين؟!"
ربتت على وجنتيها تبتسم مطمئنة إياها :
-"هو السبب أن مصيري لم يكن بقية الفتيات في المملكة"
هزت رأسها بعدم فهم لتتنهد سارية تعود برأسها إلى هذا اليوم قائلة :
-"أتذكرين حادثة الجندي في وسط السوق!؟
لقد عدت في اليوم التالي وكأن شيء لم يحدث لأجد الجنود في جميع أنحاء السوق للبحث عني أنا وصديقتي، لكن والدك أخفانا عن الأعين.. أخبرنا أنه فعل هذا لعله يكون سببًا أن تغفر له ابنته عما فعله بها"
وضعت كفها فوق وجنتها اليمنى وابتسمت :
-"حتى أنه يحبك كما لم يحب أحدًا من قبل"
ترقرقت عيناها بالدموع مرة أخرى وارتعشت شفتاها التي عضت عليها بأسنانها تحاول أن تكبح رغبتها في البكاء، فضمتها بقوة تمسح على ظهرها بكفها مخففة عنها تشاركها البكاء تستشعر شوقها إلى أبيها وعائلتها، غافلتين عمن يقفان خلفهما يتابعان الحوار منذ بدايته، قبل أن يندفع أحدهما جالسًا أمامهما واضعًا يده على قدم وسام التي انتفضت جراء لمسته.
نظرت إليه بأعين شديدة الاحمرار من أثر البكاء ومازالت الدموع معلقة بين أهدابها، وجدته جاد ينظر لها نظرة حنونة بعيدة كل البعد عن الشفقة ومد يده يمسح الدموع عن وجهها بحزم ويهز رأسه بمعنى ( كفى.. لا تبكي مرة أخرى ) قبل أن يحتوي وجهها هامسًا :
-"ستلتقين بأبيكِ، سآتي به إلى هنا تقرين عينيكِ به لكن كفّي عن البكاء"
ابتلعت سارية لعابها بصعوبة تمسح دموعها ثم التفتت إلى إلياس الذي مازال يقف في مكانه، فمد كفه لها حتى تتقدم منه، نهضت متوجهة إليه تحيط خصره بذراعيها تسند رأسها على كتفه ونظرها مازال عليهما، فهمست بحزن :
-"لم أرَ وسام بهذه الحالة من قبل، دائمًا مرحة عفوية وضاحكة، هذا الحزن والألم لا يليق بها إلياس"
أحاطها بذراع والآخر ربت على ظهرها ثم قال يلتفت ليذهبا مبتعدين عنهما :
-"لا تقلقي حان وقت سعادتها سارية"
أما وسام فكانت تحاول أن تهدأ كما أخبرها جاد لكن انتفاضة جسدها لم تساعدها، استقام وجذبها برفق تقف أمامه يرفع وجهها بأنامله وانحنى يطبع قبلة أعلى رأسها ثم أسند جبهته على خاصتها هامسًا :
-"أهدأي حبيبتي، أعلم أن ما أصابك ليس بالهين لكن لكل ما حدث حكمة"
أمسك بكفها ومسد بإبهامه على ظهره بحنان وأكمل:
-"سأفعل ما بوسعي لأجعلك سعيدة، لكن الآن لا أريد أن أرى الدموع في هاتين العينين يا قصيرة"
حاول مشاكستها لكنها لم تكن في مزاج رائق له لتهز رأسها بتعب وهمست بصوت ضعيف :
-"لقد اشتقت إليه جاد، أقسم أنني اشتقت إليه كثيرًا لكن ما بيدي حيلة أفعلها لأشبع اشتياقي"
جذب رأسها دافنًا إياه في صدره مستندًا بذقنه فوقها يهمس بوعد :
-"ستجتمعين به.. لا تقلقي فقد ثقِ بي وسام هذا كل ما أحتاجه"
أومأت برأسها الساكن فوق قلبه الهادر بعنف علامةً على ثقتها به، ليربت على رأسها عدة مرات ورأسه يفكر في كيفية الوصول إلى أبيها.
★★★★★

لا تقتل جمال اليوم بأفكار الأمس
عندما تؤمن بنفسك لن تحتاج لأحد يؤمن بك
فذلك الثقب الذي تركوه في صدرك هو ذاته الذي سيدخل منه النور يومًا
أنت تستحق من يقيم حربًا ليحظى بك حبًا.!

أخذها في جولة بالغابة بناءً على طلبها كي ترى صديقتها، كانت ستذهب برفقة وسام لكنه رفض وخرج برفقتها مع بعض الحراس على مسافة قريبة منهما.
وصلت على مشارف القرية فتنفست بعمق مغمضة العين تملأ رئتيها من عبق النسيم الذي نشأت به، تقدمت إلى منزلها ووقفت أمام الباب غير قادرة على الطرق.
مضطربة من اللقاء وكيف ستواجه وجه رفيقتها؟
كيف ستجيبها عندما تسألها عن مارية؟
التفتت إلى إلياس الذي حثها بنظراته يبثها من قوته لترفع قبضتها تطرق مرتين وتستمع إلى صوتها الهاتف من الداخل أنها قادمة.
فُتح الباب.. وتقابلت الأعين!
غائرة، مصدومة غير مصدقة أنهما تقفان أمام بعضهما!
ثانيتين، ثلاثة، أربعة مرت والصمت سيد المكان قبل أن تهمس الاثنتان في آن واحد :
-"عيوش / ساري"
اندفعت كل منهما في نفس اللحظة إلى أحضان الأخرى بقوة وبكائهما يتعالى، جسديهما يترنحان إلى الجانبين من شدة العناق، ترفعان رأسهما أكثر من مرة تتأكد كل منهما أن الأخرى تقف أمامها.
تطلعت سارية من أعلى رأسها هابطة بنظراتها حتى استقرت على بطنها تلاحظ انتفاخها نتيجة حملها، فضحكت من بين بكائها واضعة كفيها على جانبي بطنها وهمست :
-"يا الله يبدو أن غيابي قد طال كثيرًا يا فتاة!"
وضعت كفيها فوق كفي سارية ونظرت إلى بطنها المنتفخ وهمست مبتسمة :
-"نعم لقد طال الغياب كثيرًا.. كثيرًا جدًا"
التفتت إلى إلياس الواقف خلفها يطالعهما، فابتسمت له وهزت رأسها بتحية قائلة :
-"مرحبًا بكْ مولاي.. لقد ازداد المكان شرفًا بقدومك"
عقدت سارية حاجبيها بدهشة من معرفة عائشة بهوية زوجها، لتبتسم في وجهها مربتة على كفها قائلة :
-"لقد أخبرني عمي بكل شيء حدث معك في زيارته الأخيرة.. كنت أريد أن أسافر معه لكن كما ترين"
وضعت كفها مرة أخرى أسفل بطنها مبتسمة فضمتها بقوة تشبع اشتياقها وأمضت معها اليوم حتى حان وقت الرحيل، على وعد بعدم الانقطاع عنها.
امتطت مهرتها ممسكة باللجام رأسها منحني قليلًا لرأس الخيل وقلنسوتها تخفي وجهها عنه فلا يرى غير خصلاتها النارية وتاج رقيق من الذهب على مرصع بالزمرد على مقدمة رأسها، فناداها بصوت رخيم يشوبه المكر الطفيف :
-"فيمَ تفكرين يا نارية؟"
أغمضت عينيها بقوة ترفع رأسها بأعلى وتهزها بيأس قبل أن تنظر إليه بأعين ضيقة وهمست تثير غيظه بالمقابل :
-"ألم تكتفِ من هذا اللقب؟"
ابتسامة جانبية ارتسمت على شفتيه جعلتها ترفع حاجبها الأنيق بدهشة وخاصة عندما قفز من فوق جواده يدور مقتربًا منها، يمد يده لها يساعدها على الهبوط، فنظرت لكفه ثم إلى عينيه لترى الابتسامة مازالت على وجهه، فمدت يدها الاثنتان له وقفزت بدورها على الأرض لتجد نفسها أمام بحيرة واسعة جميلة، مميزة تنعكس عليها أشعة الشمس فيتدرج سطحها بدرجات الأزرق والأخضر، اقتربت منها رافعة يدها تنزع القلنسوة من على رأسها وشهقة إعجاب تلتها همسة منها :
-"سبحان الله على هذا الجمال، كيف يوجد شيء بمثل هذه الروعة؟!"
وقف خلفها ينحني إلى أذنها يهمس بصوت خافت ويده ممسكة بأعلى ذراعيها :
-"ليس هذا فقط ما يميزها، ففي كل الثلاث ليالي من الشهر يكون بها القمر بدرًا كاملًا يظهر نبات على حافتها قادر على شفاء السموم"
عقدت بين حاجبيها تلتفت برأسها إلى وجهه القريب، ثم نظرت مرة أخرى إلى البحيرة تقول :
-"سبحان الله له في خلقه شئون!"
تأملها قبل أن يمسك بيدها ويتجه نحو خيلهما اللذين وقفا يأكلان من عشب الأرض :
-"هيا علينا العودة للقصر"
أفلتت يدها من يده ونظرت للبحيرة مرة أخرى مكتفة يدها أمامها وقالت برجاء :
-"لا أريد العودة الآن"
صمتت قليلًا تراه يطالعها بتساؤل فرفعت حاجبها بغيظ قائلة :
-"حقًا كنت أظن أنني سأرتاح بالكامل لكن يبدو أنها كانت راحة مؤقتة لتعود الألاعيب من جديد"
وقف ينظر لها يعلم أن مجيء والدته إلى القصر وضع ضغط كبير على عاتقها، فلا أمل بينهما وهذا إلى حد ما يريحه قليلاً، لكنه قلق في نفس الوقت فوالدته لا تنفك أن تستغل كل صغيرة وكبيرة في إثارة غضبها، فتنهد يقترب منها :
-"سارية أتذكرين لمَ خرجنا من القصر؟
أتذكرين لمَ تلك الجولة؟
لم تنفكِ ترددين رغبتك في الخروج حتى ولو كانت نزهة قصيرة وها أنا ذا أحققها لك، ولم أخلف بوعدي"
كان قد اقترب منها فأمسكها من عضديها يمسدهما بخفة وحنان ويهمس :
-"أعلم أن وجودك مع رقية يمثل ضغط كبير عليكِ لكن ما باليد حيلة، فقط تأكدِ أنني لن أجعلها تمسك بسوء، لا هي ولا أي شيء آخر"
قال جملته الأخيرة بغضب طفيف يعلم ألاعيبها وهدوءها الذي يقلقه، يتمنى لو لم يكن موجه لها ثم سكن قليلًا لعله يهدأ.
تحرك أمامها يقترب من البحيرة يتأمل جمالها، يبدو هادئًا لكن عقله يفكر في كيفية حمايتها إن أرادت والدته مضايقتها!
استدار لها يعلم أنها تنتظر رده، فقرر أن يسعدها، يعلم أنها ذاقت الأمرّين.. القصر برغم ما فيه أمن لهما لكنها لا تسلم من مكر أمه:
-"يمكننا قضاء بعض الوقت هنا"
مد لها كفه كي تقترب منه :
-"أقتربي فهذه الليلة الأولى للبدر.. سينبت هذا العشب وسيستمر وجوده ثلاث ليالٍ"
تنهدت تنظر له بهدوء ثم أمسكت بكفه يساعدها على الجلوس فوق الصخرة، فجلست تتأمل البحيرة بلهفة وطفولية تنتظر ظهور النبات بفارغ الصبر، تحول بنظرها بين السماء تراقب القمر وبين ضفاف البحيرة تراقب النبات الذي لم يظهر بعد.
إلياس يحيطها بذراعه يتأمل حركاتها ويكتم ضحكاته بصعوبة عندما نظرت له بحنق :
-"هل أنت جاد بشأن هذا النبات أم إنها خدعة؟"
ابتسم لها بقوة وأجابها :
-"سارية.. هذه أرضي وبالتأكيد لن أخدعك بشيء كهذا"
وضعت قبضتيها أسفل فكها واستندت على قدمها تراقبها، حتى مر الوقت وبدأ الظلام يحل بالمكان، فنهض من مكانه ممسكًا بيدها :
-"هيا فالليل سيحل قريبًا، وحيوانات الغابة تبدأ بالانتشار، سآتي بك مرة أخرى لرؤيته"
وقفت مكانها تعض على شفتيها بخبث ثم رسمت الجدية على وجهها وهتفت تقف أمامه :
-"أخبرني ألم يكن اتفاقك مع والدي أن هذا الزواج سيكون حتى تظهر الحقيقة؟
والآن كل شيء على ما يرام فلما لم تنهيه؟"
توقف مكانه فجأة وكأن مطرقة هبطت من السماء فوق رأسه!
دلو من الماء أغرقه!
سبحان من يجعله يقف هادئ هكذا أمامها ولم يقطع لسانها الذي يقطر بترهات فارغة حتى لو كان مشاكسة وإثارة له!
لكن مجرد الفكرة كالعلقم، فسألها بهدوء توجست منه :
-"تريدين إنهاء أي اتفاق أيتها الملكة؟"
لم تكد تجيبه حتى وجدته فصل المسافة بينهما بسرعة البرق تكاد جبهته تلامس خاصتها، وجهه شديد الاحمرار والغضب المشوب بالغيظ من حديثها الذي يصيب في بعض الأحيان.
عينيه اشتد سوادهما بقوة لدرجة أنها تقسم برؤية الشعيرات الدموية الصغيرة في مقلته من شدة تدفق الدماء، تأوهت وهي تشعر بقبضته تشتد على رسغيها مثبتة إياهم خلف ظهرها تميل للخلف ناظرة له بصدمة.
تعلم أنه سيغضب لكن ليس بهذا الشكل، متأكدة أنه يعلم أنها تشاكسه، سمعت همسه الحاد يُغني عن أي صراخ غاضب :
-"فمك هذا إن لم يتوقف عن إلقاء هذا الكلام سأمزقه لكِ..
ضعِ في رأسك شيئًا يا سليطة اللسان ما حدث ليس اتفاق بل هو زواج، ومنذ أن عُقد قراني عليكِ و أصبحتِ زوجتي أمام الله وأمام الناس، لن ينفك هذا الوثاق أبدًا"
حاولت الإفلات من قبضته بحركة جسدها لكنها باءت بالفشل تقول بأعين متسعة وشراسة من ردة فعله :
-"أتركني إلياس أنت تعلم أنني أمزح"
ابتسم ابتسامة جانبية غامضة يشدد قبضته على رسغيها لتتوقف حركة جسدها من الألم وقال من بين أسنانه بغيظ :
-"أقسم لك إن تفوهتِ بهذا مرة أخرى ستكون ردة فعلي غير متوقعة لكِ"
تركها فجأة تندفع إلى الخلف خطوتين تفرك رسغيها بكفها وعلامات الألم تظهر على وجهها، نظرت لهما رأت تحول لونهما للأحمر القاني، فرفعت عينيها بغضب عاصف بهما وتقدمت منه تريد لكمه، ليتحرك بجسده للخلف يرفع حاجبه بإعجاب من ردة فعلها، رفع كتفه لها بلامبالاة من محاولتها الساذجة.
دارت حولها فوقع نظرها على جذع شجرة ملقى، أخذته والتفتت تهاجمه فابتسم بقوة من حركتها الطفولية حتى ظهرت نواغزه يتحرك بجسده يمينًا ويسارًا يتفادى تلويحها، ثم أمسك يدها فجأة يرفعها للأعلى وذراعه الآخر يلتفت حول خصرها لتلفح أنفاسها الحارة الناتجة من لهاثها صفحة وجهه يهمس أمام وجهها :
-"محاولة ليست سيئة لأخذ حقك يا نارية، لكن عليكِ أن تتعلمي التصويب على هدفك بطريقة صحيحة"
همست بدورها له من بين أسنانها بغيظ :
-"أنت لا يسير معكَ المشاكسة والمزاح، تخبرني أن أفكر أولًا وها أنا أراك تفعل ما تنهاني عنه.. لن أمرر ألم قبضتك على رسغيّ إلياس"
ضحك بقوة رجولية لدرجة أن رأسه عاد للخلف ثم قال بعد أن هدأت ضحكاته :
-"لن تفلتي من يدي يا سارية وإن حدث فلن يحدث إلا بأمرين"
كانت تتنفس بصعوبة وتبتلع ريقها تسأله :
-"ما هما؟"
اقترب ينظر بقوة في عينيها متأملا بريقهما :
-"إما بموتك أو بموتي"
اتسعت عيناها من صدمة جملته وضغطت على أسنانها بقوة وغيظ ثم دفعته للخلف تخلص نفسها منه.
ألقت الجذع ثم وضعت القلنسوة فوق رأسها بعصبية تتجه نحو مهرتها لتعود، ابتسم لها يتأملها بحنان لكن تلاشت الابتسامة سريعًا يلمح شيئًا من بعيد وما لبس أن اتسعت عينيه بقوة ليهتف باسمها:
-"ســـارية توقفي"
لم تستمع له وانطلقت تسرع في خطواتها لكنها وجدت من يدفعها أرضًا على العشب الأخضر يتدحرجان بقوة حتى توقفا تمتد على الأرض جاثمًا فوقها، يدها تحيط خصره بقوة مغمضة بصدمة ولهاث شديد، فتحت عينيها تراه ينظر لها بزيغ وهمسه وصل إليها بصعوبة وجهد :
-"أنتِ بخير أليس كذلك!؟"
رفعت يدها عندما شعرت بسائل رطب يسيل من بين أصابعها فرأت الدماء تغطي يدها بالكامل، ارتفعت بجسدها قليلًا ودقات قلبها تتسارع فوجدت سهمًا يسكن في كتفه الأيسر!
شعرت بقبضة اخترقت صدرها تعتصر قلبها بقوة!
أنفاسها شعرت أنها حُبست داخل طيات رئتيها لا تريد الخروج وكأن رغبة الاختناق تجذبها!
فكرة فقده لن تتحملها!
هو بالأخص لن تتحمل أي سوء يتعرض له!
نظرت لعينيه الزائغة وجفنيه اللذين يقاومان الانغلاق وهمست بلهفة تحيط وجنتيه بين كفيها الملوثين بدمائه :
-"إلياس لا.. إلياس أجبني، لا تغلق عينيك أرجوك"
لم يجبها بل ظل ينظر إليها حتى انغلق جفنيه لكنه لم يفقد وعيه ، فشهقت بصدمة تسند جسده الضخم الذي ارتخى عليها، نظرت إلى السهم الراشق في جسده، وابتلعت بصعوبة تضع يدها المرتعشة عليه لا تعلم كيف ستفعلها لكن لا بد منها، وهمست في أذنه :
-"تحمل أرجوك"
جذبته للخارج فجأة ليكتم صرخته في عنقها يقبض على خصرها بقوة جعلتها تكاد تصرخ من الألم متأكدة أنها ستترك علاماتها الزرقاء عليه ، ثم نظرت لفرستها وصرخت :
-"مهــــرة.. أسرعي إليّ"
لبت نداءها مسرعة تصهل بقوة، حاولت رفع جسدها تسند جسده معها، وبأعجوبة وبعد محاولات عديدة من عدم السقوط استطاعت أن تضعه فوق المهرة لتصعد أمامه فارتخى جسده على ظهرها، لفت ذراعيه حول خصرها تمسك كفيه بين يدها وبالأخرى تتحكم بسياج الخيل، خلعت عباءتها تغطيه بها، لم تشعر بدموعها التي انسالت على وجهها ولا نبضات قلبها التي ترتفع حتى كاد أن يندفع من قفصها الصدري تضرب مهرتها بقدمها تصرخ بها :
-"أسرعي مهرة إلى القصر علينا إنقاذه.. لا يجب أن يموت"
صهلت بقوة تسرع كالريح بين الجنود والحراس الذين انصدموا من رؤيتها تندفع بهذه السرعة وملكهم خلفها، نصفهم انطلق معها يحميها عندما توجسوا الخطر، والنصف الآخر انتشر في الغابة يبحث عن أي شيء غريب.
كانت تنطلق بأقصى سرعة وكلما شعرت أن مهرتها تبطيء تقوم بركلها :
-"أرجوكِ أنا أحتاجك اليوم مهرتي، أرجوك ساعديني ولا تبطئي بل أسرعي بكل قوتك كما عاهدتك"
وكأنها فهمت كلماتها لتسرع بكامل قوتها، فصديقتها تريدها في هذه اللحظة وهي ستلبي النداء حتى تفتخر بها.
وصلت إلى القصر يفتح لها الحراس بسرعة، وما أن دلفت حتى صرخت بأعلى صوتها عندما رأت جاد يقف مع قائد الجنود يتحدثان:
-"جـــاد"
تسمر للحظات قبل أن يركض إليها، وجميع من في القصر انتبه إلى صراخها، نظر نيار من شرفته فوجده يسند أخيه المدرج في دمائه فانطلق بسرعة الريح إليه، ليان أسرعت خلفه لتقابلها رقية في طريقها تسألها :
-"ما الأمر لماذا تركضين هكذا؟
وما هذه الضجة؟!"
أجابتها وهي تتعداها بخطى سريعة :
-"إلياس ينزف"
هرولت بصدمة ترى ماذا حدث لابنها!
وجدت نيار يسند جسده بعدها أنزله من فوق المهرة يستكشف الجرح ليرى أنه جُرح بسهم، أنفاس إلياس تتباطأ من الحين للآخر.. فأسرع يحمله بمساعدة جاد يصرخ بأحد الحراس :
-"أخبروا كبير الأطباء أن يحضر في الحال"
كل هذا وسارية تستند على الجدار خلفها تنظر إلى يدها المليئة بدمائه بسكون شديد تفكر :
لقد تلقى السهم بدلًا منها!
هل كانت المستهدفة أم هو؟!
اتسعت حدقتيها من الذعر وارتعش جسدها بصورة ملحوظة بأنفاس مرتعشة وكفيها يهتزان بقوة عندما لمع في رأسها فكرة خسارته!
لم تفق إلى على يد ليان فوق كتفها تضمها إليها هامسة :
-"أهدأي سارية سيكون بخير"
انتبهت أنهم أخذوه فدارت حول نفسها بتوتر تبحث عنه تمسح دموعها بأناملها فامتزجت الدماء معها تاركة أثرها على وجنتيها.
انطلقت إلى غرفته بأقصى سرعتها لتعرف كيف وضعه، لكن يد جذبتها جعلتها تستدير لها بقوة وخصلاتها تدور حولها ، فوجدتها رقية تنظر لها بغضب وحقد وعينيها مليئة بالشر، تضغط على مرفقها بقوة تقول باتهام :
-"أنتِ سبب كل المصائب.. بسببك دخلنا هذه الدائرة الخطرة واليوم ابني بين الحياة والموت"
لم تهتم بالرد عليه تحاول الإفلات منها لتدخل حيث الأطباء يستكشفون حالته، فدفعتها رقية بعيدًا عن باب الغرفة هاتفة بحقد:
-"لن تخطُ قدمك هذه الغرفة قبل أن يفيق ابني.. وإن حدث له شيئًا سأجعلكِ تتمنين الموت ولن تطاليه"
دلفت إلى الغرفة تاركة إياها في صدمتها من الحديث، لكنها لم تستطع الرد فهي لديها كل الحق، إصابته اليوم بسببها..
لو لم تصر على المكوث وغادرا سريعًا لما كان سيحدث كل هذا!
لو لم يفتديها ويقف أمامها لما كان الآن بين الحياة والموت!
ظلت تتأمل الفراغ برأس منحني، جسد متشنج، وأعين غائرة تكاد تنفجر من احتقان الدماء بها!
لم تتجرأ على الدلوف، حتى خرج نيار فوجدها أمامه بتلك الهيئة ليقف مصدومًا!
للمرة الأولى يراها بهذا الضعف، حتى عند تلقيها خبر وفاة صديقتها لم تنحنِ كما هي الآن، يريد أن يعلم منها ما حدث، لكن برؤيته لها هكذا قرر تأجيل الحديث، وخاصة عندما رفعت عينيها الحمراء وملامحها يسودها القلق والضعف، قرأ فيهما تساؤل كمن لم تقدر على الحديث، رأى ليان قادمة من بعيد حتى وقفت بجانبها ممسكة بيدها فتنهد قبل أن يقول:
-"ليان خذيها حتى تهدأ.. ما حدث ليس بالهين على الإطلاق"
أومأت له تحثها على السير معها، لكنها توقفت تنظر لباب الغرفة وخرج صوتها كالأشباح بالكاد يُسمع :
-"كيف حاله؟!"
نظر للباب قبل أن يجيبها متنهدًا :
-"السهم مسموم والأطباء يفعلون ما بوسعهم حتى يتوقف تأثيره، ليس أمامنا غير الصلاة والدعاء له"
ابتلعت بصعوبة تنظر له مفكرة في حديثه بصدمة، ثم سارت مع ليان حيث غرفتها بلا وعي.
جالسة على سجادة صلاتها في المكان المخصص للعبادة في غرفتها، ترفع رأسها لأعلى بصمت أوقات تدعو من قلبها أن يُشفى ويعافى، وأوقات تفكر في الشخص الذي تسبب في هذا، تلوم نفسها في الدرجة الأولى.. حتى هذه اللحظة تلوم نفسها على مقتل مارية، ضحكت ودموعها تنهمر على وجهها بشدة وهمست لنفسها :
-"يبدو أنني مصدر دمار فقط لمن حولي"

منذ الأمس والأطباء على أحر من الجمر لإيقاف النزيف من كتفه وإيقاف انتشار السم، فجأة سمعت هرجًا شديدًا وخطوات راكضة وأصوات هاتفة بالخارج.. عقدت بين حاجبيها واندفعت تخرج من غرفتها ترى الحراس كل منهم يركض في اتجاه مختلف، تسارعت ضربات قلبها بشدة بالتماثل مع خطواتها التي تحركت في نفس الوقت ممسكة بذيل ثوبها يرفرف خلفها أثناء ركضها كخصلاتها متخلية عن تاجها أو أي مظهر من مظاهر الزينة.
وصلت إلى غرفته تدفع الباب بكلا كفيها تندفع إلى الداخل لتتسمر أمام فراشه والأطباء ينتشرون من حوله على كلا الجانبين، يقف عند مقدمة رأسه تقي الدين، وبجانبه رقية.
لم تأبه لنظرات الجميع لها أثناء اندفاعها بل ثبتت عينيها على الجاثم في فراشه لا يدري شيئًا مما يحدث، عاري الصدر وضمادة كبيرة من القطن فوق كتفه تمنع تدفق النزيف، لون وجهه أصبح شاحبًا وأنفاسه ثقيلة بين كل الحين والآخر ينتفض جسده.
كان صدرها يعلو ويهبط وخصلاتها تنتشر بهمجية على وجهها وظهرها تخفي نصفه تراقبه حتى اقترب جاد يضع يديه أمامه وقال بثقل وهم معبأ بصدره :
-"السم انتشر في جسده يا سارية والأطباء لم يعد بيدهم شيئًا لفعله غير وقف النزيف"
نظرت له بصدمة وشهقة تندفع من بين شفتيها، تنظر له بأعين متسعة تبحث في نظراته عن أي معنى للمزاح لكنها لم تجد غير الجدية والحزن.
نظرت لكبير الأطباء الذي اقترب منها ينحني باحترام لها :
-"مولاتي لقد توقف النزيف، وحاولنا أن نوقف انتشار السم لكن جسده يرفض العلاج"
رفعت نظرها له ليهز رأسه بأسف ينحني أمامها، فتخطته تقترب من الفراش لكن أوقفتها رقية ممسكة مرفقها، نظرت لموضع يدها ثم نظرت لها بأعين تقدح غموض تقابلها نظراتها التي تبعث شر وحقد وهمست :
-"لا تحلمي حتى بالاقتراب منه.. يكفي أنه بهذا الوضع بسببك"
جذبتها همسات الأطباء من خلفها مستنكرة ذلك المشهد، فأمسكت سارية معصمها تضغط عليه بقوة لدرجة أنها شهقت بألم محاولة نزع يدها من قبضتها فتركتها والتفتت دون حديث.
خطى الأطباء للخلف تاركين لها المساحة، فاقتربت تجلس بجانبه ثم وضعت يدها على الضمادة تلتمسها، تأملت وجهه يظهر عليه الألم ولا يعي أي شيء مما يحدث، هو حماها بنفسه.. كان من المفترض أن تكون مكانه، كم كانت تتمنى هذا حتى يتوقف كل ما يحدث.
صدح صوته بأذنيها تنظر إليه :
-"في كل ليلة من الشهر يكون بها القمر بدرًا يظهر نبات على حافتها قادر على شفاء السموم "
طاقة وقوة مفاجأة دبت في جسدها تضغط على كفه بين يدها، تنحني إلى جانب أذنه هامسة كأنه يسمعها لكنها متأكدة أنه يشعر بها :
-"تمسك حتى أنقذك، تمسك إلياس فلقد أنقذتني من قبل وحان دوري..
أرجوك لا تيأس، تماسك من أجلي أقسم أنني لن أتحمل فقدك"
طبعت قبلة خفية على وجنته ثم تركت يده، مقتربة من كبير الأطباء تقف أمامه بشموخ ونبرة آمرة :
-"أفعل ما بوسعك ليظل على قيد الحياة حتى أعود بالدواء، هذا آخر أمل لدينا لا يجب أن يحدث له شيئًا"
هز الطبيب رأسه هزات سريع ، وقال قبل أن يعود لفراش إلياس :
-"سأفعل كل ما بوسعي لإنقاذه مولاتي وسأكون بانتظارك"
اقتربت من نيار قائلة بقوة :
-"أريد مساعدتك.. أنت الوحيد القادر عليها"
عقد بين حاجبيه ينظر للإصرار والقوة في عينيها ليسألها :
-"بالتأكيد سارية.. ما الذي تفكرين به؟!"
التفتت تنظر لإلياس وهمست :
-"سننقذه"
أمر جاد أن يجعل الحراس يحضرون بخيله ومهرتها وذهب يتجهز.
خرجت من غرفتها مرتدية عباءتها وقلنسوتها على رأسها لتتفاجأ بـرقية تقف أمامها تنظر لها من أعلى لأسفل ، تقول لها بسخرية :
-"إلى أين تظنين نفسك ذاهبة؟!"
كانت تربط طرفي عباءتها على رقبتها وأجابت بسخرية مماثلة رافعة قلنسوتها تغطي رأسها :
-"منذ متى تهتمين بخط سيري؟"
اقتربت منها ووجهها يقدح شرًا تقول من بين أسنانها :
-"منذ أن أصبحتِ سبب كل المشاكل التي تحدث في القصر"
أشارت بسبابتها إلى غرفتها ومازالت تنظر لها بحقد وأكملت :
-"والآن إلى غرفتك لن تخرجي إلى أي مكان"
يبدو أن صمتها الأيام الماضية ومحاولة تسميمها أوحت لها أن هامتها قد كُسرت وقد أصابها الضعف، حسنًا هي كسائر البشر تضعف شوكتها لكن ينمو لها أخرى أقوي وأحدّ، لتقترب من وجهها بقوة وتحدي قائلة :
-"قسمًا بالحي الذي لا يموت إن لم تبتعدي عن طريقي في الحال سأكون أول من يكتب فيها التاريخ أنها تعدت على والدة زوجها"
اتسعت عين رقية بذهول من هذا التحدي ووضع رأسها برأسها، تهتف بدهشة تستدير لظهر التي تخطتها وذهبت :
-"تتحديني وتعصين أوامري؟!"
دارت لها بنصف جسدها وقالت بابتسامة ساخرة :
-"لا أذكر أنني وافقتك يومًا على شيء"

سارية في البلاط الملكي "كاملة" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن