الفصل الثامن

2.3K 105 16
                                    


ثمة مشاعر كان يجب ألا تذهب لأحدهم
أحاديث ليتها ما قيلت
تضحيات ليتنا لم نقم بها
أعذار ليتنا لم نلتمسها!
فقبل أن ترسم أحلامك على شخص بعينه
تأكد من معدنه
كي لا ينقلب عليك في يوم من الأيام!


أسمعتم يومًا عن برودة الجحيم؟
ألم يطرق بابكم هذا المصطلح من قبل؟
هو رجل أفعاله جحيم
وردود أفعاله الصقيع
بداخل سواد حدقتيه جحيم مستعر
ونظراته باردة حد الموت
كلماته ساخرة تثير الاستفزاز
ونتائجها نيران يصل لهيبها عنان السماء

نهض من مضجعه متجهًا إلى شرفته الواسعة عاري الجزع، يبسط كفيه على الحافة متطلعًا إلى الظلام الدامس أمامه، لا يصله إلا أصوات حشرات الليل بوضوح في ظل هذا الهدوء.
التفت ينظر إلى الفتاة العارية في فراشه بغموض وتفكير مكتفًا يديه أمام صدره، يتابع تململها في الفراش تدور برأسها ثم نهضت ممسكة بالمفرش السميك تستر به جسدها حتى وقعت نظراتها عليه، فاستقامت تمسك بأطرافه من الأمام وباليد الأخرى تعيد خصلاتها السوداء للخلف تتجه له بغنج، حتى وضعت كفها على كتفه تمسده بحركات دائرية هامسة :
-"ما الأمر مولاي؟
لمَ أنت مستيقظ الآن؟"
ظل ينظر إليها كأنه يدرسها من أعلى لأسفل قبل أن يجيبها :
-"أخبريني ما الذي يجعلني أُبقي على حياتك ولا آمر بقطع رأسك في الحال؟!"
أرتد جسدها للخلف من صدمة كلماته فجذبها من خصرها بابتسامة ماكرة أظهرت صفوف أسنانه البيضاء وعقدة حاجبيه الكثيفين مع الإضاءة الخافتة للغرفة أعطوه مظهرًا مرعبًا فأكمل :
-"لقد قمتِ بخيانة أقرب الناس لكِ، فما الذي يجعلني أثق بك؟!"
ابتلعت لعابها بصعوبة تحاول فهم كلماته وما يرمي إليه، اعتقدت أنه بعلاقته معها منذ قليل أنها امتلكت مكانًا خاصًا فهو لا يقيم علاقة مع امرأة إلا إذا كانت تروق له، وتناست أنه شيطان الثقة عنده لا محل لها من الإعراب.
فهمست محاولة رسم ابتسامة على وجهها وأهدابها ترفرف بحيرة :
-"ما الذي تقوله مولاي؟!
بالطبع لن أجرؤ على خيانتك، ثم أنني لم أكن لأفعل ذلك لو لم يكن بداخلي شيئًا تجاهك، فلم أفعل ذلك إلا لأصل إليك"
ابتسامة ماكرة ارتسمت على جانب شفتيه، ثم ما لبس أن انحنى قليلًا واستقام حاملًا إياها متوجهًا إلى فراشه مرة أخرى يهمس أمام شفتيها :
-"حسنًا أرني أقصى ما ستقدمينه لي الليلة "
معصية صغيرة وخطأ دون قصد
تظل ملتصقة بك طوال العمر
بذرة الشر تنبت كالنار في الهشيم
لكن نبتتها عقيمة لا ثمار فيها.
وبذرة الخير نموها ببطء رجل عجوز عاث به الزمن
لكن نبتتها مثمرة وغصونها أكبر!
الأولى ترتفع في الفضاء سريعًا لكن جذورها في التربة قريبة!
تحجب عن شجرة الخير كل شيء.
والأخرى برغم نموها البطيء لكن عمق جذورها في الأسفل يعوضها ما فقدته في الأعلى.

ليلة شتوية سماؤها ملبدة بالغيوم
الهدوء يعم أرجاء المكان إلا من صوت حفيف الهواء.
يرفع نظره من أسفل قلنسوة عباءته يترقب النجوم من بين الغيوم، فإذا بضوء القمر أنيسه تلك الليلة ينير الطريق أمامه.
وصل إلى وجهته، كوخ صغير قابع وسط الغابة يحيطه الضوء المنبعث من المصباحين المعلقين على طرفيّ الباب.
دقة تبعتها الأخرى ولم ينتظر الثالثة حتى فتح الباب طفل صغير لمعت عيناه بفرحة، واتسع فاهه بابتسامة جميلة يُلقي بنفسه بين أحضانه يحيط خصره بذراعيه الصغيرين هاتفًا بسعادة :
-"عماه لقد مر وقت طويل لم تأتِ إلينا، لقد اشتقت إليك"
جلس القرفصاء أمامه يحيط وجهه بكفيّه مبتسمًا بحنان مقبلًا وجنتيه :
-"وأنا أيضًا يا صغيري، كيف حالك وحال جدتك؟"
تقوس فم الصغير بعبوس حزين، وبدأت عيناه تمتلئ بالدموع يجيبه بقلق :
-"أنا بخير لكن جدتي لا، فالحُمى ازدادت عليها منذ ليل أمس وحتى الآن"
استقام مربتًا على رأسه باطمئنان وأغلق الباب، ثم دلف للداخل ينزع عباءته متوجهًا إلى الفراش الوحيد في الكوخ، ترقد عليه سيدة عجوز هزيلة عاث بها الزمن حتى طبع بصمته عليها.. وجهها شديد الاحمرار، أنفاسها عالية تأخذها بصعوبة تُحرك رأسها بوهن.
جلس على طرفه يرفع كفها بين كفيه ينبهها لوجوده، لتفتح عينيها ببطء وتزيغ نظراتها في الأرجاء، ترسم ابتسامة حقيقية لرؤيته وخرج صوتها ضعيفًا:
-"لقد أتيت اليوم أيضًا!
ألم أخبرك أنني سأكون بخير عزيزي؟"
رفع كفها لفمه مقبلًا، ومد كفه الآخر يستشعر حرارتها المرتفعة قبل أن ينهض إلى إناء يملأه بالماء يضع به بعض الأعشاب من جعبته ويضعها على النار تغلي :
-"وطالما لم تُشفي بعد سأظل آتي حتى تطيبي"
ابتسم للصغير الذي حمل إناء آخر وسار بهدوء حتى لا يسقط منه، يضعه على طاولة من البوص بجانب الفراش وجلس بجانب جدته يبلل قطعة قماش فيه ويضعها على جبهتها كما علّمه.
بعد قليل اقترب هو منها على الجانب الآخر يساعدها على النهوض ثم قرّب الكوب منها تشرب الأعشاب الطبية بتريث، ثم أخذت كفه بين يدها تشد عليها :
-"إلى متى سيظل حالك هكذا؟
ألن يرتاح قلبك أبدًا؟"
-"وماذا به حالي أمي؟
حقًا أنا بألف خير لا تقلقي"
أشارت له بالاقتراب أكثر فلبّى، وضعت كفها فوق قلبه النابض بقوة تمسح عليه :
-"قلبك يشع قوة، لكنها قوة مغلفة بظلام الماضي وذنب قديم تحمله لنفسك بالرغم أن الحل بيدك"
شعرت بصدره يرتفع أسفل كفها، ثم صعدت إلى وجهه تتلمس عينيه :
-"عيناك على الرغم من جمودهما والبرود الصادر منهما ألا أنهما تخفيان الحزن، الألم، والشوق"
ضغط على أسنانه بقوة يمنع انفعالاته يحاول التمسك بجموده المعتاد..
يشيح برأسه لجانبه لكنه أجابها بمشاكسة :
-"لستِ بالسهلة أيتها العجوز"
ضحكت بوهن تجذبه من لحيته كأنها تحادث طفل صغير:
-"تلك العجوز العمياء وإن لم تكن تراك لكنها تشعر بك"
رفعت كفيها تحيط وجهه واستحالت نبرتها لحنان وحب :
-"أنت تستحق الحب، لكن عليك تصحيح ما حدث من أخطاء وهذا لن يحدث إلا بمواجهة الأقربين"
وقبل بزوغ النهار كان يدلف إلى القصر دون أن يراه أحد، يزيح القلنسوة عن رأسه ممشطًا خصلاته بأصابعه وهو في طريقه إلى جناحه، لكن الصوت من خلفه أوقفه قبل أن يخطو للداخل :
-"عجبًا لك ما زلت على عادتك القديمة إلياس!
تتسلل في جنح الليل تأخذ خيلك راكضًا ولا تعود إلا عند حلول الفجر!
سيبقى الرعية آخذين الحيز الأكبر منك"
أغمض عينيه للحظات ونسمات الشوق والماضي تهفو حوله بخفة!
نبضات قلبه تتسارع باشتياق جارف لابنه الأول كما يسميه!
ليفتحهما فجأة بنظرات قاتمة بعدما صفعته الذكرى السوداء بينهما والتي تقف حاجزًا بينهما إلى الآن!
فاستدار برأسه فقط يرمق أخيه الواقف يكتف ذراعيه خلف ظهره بابتسامة جانبية فأجابه بغموض ساخر :
-"وعجبًا للذي مازال يتسلل إلى جناحي ليطمئن على عودتي وكأنني طفل صغير.."
طالعه من أعلى لأسفل قبل أن يبتسم بسخرية ظهرت جليًا في صوته :
-"ما زلت تتذكر عاداتي وكأن أمري يهمك"
ألتقط نيار سخريته بوضوح واستقبلها بابتسامة كبيرة لأنه لاحظ نبرة العتاب واللوم خلفها ليعطيه ظهره:
-"هناك أُناس تذكرهم فرض ونسيانهم خطيئة"
سار في الممر المؤدي إلى جناحه فاستوقفه خيال أسود بالأسفل يسير بخفوت يتلفت حوله نحو الجهة الخلفية من القصر، استند بكفيه على حافة الشرفة يضيق عينيه يحاول التعرف عليه ثم اتسعت حدقتيه عندما تبين له ظهر الرجل فهمس بتعجب :
-"مأمون!!"
أسرع يهبط إليه يسأل نفسه ما الذي يفعله هنا في هذا الوقت؟
لكن عندما وصل إليه لم يجد أحدًا!
اتجه نحو الجهة الخلفية فوجدها خالية ليزوي حاجبيه ونظر لأعلى باتجاه جناح وزيره ثم صعد إليه ودلف للداخل ليجده يختم صلاته ونهض يقف أمامه ينحني بترحاب متسائلًا :
-"مولاي!
لمَ جلالتك مستيقظًا الآن؟"
طالعه نيار بصمت وغموض ثم ما لبس أن هز رأسه باستنكار من أفكاره وأجابه بهدوء :
-"لا شيء مأمون أنا فقط أصابني الأرق..
سأعود لجناحي أرتاح قليلًا"
قرن جملته باستدارته وذهابه ليتطلع إليه مأمون بتعجب وصمت.
وفي اليوم التالي..
يقف أمام مرآته يعدل من هندامه الملكي وخادمه بجانبه ممسكًا بعمته، فوجد حارسه يدلف ينحني له باحترام :
-"الملك إلياس بالخارج يطلب الدخول يا مولاي"
عقد بين حاجبيه بصدمة، فلم يكن من المتوقع أن يزوره أخوه في جناحه!
فمنذ أن أتى إلى القصر ولا يوجد أي فرصة ولا مبادرة لأيٍ منهما للحديث مع الآخر سوى أمس، حتى ولو حدثت لم يكن يتخيل أن يبادر بها إلياس، فأسرع يأمر الحارس بدخوله والذي دلف يقف أمام أخيه واضعًا يده اليمنى خلف ظهره واليسرى بجانبه.
التفت إلى خادمه يأمره بالذهاب وتركهم بمفردهما، ثم نظر مرة أخرى إلى أخيه نظرات تحمل أكثر من معنى..
الحيرة من وجوده بجناحه للتحدث معه بعد مرور خمسة سنوات على ابتعادهما!
القليل من القلق مما سيقوله فلا يوجد أية إشارة على ماهية الموضوع القادم بشأنه!
والكثير من اشتياق الأخ الصغير لأخيه الأكبر، يود لو يحتضنه ويخبره كل ما حدث بتلك الليلة لكن كبريائه اللعين يقف حائل بينه وبين أخيه.
أحيانًا نصبر على الصمت، لأن هناك أشياء لا يعالجها الكلام، أشياء كثيرة اشتاق لها
لا يعلم هل ستعود أم ستكون دائمًا ذكرى؟
بادر إلياس بالتحدث :
-"أريد معرفة شيئًا واحدًا فقط أيها الملك!!"
نظر له بدهشة وتقدم خطوة منه قائلاً يهز برأسه قليلًا :
-"بالطبع جلالتك، سل ما شئت"
تنهد بصوت مسموع قبل أن يزفر الهواء بقوة :
-"ليس لك علاقة بما حدث بصديقة سارية، صحيح؟!"
لم يُجب سريعًا بل ظل صامتًا ينظر لوجه أخيه بغموض، ثم ما لبس أن أجابه :
-"إن كان لي علاقة بما حدث، ما الذي سيجعلني أخفيها وأتظاهر بكل هذا؟"
بادره بنوع من المكر وصوت يشوبه السخرية :
-"لتصل لسارية عما فعلته بالغابة وبجندك"
ضحك نيار ثم ابتعد عنه عدة خطوات ينظر لأبعد نقطة في مملكته من شرفته قبل أن يلتفت له واضعًا يديه خلف ظهره :
-"أخبرني إلياس.. من أين لي أن أعلم أن الفتاة التي أنقذت حياتي في الغابة هاجمت أحد جنودي"
اقترب منه وأكمل :
-"ولو كنت أعلم فأظن أن برقية صغيرة مني إليك أطالب بتسليمها لأنها تعدت على جندي من جنود القصر كانت ستفي بالأمر"
تنهد إلياس يضع يده على ذقنه مفكرًا، مطرقًا رأسه للأسفل فكلام أخيه مقنع، حتى هو متأكد أن الفتاة لم تدخل القصر بل لم تدخل مملكة الشمال من الأساس، فعاد بنظره لمن يتأمله صامتًا تاركًا له المجال ليفكر فقال بنوع من الحيرة :
-"كل ما أعرفه بل أكاد أقسم عليه أن الفتاة لم تخطِ أرض المملكة هنا، هي لم تغادر مملكتي"
فبادره الآخر قائلًا بغموض :
-"أو أنها ليست بمملكتك، فـجاد ليس بالهين حتى يختفي وجود أحد يبحث عنه"
عقد حاجبيه بحيرة لاحت في عينيه ونظراته له قبل أن تنتقل لكلماته :
-"ماذا تقصد؟"
فأجابه واضعًا ذراعيه بجانبه :
-"هناك طرف ثالث وحلقة مفقودة لا يمكننا الانتباه لها"
خطى إلياس إلى الشرفة ينظر لها غارقًا بالتفكير قبل أن يقول معطيًا أخيه ظهره :
-"هل تعتقد أنها بالفعل مختفية وهناك من يحاول الزجّ بسارية للوقوع في تلك المشاكل؟"
اقترب الآخر من الشرفة يقف بجواره ناظرًا بالأفق لكنه التفت له بنوع من الغموض :
-"أعتقد إذا وُجِد طرف آخر فهدفه الإيقاع بك"
وقف بمواجهته معطيًا كامل انتباهه ليكمل الحديث:
-"الهدف ليس القانون..
لكن هناك من يعرف سارية ويخطط جيدًا والهدف أنت، هو لا يهمه سارية ولا صديقتها بشيء"
فكر إلياس في كلام أخيه ينظر لأبعد نقطة من المملكة ثم التفت باتجاه الباب وهو يقول :
-"علينا أن نجد حلًا لهذا نيار، إن كان ما تقوله صحيح فالقضية أصبحت تمس المملكتين"
كاد أن يخرج بعدما أنهى حديثه وساد الصمت بينهما ، فلم يجد بد من الوجود هنا، لكن قبل وصوله إلى باب الجناح أوقفه صوت نيار :
-"هناك حل لقطع الطريق لأي محاولة للوقوع بالمملكتين"
التفت له بجانب جسده ينظر له بغموض، فنطق بكلمات كانت لها وقع المفاجأة عليه :
-"اتحاد المملكتين.. ومملكة الشرق في اتحاد مع الشمال بزواجي من ليان، أعتقد هذا الاتحاد الثلاثي سيكون حائط منيع ضد من يحاول الإيقاع بك أو أيًا منا"
إن كانت الكلمات مفاجأة لإلياس، فإن ردة فعله كان مفاجأة لنيار.. عندما تقدم منه بغضب وثورة لاحت على ملامحه بشدة ليقف بمواجهته هاتفًا :
-"هل تريد القول أني لا أستطيع حماية مملكتي بمفردي وأنني أحتاج لمساعدتك؟"
انتقل غضبه له للآخر الذي هتف بدوره :
-"ولمَ لا تقول أنني أعيد الأمور لمواطنها الصحيحة!!
وجودك ليس بمفردك إلياس مكانك الحقيقي هنا في هذا القصر، بيننا، معي"
رأى اشتعال نظراته بذكرى أليمة مرت عليه ليهمس أمام عينيه:
-"أنت تعلم أن لا مكان لي هنا نيار، فلا فائدة لفتح آلام قديمة أحاول بشتى الطرق نسيانها حتى أقف وأتحدث معك بتلك الطريقة اللطيفة"
فهمس نيار بحدة يشوبها الغموض :
-"لا سيأتي الوقت التي تعرف فيه كل شيء لكن ليس الآن، ضع غضبك الشخصي جانبًا وفكر في أحوال مملكتك وحمايتها"
رمقه بنظرات مطولة وعقله يفكر فيما اقترحه من كافة الطرق، بمملكته ورعاياه، يبدو أنه الوقت كي ينحّي غضبه بعيدًا ويفكر بعقلانية كما هو معروف عنه.
ترك له نيار كافة وقته في التفكير وذهب باتجاه عمامته يعيد هندامها، فصدح صوته من خلفه :
-"حسنًا موافق لكن بشرط ..!!"
اقترب منه ليقف الاثنان بمواجهة بعضهما شامخين ، ورأسهما مرفوع بكبرياء .
نيار على استعداد لسماع ما سيقوله
وإلياس على استعداد ليلقي بشرطه.
★★★★

لسوء الحظ أن عقارب الساعة تدور والوقت يمر سريعًا
فما هو ماضٍ في تزايد مستمر
وما هو آت يقل
وما هو ممكن يتناقص وما نندم عليه يتضاعف!
فعلينا استغلال الوقت حتى نزيد ما هو ممكن حدوثه ونزيد من فرصتنا بالسعادة، وتقليل ما يمكن الندم عليه!

واقفة في شرفتها تتطلع إلى الحدائق حولها.. صدقًا لقد بدأت تفقد الأمل وكأن لا فائدة من البحث.
وضعت رأسها بين يديها تفكر بعمق وبين كل حين وآخر تزفر بحنق.
نيران مستعرة تأكل قلبها خوفًا وفزعًا من المجهول!
تخيلات وقصص لا حصر لها تأتي في مخيلتها عما يكون قد أصاب مارية!
انتشلتها من تفكيرها دقات الباب لترفع رأسها بغيظ ممن قرر زيارتها فـ علا صوتها تسأل عن الطارق ليجيبها صوت جاد.
أسرعت نحو الباب بلهفة وشوق أن يكون توصل لشيء عن صديقتها، فتحته ليقابلها وجهه المتهجم ينظر لها بعجز جعلها تهمس بخيبة أمل :
-"لم تجدها أليس كذلك؟"
نظر لها نظرة من ليس بيده حيلة وزفر يأسًا قبل أن يقول :
-"أنا في غاية الأسف سارية أقسم أني حاولت ولكن ليس لها أثر"
أغلقت عينيها بحزن ويأس ثم وضعت كفها على فمها تكتم شهقات صدمة مما وصل له تفكيرها تهمس بجزع :
-"أتظن أنها ماتت؟!
أرجوك أخبرني لا تُخفِ عني شيئًا"
حاول تهدئتها مربتًا على عضديها :
-"لا أخفي عنكِ شيئًا أقسم لك.. ولكنه احتمال ليس ببعيد ، للأسف لقد بحثنا في كل شبر من المملكة"
لم تتحمل أكثر لتصرخ بغضب والدموع تتلألأ في عينيها:
-"كله من هذا الطاغية الذي ينادي بالعدل، وأخيه الذي لا يجد متعته إلا باحتجاز النساء قسرًا"
بدلًا عن التربيت على يدها بلطف أمسكها بقوة وهتف بوجهها وقد تمكنت منه حميته على صديقه من اتهاماتها له :
-"كم مرة سأخبرك أن إلياس لا ذنب له فيما حدث؟"
هزها بين يده بغضب لعلها تفيق من جنونها ولا توقع نفسها في مشاكل أكثر :
-"أفيقي حتى لا تتفوهي بغضب يجعل رأسك أسفل قدمك سارية.. أنا أحاول حمايتك وأنتِ لا تساعديني"
دق الباب في هذه اللحظة ليغمض عينيه بغضب يضغط على فكيه قبل أن يهتف صارخًا :
-"أيًا كان من بالخارج فأحرص على حياتك واذهب من هنا"
بالرغم من تهديده فُتح الباب وطلت وسام حاملة ثوب أبيض اللون مزين بأحجار كريمة شفافة على الصدر تعكس الأضواء من عليها كأنه خرج للتو من إحدى الحكايات الخيالية.
ثوب في وقت آخر كانت ستشهق من روعته لكنها طالعته بدهشة وحيرة تحول بنظرها بينه وبين وسام التي اقتربت منها تهدئها بحنان :
-"سارية أرجوكِ أهدأي، غضبك لن يحل شيء"
اقترب جاد منها وعيناه تقدح شزرًا من عنادها ودخولها بالرغم من أمره لها بالذهاب هامسًا أمام وجهها بشراسة من بين أسنانه :
-"متى ستنصاعين لأمري وتنفذينه؟
أمرتك بالذهاب فلماذا تعاندين؟"
أجابته بحاجب مرتفع بسخرية وأنف شامخ بإغاظة هامسة :
-"وأنت متى ستقتنع أنني لست من جنودك حتى تملي أوامرك عليّ؟
ثم أنني لم آتي إليك أنا آتية لسارية فلا حديث لك معي"
على الرغم أنها المرة الثانية التي يجتمعان بها، لكن شرارة العناد والتحدي بينهما مندلعة!
لا تعلم لماذا يستفزها حضوره وهو لا يعلم لما عنادها يثير حنقه؟
طالت النظرات بينهما يود دق عنقها على برودها، وهي تصارع نفسها كي تبقى ثابتة أمامه ولا تفر هاربة فتثير شماتته!
هتفت سارية وكأنها لم تستمع لكلمة مما دار بينهما لتفكيرها في هذا الرداء.. فالتفتت لها سائلة تشير بسبابتها إليه بجانب لوازمه :
-"من أحضرهم ولماذا؟"
رمقت جاد الذي يتطلع إليها بتوجس على أمل أن يجد لها مفرًا ثم تحولت نظراته إلى وسام بيأس فصرخت بهما تشير إليه :
-"هل ستظلان تتطلعان لبعضكما طيلة النهار؟
فلينطق أحدكما، لماذا هذا الشيء اللعين هنا؟!"
هتفت بسؤالها كل كلمة على حدى لتنطق وسام سريعًا تلقي ما في جعبتها :
-"الوزير مأمون أحضره..
الملك نيار طلب منه أن يعطيه لي يخبرك أنه لم يبقَ الكثير على يوم الاحتفال الذي سترتدينه فيه"
أصبح وجهها شديد الاحمرار من الغيظ  وقد وصل غضبها لذروته
هل وصلت السخرية بها إلى هذا الحد؟
يحتفلون بالمذبحة التي تسير نحوها؟
دارت حول نفسها بهوس وجنون تبحث عن شيء ما ثم توجهت للمرآة تسحب خنجرها من عليها لتتجه إليه تصرخ غضبًا :
-"سأخبره رأيي في هديته"
أعاق طريقها جاد يحاول الإمساك بها منتزعًا الخنجر و تحاول وسام إبعاد الثوب عنها، ليُفتح الباب فجأة ودخلت خديجة دون اعتبار لأي أصول اللباقة بالطرق على الباب، تهتف بهم بغضب :
-"ماذا يحدث في قصري؟
صراخ، وهرج ومرج!
أهذا ما يحدث عندما يحضر رعاع وخدم إلى البلاط الملكي!"
ثم نظرت إلى سارية باحتقار رفع ذروة غضبها، لتنطق وسام بينما تنحني أمامها :
-"مولاتي كنت أحضر لسارية رداء الحفل بأمر من الملك نيار"
ناظرتها خديجة بترفع واشمئزاز :
-"أتى اليوم الذي يحتل فيه الخدم قصري..
فما أنتِ إلا مدعية حقيرة، لا أستبعد أنكِ اخترعتِ قصة صديقتك حتى تدخلي القصر!"
اقتربت منها حتى وقفت أمامها تنظر لها بترفع وتكمل بتشفي :
-"أكاد أجزم أنها هربت تلقي بنفسها على أحد من ذوي النفوذ"
عندها اشتعل جنون سارية، فدفعت جاد بقوة بعيدًا عنها منتزعة خنجرها منه ليرتد خطوات للخلف بعدم توازن مصطدمًا بجسد وسام التي أسندته بكفيها حتى لا يقعا سويًا، وفي لحظة كانت خلف خديجة تحيط عنقها بيدها الممسكة بالخنجر تضع نصله على عنقها، تهمس بأذنها بصوت شرير كمن فقد صوابه:
-"أنا حقًا لم يعد لدي شيئًا أخسره..
فلا أنتِ ولا ملكتك المبجلة ولا ابنيها ستتوانون عن قمع حريتي، كل تفكيركم الآن كيفية التخلص مني!
فلمَ لا أعطيهم سببًا وجيهًا لذلك؟"
صمتت قليلًا وذراعها يشتد حول خديجة التي تحاول الإفلات من قبضتها بذعر ثم قالت بقهقهة ساخرة :
-"أقسم أنني لو قتلتك لن يحزن أحد، بل يمكنني إعطائك قائمة بمن سيحتفلون بموتك"
قالت الكلمات الأخيرة تضغط بنصل الخنجر أكثر حتى صرخت بخوف لتسكتها مكملة حديثها بهتاف :
-"أنا في كل الأحوال سأموت إما سيحكم عليّ بالقتل ، أو سأقتل نفسي إذا حكم أن أكون جارية هنا.. فلمَ لا آخذك معي حتى نُسلي بعضنا في جهنم"
دفعتها في نهاية حديثها تاركة إياها يختل توازنها وكادت أن تسقط لكن يد أحاطت ذراعيها تمنعها من السقوط، ليسود الصمت التام في الغرفة وجميع الأنظار تتجه نحو القادم.
جاد ووسام انحنيا باحترام لحظة دلوفه..
سارية تنظر إليه بوجه محتقن من الغضب وصدرها يعلو ويهبط بقوة بسبب لهاثها الشديد..
خديجة التفتت ترى من يحيط بها فوجدته إلياس ليتحول وجهها لقناع من البراءة المصطنعة وضمت نفسها إليه تقول مدعية البكاء والحزن :
-"إلياس أرأيت ماذا كانت تريد تلك المجرمة أن تفعل؟!
أرادت نحري"
ضيقت سارية عينيها تشاهد كم الخبث الذي يخرج منها، فتمتمت لنفسها بصوت تظن أنه لا يصل لأحد:
-"قسمًا بربي كنت سأفعلها ولن يرمش لي جفن"
صرخت الأخرى بقوة كمن أمسكت بدليل اتهامها تشير لها :
-"أرأيت جلالتك ها هي تعترف متبجحة"
رفع نظره إلى سارية التي أشاحت بوجهها تزفر بقوة ويأس كمن لا يعجبها ما يحدث، وتقدمت باتجاه مرآتها تمسك بجعبة خنجرها تضعه فيها مثلما كان، فنظر إلى جاد قائلًا :
-"جاد خذ خديجة ووسام من هنا، وأطمئن أن كل شيء يسير كما يجب"
كادت خديجة أن تعترض لفكرة وجوده معها بمفردهما، لكن نظرته لها أسكتتها لتنحني له تستمع لصوت جاد خلفها يأمرها :
-"مولاتي.."
خرج الجميع فالتفت للتي أمامه تكتف ذراعيها أمامها تنظر إليه بأعين منفعلة وشفاه مزمومة، فتأملها بوقفتها مرتدية رداء أصفر يرسم جسدها ببراعة، وشعرها الناري تعقده بجديلة ساكنة على كتفها تصل لخصرها.
تنهد يضع ذراعيه خلف ظهره رافعًا أنفه لأعلى بشموخ ناظرًا إليها من مكانه ولم يكلف نفسه عناء الاقتراب منها:
-"أخبريني عن طريقة لإيقاف نيران غضبك لتكوني أنتِ أول من يطاله لهيبها"
لم تتحدث لكن اتساع عينيها بانفعال عرف أنها تتجاوب معه ليكمل:
-"هل تريدينني أن أعدد ما فعلتيه لتعاقبي عليه؟
بداية من دخولك لهذا القصر واتهامك للجميع..
أسلوبك الحاد وغير اللائق..
والآن رفعك الخنجر وتهديد خطيبتي بالقتل"
قررت أن تجيبه رافعة كتفها بلامبالاة قائلة ببرود شديد :
-"أعرف تمامًا ما فعلته.. ولست نادمة، فكما أخبرت خطيبتك المبجلة في كل الأحوال لم يعد هناك ما أخسره"
خلف البرود هناك جحيم مستعر!
خلف هذه اللامبالاة غضب لو أُطلق العنان له سيؤذي الجميع وأولهم هي!
يستطيع قراءة ما تخفيه في طياتها من اشتعال عينها!
تحرك بخطوات متريثة منها وابتسامة غامضة على شفتيه :
-"غضبك لابد من كبحه لكن ليس هذا الوقت الملائم..
والآن أخبريني هل وجدتِ صديقتك؟!"
الانفعال الذي كان في عينيها اختفى يحل محله الحزن وخيبة الأمل، رأسها انحنى تضغط على شفتها السفلى بأسنانها تمنع رغبة شديدة في البكاء لكنها استطاعت كبح جماح نفسها، ولم تفطن أن انفعالاتها لم تخف عليه بفراسته لكنه صمت بعدما علم أنه يصيبها الضعف كباقي البشر، لقد بدأ يستشعر أنها خيالية بتلك القوة التي تدعيها.
فوقف أمامها يطالعها من علو لترفع عينيها له وقالت :
-"أنت تعلم إجابة سؤالك اللعين فلماذا هذه الألاعيب؟!"
ابتسم بداخله وفكر لمَ لا يلعب معها لعبة صغيرة؟
جذبته قوتها ويريدها في القادم بأكملها، فاقترب منها لدرجة خطيرة يضع ظاهر يده على جديلتها يلمسها هابطًا على طولها، فنظرت ليده بصدمة لكن الصدمة الأكبر عندما استمعت لهمسه :
-"إذا لم يكن هناك ما تخسرينه فلما لا نمرح سويًا"
نظرت له تحاول استيعاب كلماته لتتسع عيناها وأصابها الغضب من تلميحه اللعين..
أرادت اللجوء لخنجرها لكنها لم تجده، لتتفاجأ بذراع يلتف حول خصرها يضمها إليه فالتصق ظهرها بصدره، ويده الأخرى ممسكة بخنجرها على رقبتها، فتبدلت الأحوال وتصبح محل خديجة.
نظرت للمرآة وجدته ينظر لها وأنفاسه تلفح خلف أذنها فتسير قشعريرة على طول عمودها الفقري ليهمس في أذنها :
-"ليس كلما يستفزك شيء تهرعين إلى خنجرك ، تعلمي البرود أيتها الصغيرة..
تعلمي أن الكلمات كالسيوف تقتل وتدمي خير من ألف سلاح، حتى لا تنقلب الأدوار كما الآن"
كانت تلهث بين ذراعه ولا تستطيع قطع النظرات بينها وبينه في المرآة ليتابع همسه :
-"عليكِ أن تعرفي من هو إلياس، وما هي مبادئه"
تركها فجأة كما أمسكها ليخرج من الغرفة لكنه توقف عند الباب والتفت ينظر إلى الثوب القابع بسكينة على الفراش ثم رفع نظره لها ليقول :
-"أراكِ في الاحتفال"
تابعته بنظرها من المرآة تستند بكفيها على حافتها، حتى خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه، لتنظر مرة أخرى إلى نفسها بصمت حتى همست أنه على حق، هي لم تنضج بعد.
★★★★★

تشعر أن الأيام القادمة سوداء لا ترى الشمس
يسكنها الصمت والعذاب
تغمرها ظلمة الليل ولا تعرف معنى الألوان
أيام غاب فيها القمر
ولم تعد تُتقن سوى لغة البكاء
أيام تحتضر
أيام كالأشباح
  تنقطع فيها الأنفاس
ويتملّكها اليأس والضياع.

كوخ صغير وسط الغابة في منطقة نائية قرب البحيرة!
في ظاهره يبدو كأن لم يخطه بشر منذ وقت طويل، غزلت العناكب أنسجتها على واجهته، وأوراق الأشجار المتساقطة والقش على أعتابه!
لكن إن اقتربت منه منصتًا بتركيز سيصلك همهمات مكتومة لشخص ما بالداخل كأنه يعاني للوصول لشيء!
صوت صهيل الخيل قادم من بعيد يقترب نحو الكوخ وظهر اثنان ملثمان يرتديان الأسود لا يظهر منهما سوى أعينهم!
دلف أحدهما إلى الداخل بعدما استل خنجره وبقى الثاني بالخارج!
صمت رهيب يسود المكان يتسلله حمحمة الخيل العالية وأنفاس أخرى خافتة وصوت فتاة يخرج بوجع تستغيث بمن دلف إليها :
-"أرجوك.. ساعدني"
ليقطع فجأة الصمت صرخات في بدايتها مذعورة أثارت رعب الفرسين فأصبحا يدبان الأرض بأقدامهم وأصوات الصهيل تتعالى!!
لتنخفض صرخاتها وتتحول إلى أخرى ذبيحة وأنفاس متقطعة حتى صمتت نهائيًا.
خرج الرجل ممسكًا خنجره الملوث بدماء تتساقط من نصله، ليمتطيا فرسيهما وقبل ذهابهما ألقى الرجل الثاني غصنًا مشتعلًا على الكوخ وركضا تاركين النيران تأكل البيت بمن فيه بلا رحمة.
★★★★

وعلى الصعيد الآخر بجناح سارية..
جالسة على المقعد أمام المرآة، خلفها وسام تحاول إقناعها بأن تتركها تهتم بشعرها وتزينه بينما غضبها العاصف يهدد الكل لتصرخ في النهاية نازعة مشبك الشعر بغيظ :
-"أقسم إن لم تتركيني بمفردي وشعري المسكين سألقي بنفسي من الشرفة، فربما يكون سقوطي أرحم من خروجي لوكر الأفاعي هذا"
حاولت الأخرى تهدئتها :
-"سارية أرجوكِ أهدأي وحاولي تمرير اليوم على خير.. الملكة تنتظر خطأ واحد لتأمر بعقابك، ونيار يريد خطوة خاطئة منك لتقعي بين براثينه..
أفهمي أرجوكِ الكل  ينتظر وقوعك لينقضوا عليك.. حاربي فمعركتك تستحق الحرب بذكاء"
حدقت بها سارية بتمعن تتذكر كلامًا مشابهًا لهذا ولكن بطريقة أقسى!!
عليها فقط التذكر أن عثورها على مارية ونجاتها يتوقف على خطواتها التالية والتي يجب أن تحسب لها ألف حساب، فخطوة واحدة خاطئة ومصيرها ومصير مارية سيكون بين أيديهم.
دقات الباب جذبت انتباههن بعدما انتهت لتجلس على أحد المقاعد وتحدق بالأرض، فزفرت وسام بحزن على حالها واتجهت إلى الباب تفتحه، فوجدت بدر الدين الذي ابتسمت له ابتسامة صغيرة تحاول طمأنته.. لتفشل فشلًا ذريعًا والحزن والقلق يظهر على ملامحها.
ربت على كتفها بود محاولًا طمأنتها ولا يعلم من يحتاج الطمأنينة فهو في أشد الحاجة لها.
جذب أنظاره ابنته بمظهرها الخاطف للأبصار، دومًا ما كانت فاتنة تجذب الأنظار ولكن اليوم جمالها ساحر لم يرَ مثيلًا له!
تنحنح محاولًا السيطرة على مسار أفكاره فابنته في أشد الحاجة له، فمهما كانت قوية لا تخشي أحد فإنها في نهاية الأمر بشر.
اقترب منها يضع إصبعه أسفل ذقنها يرفع رأسها لتنظر في عينيه فوجد عينيها تلمع بالدموع ليهتف بحزم :
-"ليست سارية ابنة بدر الدين من تخفض رأسها.. ارفعيها دومًا، لم تفعلي شيئًا يدعوكِ لتنحني!
طالما كنتِ فخرًا لي ودوماً ستكونين..
دافعتِ عن نفسك وعن صديقتك ورغم تهورك لستِ أنتِ من يجب أن تخفض رأسها، فقد حاربتِ لأجل العدل بنيتي ولذلك سيكون الله معك"
ألقت نفسها بين أحضانه تدفن رأسها في صدره تخفي الدموع التي تنساب على وجنتيها :
-"أنا خائفة أبي وأشعر بالخزي من خوفي هذا، لا يدفعني للنهوض سوى الوقوف أمام هؤلاء الطغاة لأجلها.. لا أدري ماذا أفعل؟
أخبرني أبي أنا ضائعة وأتألم بقوة ولا أستطيع أن أجد مخرج"
احتضنها أكثر إلى صدره يحاول السيطرة على النزعة الأبوية بداخله التي تدفعه ليأخذها من هنا كما فعل في الماضي وتلك المرة سيتأكد ألا يجدهما أحد.
لكن الجزء العاقل يهتف به أنها يجب أن تتحمل توابع اختياراتها، وتلك المسكينة التي لم يجدوها بعد ، يعلم أنه حتى لو رحل من هنا فرقية لن تتركهما في حالهما.
زفر بضيق وهَم وهمس لها يرفع رأسها بين كفيه :
-"سارية انظري لي.. هل تظنين أنه من الممكن أن أتخلى عنكِ أو أترك أحدهم يمسّك بسوء؟
سأموت قبل أن أفعلها يا صغيرتي"
قبّل جبهتها مربتًا على وجنتيها بحنان مكملًا :
-"في بعض الأحيان موضع في مواقف نظن أنها أكبر من تحملنا، نشعر بالألم وكأنه لن يمر يومًا، نقع أرضًا مرة بل مرات، ولكن قوتنا تكمن في كل مرة ننهض بها، وثقتنا بأن الله لا يكلف النفس إلا وسعها، وأن طالما الله وضعك فهو متيقن بقوتك على المحاربة"
ليمسح دموعها ويبتسم لها :
-"وأنا دومًا بجانبك ابنتي لن يمسك أحد طالما أنا على قيد الحياة..
أنتِ تثقين بوالدك أنه لن يضعك في وضع تندمين عليه.. أليس كذلك؟"
أومأت مسرعة برأسها فابتسم لها يقبل جبينها بحنين ورقة شديدة وهمس لها :
-"جيد.. والآن هيا معي بكامل شموخك واثبتي للجميع أني ربيت محاربة لا تخشى سوى ربها.. كوني كما عاهدتك دومًا فأنا مؤمن بك"
أخرجت نفسها من بين أحضانه تمسح دموعها التي سقطت، وعينيها تشتعل بالتحدي مرة أخرى فهي لن تخيب أمله يومًا، رفعت رأسها بشموخ فضحك والدها بفخر، بينما وسام في أحد أركان الغرفة تمسح دموع التأثر من هذا الحوار تدعو الله أن يحفظها ولا يصيبها بأذى.
وضعت يدها بيد والدها لتخرج من الغرفة تقسم ألا تنحني لظالم، فهذا ما تربت عليه وهذا ما ستموت عليه وحتى لو كانت نهايتها اليوم فلن تركع.
★★★★

يوم الاحتفال.. اليوم المشهود الذي ينتظره الجميع بمشاعر مختلفة تمام الاختلاف، الرعية مقسومة إلى نصفين
نصف مفطور قلبه على فتياته اللاتي أُخذن إلى القصر، والآخر فرح بأجواء الاحتفال والطعام وكل هذه الأشياء.
رقية جزء منها سعيد لزواج نيار فهي قبل كل شيء أُم تفرح لفرح وسعادة ابنها، سعيدة أيضًا لأن الفتاة التي تبغضها لم تصل لهدفها وأتتها الفرصة لتعاقبها على ما فعلته وجرأتها بل نقول قوتها التي تثير غيظها.
إلياس ونيار مشاعرهما قريبة من بعضها، منشغلان بالاتحاد الذي سيعلن في الاحتفال والشرط الذي وضعه إلياس.
لكن الحال عند سارية كانت كمن تساق إلى مذبحها، لا يفرق معها أي عقاب ولا أي حكم، كل ما كسرها هو فقدها الأمل في إيجاد صديقتها، يأسها لدرجة أنها فقدت القدرة على البكاء ونوبة من البرود والصقيع اجتاحت قلبها ووقفت تتأمل نفسها بهذا الثوب التي لا تعلم حتى الأن مصيرها به.
تشعر بالغرق لكن الغرق ليس السقوط في الماء، فلا أحد يصف السمكة بالغارقة، لكنها تغرق في الهواء!
الغرق معنى، وصف قاتل.. الغرق أن تسقط في مكانٍ ليس لك.
ساحة القصر مغطاة بأقمشة وخيم ملكية مرتبة في الأعلى على هيئة وردة واسعة مثبتة أطرافها على الأعمدة في أطراف القصر، والمشاعل مثبتة في جميع الجوانب.
الناس مجتمعة بأعداد هائلة امتدت لخارج القصر بمسافة كبيرة، وكبار الزوار يجلسون في المنصات المخصصة لهم، وفي منطقة ما يصدح صوت الموسيقى والأغاني وتصفيق وتهليل الناس فرحين.
في المنصة المخصصة للنساء، ليان جالسة بكبرياء ورقة يليق بها، بثوبها القرمزي وتاجها الماسي المرصع بأحجار من الياقوت الأحمر مثبت به طرحة كبيرة تهبط على وجهها برقة ليظهر منها عينيها فقط، فكانت أشبه بالنقاب الشفاف.
نظرت بالكرسي الموجود بجانبها حيث سارية جالسة تغطي وجهها مثلها بوشاحها الأبيض لتظهر عيناها بنظرات زائغة وعقل مشوش مشغول، ووسام تقف بجانبها، فوجدتها تتنفس بعمق تنحني برأسها بقلة حيلة، فمدت يدها تمسك بكفها ضاغطة برفق عليها، فنظرت لها بزيغ لتمنحها ابتسامة رقيقة لها.
وفي المنصة المقابلة على الجهة الأخرى تجلس رقية بأنف مرفوع تنظر لها بتشفي وابتسامة باردة وساخرة على وجهها.
لكن يعتبر الحدث الأكبر والضيف الأكبر في هذا الاحتفال هو حضور " الملك كهرمان"، فالعلاقة بين القصر و كهرمان وبالأخص إلياس الجميع يعلم أنها ليست مستساغة.
بعد قليل ظهر تقي الدين على المنصة الرئيسية مع سليم والد ليان وظهر بجانبه نيار على يمينه وإلياس على يساره.
نظر إلياس إلى الخلف بابتسامة يشير بيده لشخص كي يدلف ويقف بجانبه فظهر بدر الدين بجلبابه الأبيض ووقاره المعهود به، فنظرت إليه رقية بدهشة من وجوده على المنصة وأجراس الإنذار تصيح برأسها.. وسارية  كانت دهشتها مختلفة عنها، هي من الأساس لا تستطيع التفكير فنظرت لما سيقال بتشوش وكفها يضغط على كف ليان الممسكة بها.
من ناحية أخرى في هذه اللحظة كانت الجنود تحوم حول المملكة في هذا الحدث لحمايتها، وفي الغابة يحوم كثير من الجنود للاطمئنان أنها بخير، لكن أحدهم كان يسير بجواده فوجد أحد الكوخ المحترق فترجل ليدخل إليه فتفاجأ بفتاة مقتولة مشوهة الملامح ، ليهرول إلى الخارج ويمتطي جواده راكضًا بأقصى سرعة كي يخبر قائده بأمرها، وقتلها في يوم مثل هذا على أرض المملكة أثار الريبة بداخله.
وجد جاد يقف بجوار مأمون كلٌ منهما يحول بنظره حول القصر للاطمئنان، فوقف الجندي أمامهما وحاول التنفس من لهاثه الشديد وقال من بين تقاطع أنفاسه :
-"أيها القائدان.. هناك أمر مهم عليكما رؤيته"
نظرا لبعضهما بريبة ونطق جاد مستفسرًا :
-"ما الأمر تحدث بسرعة؟!"
-"هناك فتاة.. فتاة مقتولة في كوخ في الغابة"
اتسعت أعينهما وازدادت سرعة أنفاسهما، فهتف مأمون بأحد الجنود بصوت عالٍ :
-"احضرا جوادي وجواد جاد بسرعة"
جاء الجندي بالجوادين، فانطلق الاثنان إلى الغابة ليرا ماذا حدث؟
وقف الاثنان يتأملان الكوخ بصدمة ..
كثير من اللون الأسود على جدرانه من الخارج
النوافذ والباب قد تآكلوا بالكامل والأدخنة تتصاعد من كل مكان، فدلفا إلى الداخل بحذر يتأملان البيت الذي تفحم بالداخل، ثم وجدا جثة تلك الفتاة التي تحدث الجندي عنها لكن للأسف ومن سوء الحظ أن الحريق شوه معالمها بالكامل، فنظر مأمون للجانب الآخر يغمض عينيه من هول المنظر للمرة الأولى ثم فتحهما ينظر في الفراغ بصمت ونظرات قاتمة، وجاد ضغط على جفنيه بقوة يجلس القرفصاء بجانبها، فوصله صوت مأمون من الخلف :
-"علينا إخبار الجميع يا جاد.. هذا الأمر في هذا الوقت بالتأكيد ليس من محض الصدفة"
نهض جاد يتأمل الجثة ورغبة القيء تحتله :
-"سنخبرهم لكن بعد نهاية الاحتفال، سنثير ضجة وهرج نحن في غنى عنه"
كادا أن يخرجا بعدما أمرا بعض الجنود بالمكوث هنا حتى العودة مرة أخرى، لكن جاد توقف على باب البيت ناظرًا إلى الفراغ للحظة ثم عاد بنظره إلى جسد الفتاة ليلفت انتباهه سلسال فضي على شكل هلال يخرج من نصفه سهم في عنقها لم تأكله النيران.. فمد يده يخلعه عنها وتأمله بتفكير ثم وضعه في يده ليتدلل في يده متأرجحًا أمام أنظاره.
وفي نفس الوقت كانت المراسم تقام في القصر، الفتيات اللاتي تم اختيارهن يتم وشمهن برمز ملكي خاص على كتفهم، ثم يقمن باستعراض راقص أمام الملوك والحضور.
وبعد إتمام هذه المراسم يدخلن إلى الحرمليك وفي نهاية اليوم تشرف عليهن رقية تعطيهن أشغالهن.
نهض تقي الدين يرفع كفه يحيي الجميع ليهلل الجميع ويهتفون :
-"يحيا الملك.. يحيا الملك"
فابتسم يشير لهم بالهدوء ليعم الصمت المفاجئ، فتحدث قائلًا :
-"اليوم من كل عام يوم تأسيس المملكة واستقلالها لتصبح أقوى الممالك في العالم، هذا الاحتفال ليس فقط للمرح بل للوطن والأرض"
صمت قليلًا ثم أكمل يشير لابنه نيار ليقف بجانبه بشموخ:
-"اليوم حفل زفاف نيار على الأميرة ليان ابنة الملك سليم.. وبالتالي هو اتحاد بين المملكتين"
هلل الجميع وتعالت الأصوات بالمباركات والدعوات لحياة نيار و ليان، لتنظر سارية إليها بابتسامة تربت بيدها الأخرى على يديهما مباركة لها عقد قرانها.
لينتبها مرة أخرى إلى صوت نيار الذي تحدث مشيرًا لأخيه للوقوف بجانبه يضع كفه يشد على كتف أخيه في مشهد أثار كثير من المشاعر منها الحيرة والتأمل والدهشة والأمل :
-"ليس هذا فقط.. هناك أمران آخران سيحدثان، الأول اتحاد مملكة الشمال مع مملكة الجنوب مرة أخرى كما كانت منذ خمسة سنوات"
لينظر إلى أخيه بابتسامة :
-"حان رجوع الملك الغائب لأرضه من جديد"
نظرت رقية لهما في صدمة فهي لم تعلم عن هذا الاتحاد شيئًا، لكنها سعدت بهذا بعض الشيء وتوجست ريبة منه أكثر وانتظرت تستمع للبقية من الحديث.
لكن سارية اتسعت عيناها بقوة ولم يأتِ بخاطرها إلا أنها تأكدت أن بهذا الاتحاد استنتاجها كان صحيحًا منذ البداية.. صديقتها كانت كبش فداء ليتم هذا!!
فنظرت باشمئزاز إلى إلياس مدعي العدل والفضيلة..
والآخر التي تود قطع رقبته بدم بارد دون أن يرف لها جفن.
أما كهرمان نظر للاثنان بابتسامة جانبية على شفتيه يمسد على لحيته وعيون ذئبية ضيقة كمن كان ينتظر هذه اللحظة، أو متوقع هذه الخطوة من البداية.
تقدم إلياس خطوة إلى الأمام يضع يده خلف ظهره بردائه الأبيض وعمامته البيضاء، وألقى نظرة على والدته التي كانت جالسة على جمرات تنتظر ولا تفهم ما الذي يحدث هنا لتظهر ابتسامة على وجهه، ثم حول نظره إلى المنصة الجالسة خلفها سارية ليلتقطها بفستانها الأبيض يجزم أنه يعرف شعورها في هذه اللحظة، لينظر أمامه مرة أخرى يقول :
-"الأمر الثاني أعتقد أنه سيسعد أهل مملكتي أكثر من أي أحد"
تصاعدت الهمهمات بين الحشد الغفير وكل منهما يهبط على أذن من بجانبه يستفسر عن معنى جملته، ليكمل :
-"اليوم لن يكون هناك عرس واحد فقط.. بل اثنان"
قالها ينظر مرة أخرى إلى والدته التي تحركت بجسدها للأمام وأمسكت بجانبي الكرسي، وخديجة التي عقدت بين حاجبيها لتنظر إلى رقية باستفسار لكنها ما لبست أن ابتسمت بشدة تهمس لنفسها:
-"هيا إلياس أفعلها وأعلن أنك عقدت قرانك عليّ.. ستكون أجمل مفاجأة في حياتي"
فرفع رأسه وحاجبه يكمل ناظرًا إلى بدر الدين الذي أومأ له أن يكمل :
-"اليوم حفل زفافي أنا أيضًا"
تعالت الشهقات ثم ارتفعت الأصوات بالتصفيق والطبول دُقت ليهلل الجميع والحشد قبل أن يرفع يده ليعم الصمت من جديد، فارتفع صوت أحد القادة يهتف :
-"مبارك زواجك مولاي من الأميرة خديجة"
لترتفع الأصوات مرددة نفس الجملة خلفه لكنه أسكتهم مرة أخرى وقال :
-"تم عقد قراني أنا وأخي منذ قليل لكن ليس على الأميرة خديجة"
شهقت الأخيرة من موضعها واقفة كمن لدغها عقرب، ووالدته احتقن وجهها فصار كلون الدم تشدد قبضتها على وشاحها لتسمعه:
-"لقد تم الزواج من ابنة الوزير السابق وشيخ قبيلته.. سارية ابنة الشيخ بدر الدين"
انتفضت بدورها هذه المرة تفك وشاحها من أمام وجهها تنظر له بصدمة وأعين متسعة، صدرها يعلو ويهبط كالمحمومة ممسكة بقوة بحافة المنصة حتى ابيضت مفاصلها  تتمنى أن تكون أصيبت في سمعها قبل كل ذلك، تريد أن يكون كل هذا حلم وتفيق منه.. لكن صوته الواثق الرصين الذي صدع من جديد ليرتفع نظرها له فقابلتها نظراته المتحدية :
-"سارية أصبحت زوجتي.. فهي الآن سارية زوجة الملك إلياس"

سارية في البلاط الملكي "كاملة" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن