الفصل الثامن عشر

2.1K 97 5
                                    

كل ما يتعلق بالأمس ذهب معه.
اليوم حان الوقت لقول أشياء جديدة!
فلا جدوى أن نجعل أشباح الماضي تلاحقنا وتبدد كل جميل يشاء أن يبدأ
يجب فتح الأبواب لأحلام وحياة جديدة!
ونأخذ من الماضي ما يساعدنا على تجميل هذه الحياة.


واقفان كأسدان شامخان
ينظران في الأفق البعيد عند نقطة التقاء السماء بالأرض بينهما قرص الشمس الأحمر يختفي نصفه في ساعة غروب صافية.
تذكر نيار ما حدث بعد عودته برفقة ليان تلك الليلة وقد قطع عهدًا أن يزيل كافة الحواجز المتبقية بينه وبين أخيه..

ذهب لجناح أخيه الذي أسرع نحوه مجرد أن رآه بقلق لاختفائه طوال اليوم بعد موت مأمون.
يعلم صعوبة وقع الأمر عليه لشدة العلاقة بينهما.
شد على عضديه يشمله بعينيه بحنان فقدوه بينهما منذ سنوات ليعود ويراه الآن مرة أخرى..
ليصدح صوته مطمئنًا :
-"هل أنت بخير نيار؟!"
ابتلع ببطء وربت على كتفه يومئ برأسه يطمئنه :
-"أطمئن أخي أنا بخير.
ليس فقدان خائن مثل هذا سيكسر شوكتي"
ابتسم إلياس بحبور وفخر فأخيه ليس بالضعيف.
يعلم أنه يتألم، قلبه يحترق بنيران الخيانة التي طالما تلظى بها!
لكنه يعلم أيضًا أنه سيجتازها بقوة طالما رآها بداخله!
استمع إليه يقول فجأة كمن يحمل همًا يريد إلقائه :
-"حقيقةً أود إخبارك أمر ما..
أمر لابد من مناقشته حتى أبرئ ذمتي أمام الله وأمامك ليعود كل شيء في مساره الصحيح"
لاحظ نيار تجمد ملامحه وكأنه فطن إلى مغزى حديثه، ليهز رأسه كمن يرفض الحديث في هذا الأمر قائلًا يوشك أن يوليه ظهره مشيحًا بكفه برفض :
-"ما حدث في الماضي أصبح ماضي، لا أريد التحدث فيه..
لقد انتهى وتغاضيت عما حدث وها نحن عدنا كما السابق وأفضل، فأنا...."
لم يكمل حديثه جراء جذب نيار من مرفقه كي يلتفت إليه يناظره بغيظ وأعين مشتعلة من الغضب يهتف مستنكرًا :
-"حقًا تريد إقناعي أن قلبك هذا نسي كل ما حدث دون أن تعلم الحقيقة؟
تريد إقناعي أن الأمور بيننا أفضل من السابق ومازالت تلك الحادثة عائق بيني وبينك؟"
اشتعلت عيناه بغضب وقد عادت الذكريات تتدفق في عقله كالسيل الجامح كأنها حدثت بالأمس، يضغط على أسنانه بقوة.
كاد أن يهتف به معاتبًا لكن كفه الذي أشهره في وجهه جعله يصمت مستمعًا :
-"قبل أن يبدأ غضبك في الظهور أستمع إلي ثم لك حرية التصرف"
وقف بمواجهته يكتف ذراعيه خلف ظهره وقد هيأ نفسه للاستماع، فبدأ نيار بسرد كل ما حدث..
بداية من اتفاق والدته معه ومسايرتها فيما تريد لأنه يعلم لو أنه رفض أو أخبره بالأمر لن تتردد عن قتلها.
أخبره بما حدث في تلك الليلة عندما أعطاها الأمان الكامل لكنها كانت ضعيفة لتنهي حياتها في الحال.
كل هذا وعيني إلياس تجحظ بذهول لما يقال ولسان حاله يتساءل!!
هل أخطأ عندما لم يستمع إليه طوال هذه السنوات؟
كيف أوصل الحقد والجشع أمه أن تفرق بينهما؟
هز رأسه بصدمة يردد باستنكار وتعجب :
-"ولماذا لم تخبرني نيار؟
لمَ انتظرت كل هذه السنوات ولم تأتِ إليّ؟!"
ابتسم الآخر ابتسامة باهتة وملامحه يشوبها قلة الحيلة والضعف ليقول :
-"وهل كنت ستصدقني إن أتيت وأخبرتك؟
لا إلياس فغضبك وقتها كان يتمكن منك..
يبدو أنه كان لابد من الانتظار كي تتيح لنا الفرصة للنضج والسيطرة على غضبنا"
اقترب منه أكثر مربتًا على كتفه مكملًا بهدوء وابتسامة :
-"وعندما يحين وقت العتاب يكون العقل والقلب على استعداد تام للنقاش.. حتى تعود العلاقة أقوى من السابق أخي"
لم يتحدث إلياس ولم يفعل شيء سوى أنه جذب أخيه الأصغر لأحضانه بقوة..
عناق طال انتظاره يحمل بين طياته الغفران والعودة.
يحمل الاشتياق والاحتياج كل منهما للآخر..
عناق الاتحاد من جديد
اتحاد لن يكسره شيء على الإطلاق.

فاق من ذكراه يضع كفه فوق كتفه يشد عليه بعزم وقال بتساؤل غير مستحسن :
-"أما زلت ترفض السفر معي نيار؟
أظنها فكرة سديدة حتى ترتاح من كل ما حدث!!
فالابتعاد أحيانًا يكون أفضل بكثير أملًا في استعادة الذات"
ابتسم لأخيه متنهدًا بقوة، ثم التفت إليه مجيبًا بدبلوماسية :
-"معك كل الحق في حديثك، لكنني ملك هذه المملكة لا أستطيع تركها والابتعاد في وقت كهذا"
نظر أمامه مرة أخرى مكتفًا ذراعيه خلف ظهره يتأمل المدى البعيد عند التقاء السماء بالأرض :
-"هناك الكثير من الأمور يجب إصلاحها هنا، يجب البحث عن أناس محل ثقة بحق لأكون مطمئن أثناء غيابي"
استدار له بابتسامة على محياه وأكمل بنبرة وعد صادقة :
-"أطمئن سألحق بك في القريب العاجل"
ابتسم إلياس وربت على كتفه عدة مرات بحنان وقال بنبرة تحمل كل معاني الثقة والفخر الأخوي التي اختفت طوال الخمس سنوات الماضية :
-"أثق تمامًا بك أيها المغوار أنك ستهتم بكل شيء.. وقصر الجنوب سينتظرك في القريب"
ضحك نيار ملقيًا بنفسه بين أحضان أخيه الأكبر وكأنه بحاجة إلى هذا العناق، ليبتسم إلياس بدوره يضم شقيقه بقوة مربتًا على ظهره بقبضته وحام الصمت بينهما تاركين لمشاعرهم تتحدث.
فالصمت في كثير من الأحيان أبلغ من الحديث!
**********

بعض الكلمات كرمي الأسهم
تخترق الجسد وتُدمي القلوب
وبعض الحروف كشرب الدواء
تداوي العلل وتشفي الجروح
فراقب ما يخرج من بين شفتيك
فالسهم الذي انغرس في جسد العصفور
كان غصنًا يحتمي به!

الخطأ لحظة يتبعها ندم كبير
كالغفوة تفيق منها على ضياع كل ما هو نفيس
وغلطته كانت غيرته، والغيرة في عُرف الحب نار مشتعلة في الصدور، حطبها الغيرة وماءها الثقة!
غضبه دفعها بعيدة، والصغيرة أجادت الهرب والاختفاء أيام طوال.. أقسمت أمامه أنه لن يرى وجهها بعد الآن وفعلت!
فبعد ما حدث وما مروا به حتى إعدام مأمون وما عُرِف عنه لم يدع مجالًا للشك أنها بريئة.
أحضر الجواري اللاتي سمعهن فأخبروه أنها كانت أوامره.
ترددت كلماتها في أذنيه لتطعنه مثلما فعل معها وتجعله يعض أنامله من الندم..
"مأمون لم يهدر كرامتي مثلما فعلت أنت"
خرجت زمجرة من أعماق جحيمه غاضبة منه، فصفعته جملتها الثانية وكأنها تضع الملح فوق الجرح..
"ليس من مقامك معرفة عاهرة تلقي بجسدها في أحضان الرجال"
قذف سيفه بعنف في الحائط فارتد صداه في المكان، ثم نادى الحارس يخبره أن يأمرها بالحضور وجلس ينتظر حتى جاءه الرد.. بالرفض. اندفع كعاصفة هوجاء وقد انتابه الغيظ من رفضها، وجدها في جناحها واقفة بثوبها الأبيض تشبه زهرة الياسمين الصغيرة وسط حقل الورود تجذب الجميع برائحتها.
انتبهت لدخول أحدهم فالتفتت تنظر له بعدم استيعاب في البداية سرعان ما تحول لغضب أخفته جيدًا أسفل نظراتها الباردة تسمعه:
-"لماذا لم تأتِ عندما أرسلت لكِ الحارس؟"
ابتسمت بغموض وانحنت تضع الخيوط التي كانت تغزلها وتقدمت منه بهدوء حتى وقفت على بعد خطوتين منه تسأله:
-"هل عدم حضوري هو ما أثار غضبك أيها الوزير أم رفض أوامرك؟"
نظر لها بتساؤل فأكملت بنفس الابتسامة التي كرهها:
-"لأنه إن كان عدم حضوري فأخبرتك من قبل أنه لا يليق بك الاقتراب من عاهرة."
أصابته في مقتل عندما رأت اشتعال مقلتيه غضبًا فلم تصمت وضغطت أكثر على الجرح النازف:
-"أما إن كان رفض أوامرك فأنا أعتذر يمكنك إخباري بما تريده أيها الوزير وسأفعله."
جذبها من مرفقها فاصطدمت بصدره وللعجب بقيت هادئة، جامدة، والأقسى باردة وهذا ما يرفضه.. أرادها تصرخ، تعنفه على ما فعله، فتحدث من بين أسنانه وأنفاسه تصفع وجهها:
-"لا تتعاملين بتلك الطريقة، فأنا لن أخرج من هنا حتى نسوي الأمر بيننا"
قوست شفتيها بعبوس ولاحت تعابير التفكير المصطنع على وجهها قبل أن تقول ساخرة:
-"لماذا؟
هل ظهرت براءتي أخيرًا؟"
ضغط على ذراعيها حتى كادت أصابعه أن تخترق لحمها وهدر بها معنفًا:
-"وســام.. كُفي عن برودك وأستمعي لي فأقسم أنني لن أتركك حتى تعودين لسابق عهدك معي، هذا حقي."
صرخ في نهاية حديثه، فدفعت صدره بعنف وعادت خطوة للخلف بعد أن انقشعت قشرة البرود وطاف الغضب جليًا على وجهها:
-"لا تصرخ عليّ، أنت فقدت هذا الحق عندما أهنتني، فقدته عندما عاملتني كعاهرة رخيصة"
-"أنا لم أقل ذلك."
قاطعها فجابهته بقوة:
-"لا داعٍ لقولها، أحيانًا النظرات كفيلة لقول كل شيء."
استدارت تبتعد فجذبها لأحضانه بقوة مسيطرًا على حركتها الرافضة وضرباتها التي لن تؤثر به.
دفن رأسها في صدره وأحاط خصرها يطبع قبلات متفرقة باعتذار صامت على رأسها، فبكت بحرقة لم تستطع فعلها طوال الأيام الماضية وهي تضم جسدها إليه.. تهرب منه إليه!
ضغط على جفنيه بقوة وقهر من نفسه ثم نظر لنقطة واهية في الفراغ هامسًا:
-"ماذا ستشعرين إن سمعتِ بمحض الصدفة أنني كنت برفقة فتاة في غرفتها في منتصف الليل؟"
شعر بجمود جسدها فضغط عليها أكثر وأضاف:
-"هل تتخيلين نيران قلبي وأنا أستمع أنه كان معك؟"
أمسك ذقنها بين سبابته وإبهامه يرفعه إليه ثم أحاط جانب عنقها يستشعر نبض عرقها النافر أسفل كفه ، زارعًا عيناه في بؤبؤيها هامسًا:
-"هل تتخيلين شعوري الآن عندما عرفت أنني لم أكن هنا وقت حاجتك لي؟"
لامس فكها بأرنبة أنفه مغمضًا عينيه يستنشق عبقها، صعودًا إلى وجنتيها، فشعر بكفيها يقبضان على عضديه وأنفاسها تتثاقل من تأثيره عليها ، فاقترب من أذنها هامسًا بصوت ثقيل منفعل:
-"أنا أغار على ما هو لي، أحترق على ما هو ملكي.. وأنتِ كل ما أملك، فلا تلوميني على غيرتي وسامي"
أعاد عينيه لخاصتها وقد ازداد انفعال مشاعره في عينيه، مشاعر صعقتها قوتها وقال بصوت لا مجال للجدال به:
-"أنا أحبك، أخذتكِ حبيبة وستكونين زوجتي فلن أقبل بغير ذلك بديلًا"
اتسعت عيناها تنظر له متعجبة، مصدومة، مأخوذة بحديثه!
تحررت منه مبتعدة لكنها لم تقطع التواصل البصري بينهما، ضحكت من بين بكائها تهز رأسها يأسًا:
-"أتعلم أنني كنت أنتظر عودتك حتى أخبرك عما فعله معي؟
ليس لأي شيء فقط لأنني لا أريد إخفاء أمر عليك، فقط لثقتي بك.. وأنت ماذا فعلت؟"
نظرت له بسخرية وعيناها استحال الغضب بهما إلى نوع من الخذلان واللوم جعلته كالميت الحي:
-"صدقت بضعة جواري عند اتهامي ولم يشفع الحب الذي تحدثني به عن شيء...
وهن نفس الجواري اللاتي صدقتهن عندما أثبتوا براءتي ولم تصدقني أنا."
اقتربت منه بجمود تطالعه بحدة تغرس سبابتها في صدره بعنف هامسة من بين أسنانها:
-"لذلك لا تتحدث بالحب وأنت لا تعرف شيئًا عنه أيها الوزير.. أنت لا تختلف عنه في شيء لكن الفرق أنني لم أرغب به يومًا أما أنت...."
صمتت تطلع في عينيه بصمت مشتعل تراقب حدقتيه التي يشتد سوادهما من الغضب، يعلم أن الآتي لن يسره لكنه ترقب:
-"لقد زهدتك.. لا أريد من يسن سيفه على رقبتي أنا بدلًا على من تجرأ وخاض في شرفي"
-"هل وصل بكما الحال لتغلقا عليكما بابًا واحدًا؟
أين الحياء يا عديمي الحياء؟!"
التفت الاثنان ينظران لسارية الواقفة ترمقهما بمكر وحاجب مرفوع، مكتفة ذراعيها أمام صدرها، يرمقانها بنظرات جامدة ونيران مشتعلة ولم ينتبه أحد لدخولها.
طالعها جاد بعدم مرح ثم التفت مرة أخرى إلى وسام يشير لها قائلًا دون خجل :
-"لقد اشتقت لها، وكان لابد من رؤيتها بما أن الصغيرة تجيد الاختباء جيدًا"
عقدت حاجبيها بعدم فهم تحيل نظراتها بينهما، تجد وسام جاحظة العينين ترمقه بدهشة ممزوجة بغضب، وجاد يبادلها النظرات بتحدي واضح للعنان ، لتتساءل :
-"ما الأمر أنا لا أفهم شيئًا؟!"
فنطق بآخر شيء توقعته وسام بعيدًا كل البعد عن مجرى حديثهما :
-"كنت أخبرها أنها ستسافر معي الليلة قبلك أنتِ وإلياس حتى تشرف على تجهيزات القصر بنفسها"
شهقت بقوة من المفاجأة التي فجرها تزامنت مع اتساع عينها بذهول!
هما لم يتفقا على هذا!
هذا لم يكن مجرى حديثهما!
ضغطت على فكيها بقوة وغيظ قابضة على طرفي ردائها، تنظر إلى سارية التي ترمقها بتعجب ثم جاد الناظر لها بتوعد أن تنطق بغير هذا ولسان حالها يأتي بكل أنواع السباب واللعنات توجهها إليه.
تركهن وخرج عازمًا أنهما بمجرد الخروج من هنا سيترك الماضي ينحدر هنا، وهناك في أرضه سيجعلها تنسى كل ما فعله، سيحول حزنها لسعادة.. ستكون له رغمًا عن أنفها ورأسها الصلب.
يسير في الرواق بخطوات غاضبة من نفسه أكثر منها على ما وصل إليه الحال بينهما!
توقف على صوت سارية تناديه وعلى وجهها إمارات التساؤل وعدم الفهم بعد أن فشلت في معرفة الأمر من وسام.
-"ما الأمر جاد؟
أشعر أن هناك شيئًا يحدث بينكما لا أعرفه"
-"لقد أحزنتها"
نطق بها مصاحبة بتنهيدة يائسة عقدت لها حاجبيها بتعجب أكبر :
-"لماذا؟"
هو رأسه بقلة حيلة :
-"لا يهم.. صديقتك رأسها صلب لكنني أعلم كيف سأتعامل معه"
احترمت رغبته في إبقاء الأمر بينهما فتنفست بعمق واقتربت منه :
-"إن كان الأمر جليّ وسبب لها الحزن فأعلم أنك ستبذل مجهودًا كي تراضيها، لكن الجميل أن قلبها رقيق وتحبك ومن يحب يسامح"
أومأ لها بابتسامة واثقة أن هذا هدفه.. ليصدح صوت الخيل من الساحة القريبة منهما جعلها تقفز مكانها من الاضطراب ممسكة بكتفيّ جاد.
ومن سوء حظهما قد غفلا عمن رآهم من أعلى أثناء مروره بأعين مشتعلة من الغيرة على من تخصه!
همس إلياس لنفسه و عيونه اشتعلت من فعلتها وتلقائيتها مع جاد:
-"كيف تعانقه بهذه الطريقة؟
أناسية من تكون؟"
انتفض الحارس من خلفه على صوته الحاد والهادئ كأنه خارج بئر عميق، يستند على حافة الشرفة بكفيه بقوة حتى ابيضت مفاصله وعيونه تتطلع لهذا الثنائي :
-"أخبر الملكة أنني أريدها في التو واللحظة في جناحي"
★★★

الغيرة تشبه الماء للوردة قليلهُ ينعش وكثيرهُ يقتل
الغيرة قاسية كالقبر، التقاء صوت العاطفة بصوت العاصفة.
دفء القلوب والنغمة التي يعزفها المحبين على أوتار الفرح وشمعة الوجود.
حرب من السهل إشعالها لكن من الصعب إخمادها.
فهي لا تولد بل تقتحم القلب دون سابق إنذار ليخطو أولى خطوات في طريق العشق.

وصلت إلى جناحه فوجدت الحارس يفتح لها الباب قبل أن تتحدث كأنه يعلم بقدومها!
توجس قلبها بحذر ثم ملأت رئتيها بالهواء وخطت إلى الداخل تلتفت حولها تتأمل الجناح.
فراش كبير في المنتصف ملتصق بالحائط تحيطه الستائر.. شرفة كبيرة في مقابله يوجد بها العديد من الأرائك وطاولة دائرية بينهما، وأرائك أخرى بمحيط الغرفة ووسائد منتشرة على الأرض بطريقة جميلة، والعديد من المشاعل المثبتة على الحوائط.
رفعت حاجبيها بإعجاب، وسارت تكتشفه غافلة عن الواقف في جانب مظلم يتأملها، كأنها تناست سبب وجودها هنا وبدت كالطفلة.
أنفاسه ثقلت وعيناه غامت نظراتها، فلم تشعر بخطواته التي تحركت نحوها بخفة فهد تجاه فريسته حتى توقف خلفها يكاد يلامسها وأنفاسه تلفح عنقها.
انتفضت بذعر وارتفعت شهقاتها من دقات قلبها التي تسارعت بقوة ثم استدارت له، أحاط خصرها فاستندت بكفيها على صدره بعفوية لتقول باضطراب وأنفاس لاهثة عندما وجدته يدفن وجهه بتجويف عنقها :
-"إلياس.. إلياس ماذا تفعل؟
ثم لماذا أرسلت لي؟"
تحركت شفتاه على عنقها فأغمضت عينيها دون إرادة متأثرة، ليخرج صوته عميقًا :
-"ما الخطأ فيما أفعله؟
زوجتي معي في جناحي، هذا أنسب مكان ليرى الزوج زوجته"
تنهد بعمق يحرك أنفه على طول عنقها وشفتاه تطبع قُبل صغيرة فوقه، وهمس بنبرة مغوية :
-"لقد اشتقت لكِ أيتها النارية!"
قبضت على كتفيه بقوة من شدة تأثرها وحاولت دفعه قائلة بخفوت :
-"إلياس ماذا بك؟
أبتعد أرجوك ما الذي تفعله.. هذا لا يصح؟"
أثارت غيرته وحنقه بكلماتها..
تنفر مما يحق له في حين تعطيه لآخر بصدر رحب!
تحاول الابتعاد من بين ذراعيه في حين ألقت بنفسها بين ذراعيّ جاد منذ قليل!
جذبها بقوة لصدره، يده تشتد على خصرها والأخرى ارتفعت تثبت عنقها، اشتعلت عيناه من الغضب هامسًا بحدة :
-"ما هذا الذي لا يصح أيتها الملكة؟
وجودك معي أم عناقي لكِ؟
لا يصح ذلك مع الشخص الوحيد المباح له فعل أي شيء معك.. أي شيء يخطر على هذا الرأس العنيد"
لامس جانب رأسها بسبابته يراقب حدقتيها التي تتسع بدهشة ليكمل بصوت أعلى وأكثر حدة :
-"أم أنه مباح فقط لجاد.. العناق والضحك بمنتصف ساحة القصر غافلةً عن أنكِ الملكة هنا.. وزوجتي؟"
طالعته بأعين متسعة، تهز رأسها بعدم فهم وذهول من ردة فعله وثورته، تعود برأسها للخلف تنظر لوجهه هاتفة بنوع من الانفعال يخفي توترها من هذا الوضع :
-"ما هذا الهراء إلياس؟
أنت تعلم مكانة جاد لدي، ورؤيته بعد عودته من السفر دفعتني إليه، فما الداعي وراء كل هذا الغضب لا أفهم؟"
ساد الغموض في نظراته واشتدت نيران حدقتيه لو انصبت فوق رأسها لأحرقتها.
لامس وجنتها براحته يدلكها بإبهامه، فنظرت لها بتوجس وحاجبين معقودين، ليقول بنبرة تسمعها منه للمرة الأولى يملأها التملك والغيرة :
-"الداعي أنكِ زوجتي وملكة البلاد"
قرب وجهها منه يثبت عيناه في عينيها هامسًا :
-"زوجتي.. زوجة إلياس الذي لن يقبل أن تعانق زوجته آخر حتى لو كان أخيها..
إلياس الذي يغار على كل من هو له، يغار على ممتلكاته فما بالك زوجته أيتها النارية!"
يغار من النسيم إذا سرى بأريج عرفها خشيةً من ناشق
غيرته نار وقلبه حطب وما إن لمسته حتى احترق
ارتسمت علامات الذهول على وجهها بوضوح تبتلع ريقها بصعوبة، تحيل نظراتها بين عينيه السوداء تهمس بصوت يكاد يسمع :
-"إلياس أنت ...."
-"أغــار"
هتف بها يستند بجبهته إليها وصدره يرتفع وينخفض بشدة من قوة أنفاسه، شعر بانتفاضتها بين يديه وشهقتها خرجت من بين شفتيها وكادت أن تتحدث، ليفعل آخر ما كانت تتوقعه.
قبّلها!
التقط كلماتها في أول قبلة بينهما بث فيها حبه وشوقه الذي تأكد أنه يحمله تجاهها منذ أن رآها تتعامل بتلك العفوية مع وزيره، إن كانت الغيرة الوجه الثاني للحب فهو عاشق متيم في محرابها.
فصل نفسه عنها ليشعر بجسدها متصلب من مفاجأته، مغمضة العينين كالمخدرة وشفتاها متفرقتان.
ابتسم من تأثيره عليها فهمس وعيناه تجول بين عينيها المنغلقتين وشفتيها، وأنامله تغللت خصلاتها:
-" أنتِ لي سارية، ملكي وحدي.. كل جزء صغير من جسدكِ ملكي، كل نبضة تخرج من قلبك لي..
عناقك، لمساتك، عفويتك، ابتسامتك أصبحوا ملكي أنا.
منذ أن عُقد قراني عليكِ وكل ما يصدر منكِ أصبح حقي أنا.. أنا فقط يا سارية، فلا تحاولين التهرب مني فأنتِ لن تتمكني من هذا مهما حاولتِ"
لينهي حديثه بهمس أمام وجهها وأنفاسه تلحفها بحرارة، ثم التقط شفتيها في قبلة أكثر عمقًا يشوبها قليل من العنف كأنه يعاقبها عما فعلته به والنار التي اشعلتها بقلبه.
انتفضت وحاولت دفعه مذكرة نفسها أنها تمقته وأن وجودها هنا خطر لكن كل ما يأتي في عقلها أن هذا الشخص هو منقذها، هذا الشخص يغار.. ومن يغار غير الحبيب!!
ضغطت على عينيها بقوة واستسلمت بحياء عندما اعترفت لنفسها أنه زوجها!
لا مهرب منه إلا إليه.. مهما حاولت تجد نفسها تسقط بين ذراعيه!
شعر بحاجتها للهواء فانفصل ببطء عنها، يحيط وجنتيها بكفيه وجبهته مستندة إليها، شعر بها تلتقط أنفاسها بصعوبة تنظر لأسفل ليهمس لها :
-"أنظري إليّ"
لم يتلقَ أي رد منها سوى هزة رأسها بالرفض وقد شعر بكفيها يتمسكان بكتفيه بقوة مكورة ثيابه بين أناملها، جسدها تخدر، حركتها تسمرت، استندت بجبهتها أسفل رقبته فصفعت أنفاسها الحارة جلده كأنها حمم تخرج من بركان مشاعرها التي أشعلها! حرك إبهاميه على خديّها وأعاد جملته بهمس حنون:
-"سارية أرفعي نظرك إليّ"
على الرغم الخجل الذي اعتمرها، والدماء التي سرت في وجهها لكنها امتثلت لأمره ونظرت له، فوجد عينيها لامعة بدموع التأثر التي تكونت فيها، فابتسم بحب لتلك الطفلة عندما لم يجد النفور فيها بل التقبل والرضا، فضمها بين ذراعيه وهمس بأذنها :
-"لا تخافي مني سارية.. لا يوجد أحد يستطيع حمايتك في هذا العالم بعد الله غيري، ولن يخاف أحد عليكِ مثلي"
انتظر أن تتحدث بأي شيء، فابتلعت ببطء مذهولة من نفسها، متى كانت بهذا الاستسلام؟
أين ثورتها واندفاعها المعروفة بهما؟
لماذا تقف صامتة أمامه تتقبل كل ما يقوله بصدر رحب.. دون غضب أو حنق؟!
رفعت نظرها إليه ، لتجد نظراته حنونة، متفهمة، محبة.. فأعادت خصلة من شعرها خلف أذنها وخرج صوتها بصعوبة :
-"أعلم أنني تماديت في عفويتي لكن قلقي ما دفعني لذلك"
سعلت قليلًا تتنهد كمن تبث القوة لداخلها فشجعتها نظرة الحنان والحب في عينيه فابتسمت هامسة :
-"أنا لا أخاف منك إلياس بل أثق بك.. لكن أقسم لم أفعلها عمدًا، الأمر أنني لم أعتد بعد على ذلك، لهذا سأنتبه إلى ما يصدر مني، لا أريد لأحد أن يستغل شيئًا ضدي يكفيني ما حدث"
أهذا اعتراف منها أنها تقبلت فكرة غيرته عليها؟
أتعترف بهذه الكلمات أنها تتقبل حديثه معها ولم تغضب؟!
ابتسمت عيناه قبل شفتيه، وضمها طابعًا قبلة فوق جبينها تقبلتها مبتسمة.
تلكأت شفتاه فوق بشرتها بل شعرت بها تهبط ببطء على وجنتها، فتدفقت الدماء أكثر وشعرت بالحرارة تشتعل بها فعضت على شفتها السفلى واستطاعت الابتعاد خطوتين للخلف دون النظر إليه مفكرة في حُجة للهرب، فإن تبقت لحظة أخرى لا تدري ماذا سيحدث بعد!!
تذكرت أمر ليان وما أخبرتها به هذا الصباح فقالت بخفوت تعيد خصلاتها للخلف :
-"أنا سأذهب لرؤية ليان.. أخبرتني أنها تريد مشاركتي معها في مساعدة المحتاجين، وأظن أنني لا أريد الاكتفاء بمملكة الشمال فقط ، فسأقوم بذلك في الجنوب أيضًا"
أخفى ابتسامته بصعوبة وقد فهم محاولاتها للهرب، فأعطاها ما تريد فالطريق بينهما سيتخذه بتروي :
-"فكرة رائعة سارية.. وبخصوص الجنوب اعدّي نفسكِ لأننا سنسافر بعد ثلاثة أيام"
عقدت حاجبيها بدهشة من سفرهما بهذه السرعة!
هي علمت بالأمس بأمر السفر لكنها لم تعلم متى!
ليقف أمامها مبتسمًا وقال :
-"آن الأوان ليتعرف أهل مملكتي على ملكتهم"
شبح ابتسامة ظهرت على شفتيها قبل أن تومئ له وتلتفت خارجة من الجناح، لكن قابلها جاد يستعد للدلوف، فأفسح المجال لها ودلف إلى الواقف في انتظاره.
★★★★

الوطن.. يشبه قصيدة شعر في ديوان الكون
جدران الزمن الذي كنا ندون عليها عباراتنا البريئة لكل ما يمر بنا
الحب النقي الذي لم يشوبه شائبة ، مزروع في القلب لم يُصنع
حياة ، حضن ، شريان ، عين
الوطن كالقبلة على جبين الأرض!

بدأت رحلة العودة بعد وداعهم لنيار وليان على وعد منهما بالزيارة في أقرب وقت، كان جاد سبقهم إلى القصر برفقة وسام حتى يشرفا على التحضيرات.
وصل الموكب على مشارف القصر ليتفاجأ إلياس بالحشد الكبير المتجمع في الساحة الشاهقة يمتد إلى مسافة كبيرة خارج القصر، التفتت له سارية بدهشة فابتسم بفخر عندما فطن إلى ما يحدث، فلقد انتشر خبر عودته ليكون هذا رد فعل رعيته وترحيبهم به.
ارتفع الهتاف باسمه والدعاء بالعمر المديد لهما ما أن اقترب من بوابة القصر، تفرق الجمع على كلا الجانبيين حتى يتثنى لهم الدخول.
هبط ومد يده إلى سارية يساعدها فخطت بثوبها الحريري بلون الفيروز الأزرق يهبط بسلاسة على جسدها.. وشاحها الشفاف مثبت بتاج ماسي رقيق يخفي خصلاتها.
ازداد الهتاف هذه المرة باسم سارية وتمجيدها، فاندهشت من الاستقبال الحافل لها لتجده هبط على أذنها هامسًا :
-"أنا حريص على أن يعلم رعيتي كل شيء يحدث في مملكتهم.. فهل تظنين أنني سأنسى أن يعلموا عن زوجتي؟!"
ابتسمت بسعادة وتقدمت معه للداخل حتى صعدا إلى الشرفة العالية التي يتحدث منها دائمًا إلى شعبه، توقفت فجأة كي تتركه يدلف بمفرده لكنه لم يمهلها الفرصة جاذبًا كفها معه لتقف بجانبه.
رفع يده يحيي رعاياه مبتسمًا بفخر بهم، ليهدأ الصخب رويدًا رويدًا فهتف :
-"لا أستطيع وصف شعوري بالراحة بعد مجيئي..
شعوري بالسعادة وأنا أراكم أمامي وأسمع هتافاتكم..
حقًا أنتم فخر لي سأظل أعتز به طوال حياتي"
ارتفع الهتاف بقوة باسمه والدعاء له، ليتقدم أحد شيوخ المملكة ينحني باحترام طالبًا الحديث فسمح له :
-"حمدًا لله على عودتك سالمًا إلينا يا مولاي..
المملكة اليوم عيدها عيدين..
عيد برجوعك إليها بعد كل هذه المدة، وعيد بزواجك الذي ندعو الله أن يكون زواج خير وسعادة لكما"
ابتسم بحبور والتفت لسارية يجذبها بالقرب منه، ليهتف قائلًا :
-"أدامك الله يا شيخ أحمد..
هذه سارية ابنة الشيخ بدر الدين ملكة هذه البلاد وزوجتي"
نظر لها بعشق فاض به وأكمل :
-"زوجتي الأولى والأخيرة"
طالعته بقوة غير مصدقة ما قاله!
يعلنها صريحة أنها ستكون الوحيدة في حياته!
يتخلى عن حقوقه في اتخاذ أكثر من زوجة ككل الملوك ويكتفي بها!
شعرت بنفسها تضغط على كفه دون وعي تبثه سعادتها اللاإرادية التي تدفقت بداخلها من حديثه، فابتسم لها بحنان ونظر مرة أخرى للحشد مكملًا :
-"أتعهد لها أمامكم أنني لم ولن أتزوج غيرها ما حييت"
ازداد الصخب والهتاف بسعادة كبيرة متمنيين لها الخير والفرح ليهتف مرة أخرى قبل يدخل :
-"بما أن الزواج لم يتم هنا، ستقام الاحتفالات في المملكة لمدة أسبوع بأكمله"

سارية في البلاط الملكي "كاملة" حيث تعيش القصص. اكتشف الآن