الفصل الأول : الأنثى المشؤومة

2.6K 69 28
                                    

صرخ الشيخ عبد القادر بأعلى صوته و هو يضرب زوجته فاطمة لاطما وجهها الأسمر بقبضات كفه الغليظة و راكلا بطنها المنتفخ مرددا و هو ينظر الى الاعلى كالمجنون :

_سوف تكون ولادة مشؤومة ، قلت لك ذالك ، انا لا أملك مالا كي أطعمك و الاثنا عشرة الاخرين، قلت لك لا اريد ان يصل العدد الى ثلاثة عشر ، لم تسمعي كلامي ايتها البلهاء ، لا أريده سواء كان ذكرا او أنثى،سوف أقتله ، اقسم بالله العظيم سوف أقتله و اقتلك معه .

انكمشت فاطمة و الدماء قد غطت وجهها المنتفخ، الاطفال كانو يبكون مستنجدين بالجيران و الاقارب، مخاطهم إختلط بدموعهم و براءتهم برزت في صوت الرحمة الذي انطلق من حناجيرهم، اكبرهم كان عمره خمسة عشر سنة ، لم يقو على الدفاع عن أمه ،فقط أخرج أخوته الصغار و ارسلهم لطلب النجدة .

الشيخ عبد القادر بلحيته الرمادية المبعثرة و شاربه الأسود المتآكل، جلس يفكر واضعا رأسه الغليظ بين ركبتيه و يديه متدليتين من فوقهما، قامته الطويلة لم تضفي للحدث اي طابع رومانسي، كان مثل الوحش المتأثر، طأطأ رأسه أكثر مما كان عليه و جأش بالبكاء و النحيب اكثر من فاطمة ، لم يكن الامر مفهوما ، هل هو ندم ام امتعاض ، ام شفقة على زوجته التي لم يضربها قط سلفا.

كانت فاطمة تنظر إليه بعين المُحبة و ألم المظلومة ، كان يعلم انها لا تملك سبيلا لمنع الحمل ، و حذرته كثيرا من ذالك ،لكنه كان يضاجعها في كل مرة متناسيا كلامها، الان هي في شهرها التاسع و لا تعرف لماذا غضب من هذا الحمل في اخر مراحله، رغم أنه لم يناقشها في الموضوع ابدا ، حاولت ان تعرف سبب قلقه و عصبيته فكان الجواب لكمات على وجهها و ضرب فسب و قذف ، لم تره على هذا الحال أبدا ، فهو الشيخ الذي يضرب له ألف حساب قبل الحديث معه ، انه امام مسجد القرية و شيخ قبيلة السامرية .
انتفض من مكانه و كأنه سمع صوتا يناديه، جحظت عيناه للأعلى و خرج من المنزل مهرولا ثم مسرعا و هو يصرخ بأعلى صوته ، تبعته فاطمة و هي تبكي من شدة ألمها و حزنها على ما تراه عيناها الذابلتان اللتان لاطالما اغريتا الشيخ عبد القادر قبل ان يتقدم لخطبتها..فقد رفضه والدها عدة مرات و لم يفقد الأمل إلى أن صارت زوجته بعد مضي ثلاث سنوات من انتظاره ، لقد كانت لا تزال طفلة آنذاك تستمتع باللعب مع أقرانها، كان عمر عبد القادر عشرون سنة و هي اثنا عشر سنة، كانت مميزة بين الأطفال ، تبدوا أكثر اكتنازا إذ ثدياها سبقا عمرها الصغير، و عيناها كانتا جميلتان لدرجة أن كل من يراها يتغنى بلونهما العسلي الفاتح ،لا أحد من أطفالها يشبهها ، كل اولاد فاطمة عيونهم بنية داكنة لا تسر الناظرين ، ورثوا ملامح والدهم غير الوسيم .

بدأ وجع الولادة يعارك فاطمة و هي تصرخ على ابنها البكر محمد طالبة منه أن يذهب إلى جارتهم عائشه ، ذهب محمد يسابق الريح ناحية منزل جارتهم الذي يبعد عنهم كيلومترا تقريبا ، و لكن خوفه من أن يعود والده إلى المنزل سيطر عليه و طارت دموعه يمنة و يسرة و هو يدعو الله أن لا يعود .

إنها الصرخة الأولى المتقطعة لرضيعة غطى سائل لزج جسدها الهزيل ، إنها سكينة كما حلمت بذالك فاطمة ، انها الأنثى الوحيدة وسط اثنا عشرة ذكرا، كانت فرحة فاطمة غير مكتملة لأن آلام الضرب مازالت على وجهها السمح و زاده ألم الولادة شحوبا ، أكملت الجارة مهمتها و فصلت الحبل السري عن موضعه ،فتركت لسكينة الحرية في تحريك قدميها و هي تحاول اخراج الصرخة الثانية و الثالثة و الرابعة الى ان ضحكت فاطمة و جارتها مندهشتان من اصرار سكينة للانتفاضة من اجل جرعة حليب أولى ، فقالت فاطمة مبتسمة و دموعها مازالت تحرس خديها :

- شديدة تبارك الله ، أول واحدة من ولادي كتغوت بهاد الجهد ، تقول عندها عام ماشاء الله.

وافقتها جارتها الرأي،و لما لا و هي من شاركت في أغلب ولاداتها. وضعتها على صدرها و تركتها تأخد حقها من الزاد ، رغم ان صاحبته مكلومة متعبة مريضة و مصابة ، لكن قلب الأم لا يعلى عليه ، تعطي رغم ضعفها و تسمح فتسامح فتخضع و تركع إن كان المحتاج طفلها .
عائشة لم ترد ان تفتح معها موضوع الجراح و لا ان تغير فرحتها، و لكن علامات الاستفهام كانت بادية على محياها ، بل و يداها كانتا تتجنبان لمس الأماكن المزرقة،الى ان تكبدت عايشة العناء في القيام بمهمتها كالعادة ، ارادت ان تخرج عن صمتها و سألت فاطمة عن زوجها و لما هو ليس بموجود كما العادة عند أي ولادة ، فأجابتها فاطمة دون تفكير ، بل و انهمرت دموع فاطمة قبل أن تتحرك شفاهها الملطخة بالدماء، و جأشت بالبكاء بمرارة مظلوم مقهور و قالت لها بعد أن وضعت يدها اليمنى على رأس سكينة مداعبة ظهرها :

-ضربني ضربني ضربني حتا خلا حالتي كيف راكي تشوفي....و بعدها خرج ، مشا،ما عرفت لا علاش ضربني و لا علاش خرج.

سكتت لبرهة و كأنها تذكرت شيئا غاب عن فكرها و استرسلت.

- و لا عرفت علاش جاتني الولادة اليوم بالضبط و لا علاش ما بغاش هاد الولادة .

كانت ملامح عائشة تتغير من متفاجئة لحزينة الى ممتعضة الى متأسفة و كانت كلها تعابير حقيقية ، لان زوج فاطمة معروف بطيبته و حبه الكبير لزوجته و أولاده، لن يصدق أحد ما ترويه فاطمة لولا أن عائشة رأت بأم عينها ما حل بها ، و ما سمعته من كلام متقطع بين الاطفال من شكاوي و دموع لم تبرح تلك الوجوه البريئة، و لا تلك الاواني المبعثرة في كل مكان و الزجاج المنكسر ، و ذالك الاناء الفخاري الملطخ بالسواد (بوربح) المنشق لنصفين.

منزل الشيخ عبد القادر منعزل عن باقي منازل اهل الدوار ، شيده بالقرب من المسجد الذي يبعد خمس كيلومترات و اكثر عن القرية ، قرر بناءه لكي يحرس المسجد من السكارى و المدمنين الذين كانو يحتمون داخله ليلا و يمارسون رذيلتهم فيه ، شياطين كانو في صورة انسان ، كان الشيخ عبد القادر يجد قنينات خمر مترامية متناثرة قرب جنبات المسجد ، و احيانا يجدها داخله ، لهذا قرر و اهل القرية ان يقطن بالقرب من الجامع ، وقد تم تشييد المنزل المتواضع بعد ان ساهم اهل القرية كلهم في وضع لبناته ....كانت بابه واسعة نوعا ما ، و عند دخولك تجد باحة صغيرة فيها زرابي و لحاف متواضعة من اجل تحفيظ القران لأطفال القرية ، و بعدها تجد بابا حديدية صغيرة لونها بني ، عند وضع اول خطواتك بعدها تجد على يمينك غرفتان وعلى يسارك غرفة واحدة ، و في الواجهة مطبخ معزول بحجاب ازرق لعزله عن وسط المنزل،حيث وضعت فاطمة طاولة على الأرض و سرحت زربية بلاستيكيه و حددت اطرافها بألحفة غليضة ... ذالك كان مكان الأكل.

بأي ذنب عُذبت؟Où les histoires vivent. Découvrez maintenant