الفصل الثالث : الوجهة السرية

792 40 10
                                    

ضلت الشاحنة تمشي بسرعة إلى أن توقفت في مكان خال ، خافت فاطمة و ضنت أنهم سوف يقتلونها و أطفالها هنا ، غطت سكينة بكف يدها و بعدها طلبت من محمد أن يستفسر عن سبب الوقوف بسرية، محمد كان أكبر من سنه دائما ، هكذا علمه الحاج عبد القادر ، فهو رجل الأسرة بعد والده، يقوم بدوره في غيابه، كان يوصيه على أمه و إخوته دائما ،كان يعطيه مهاما صعبة كي يشد عظمه و أدخله في مجموعة العمال التي يستعين بها الحاج رضوان ، لم يدخل المدرسة و أيضا بقية اخوته، فقد كان علمهم ينحصر في حفظ القران و الأحاديث النبوية ، كان يوصيهم بفعل الخير و اماطة الأذى عن الطريق و الناس و الحيوانات و الطبيعة ،زرع بداخلهم حب الوطن، ذالك الوطن الذي لم يفكر فيهم غالبا ،لكن كان يردد على مسامعهم أن حب الأوطان من الإيمان ، لكن لم يهيئهم لهذه الكارثة التي يمرون بها ، لم يعلمهم أن الناس تتغير مثل تغير البحر ، تارة جزرا و تارة مدا ، لم يدرك أن الحياة صعبة جدا لهذا الحد، أصعب من الجوع و العطش و الفقر و البرد ، أصعب بكثير مما كانوا يمرون به داخل بيتهم المتواضع ، فقد كانت تمر بهم اوقات لا يجدون القوت الكافي لإشباع بطونهم ، و اوقات يصعب عليهم ايجاد الماء لجفاف آبارهم، و غالبا ينامون و هم يسمعون قطرات المطر تتساقط قرب انوفهم ، ينكمشون في بعضهم كي لا يشعرون بالبرد الذي كان ينال منهم ، و انعدام المواصلات كي يذهبو الى اقرب سوق و الذي يبعد عشرة كيلومترات لكي يبتاعوا حاجياتهم . كل هذه المشاكل تعودوا عليها و لكن ما يحسه الآن من انعدام الأمان و الخوف من المجهول هو ما لم يكن يعرفه، احساس صعب جدا ، جسده اصبح باردا  رغم انه كان يرتدي كل الملابس التي كانت متواجدة عنده ، انه برد ينبع من قلبه ، من داخله .
ضل محمد ينصت لحديث الرجلين ، سائق الشاحنة و شخصان معه، كلهم غرباء عن القبيلة ، إلتقط بعض كلماتهم التي تدل انهم ينتظرون شخصا اخر ، سمع اسم الحاج رضوان و اطمأن قلبه ، عاد الى والدته و كله رغبة ان يريح قلبها و باشرها الحديث بأدب و محبة :

- انهم ينتظرون على ما اظن الحاج رضوان .

صرخت فاطمة في وجهه قائلة و هي تحاول ارضاع سكينة مغطية ثديها باللحاف:

-تضن؟ تضن؟ نحن في حالة لا تتحمل الضن ، استمع لكي تؤتيني باليقين .

عاد محمد ادراجه و هو ينصت اكثر فاكثر، لربما لو طُلبت منه أمنية في تلك اللحظة لطلب أذني قط كي يسمع بدقة، خصوصا انهم كانوا يستمعون لاغنية شعبية اختلطت بحديثهم و دخان سجائرهم. لكن حاول اكثر فأكثر و سمعهم يقولون بتأفف :

-لقد تأخر كثيرا ، يجب ان يسدد ثمن الانتظار.

عاد محمد الى والدته و هذه المرة اكثر يقينا من قبل ، و ردد عليها ما جال في سمعه فنهرته للمرة الثانية قائلة و قد انتهت من ارضاع سكينة :

-ينتظرون من ، سبق أن قلت هذه الجملة ، لكن من ؟ من ؟

قبل. أن يجيبها سمعا صوت سيارة تقترب من المكان ، لقد كانت سيارة الحاج رضوان رباعية الدفع ، اطمأن قلب محمد و لكن فاطمة ضلت خائفة مما سيقع ، أصبحت لا تثق في أحد ، طلبت من محمد ان يستبصر السيارة ان كان فيها الحاج رضوان وحده او معه اشخاصا اخرين ، و في تلك اللحظة لربما تمنى ان يملك عيون زرقاء اليمامة ، لان السيارة كانت أبعد من ان يرى ما بداخلها ، انتظر اقترابها أكثر و وقف لكن فاطمة بحركة سريعة جرته اليها و قد نال الخوف منها و طلبت منه ان يبقى في مكانه. ،
اصبحت تشك في ضلها ، ما فعله معها اهل القبيلة تركها تنتظر المجهول بخوف، تنتظر عضات القريبين ، ممن نسوا فضلها عليهم ، زوجة المقتول نسيت كم سهرت معها في اوقاتها العصيبة و هي تلد طفلها حمزة ، فقد كانت بين الموت و الحياة عندما قررت فاطمة ان تضل بجانبها و هي تحضر لها مشوربات باعشاب كي تقوي مناعتها، عندما كانت تنقص من زادها لإطعامها طيلة السنة كي تسترد عافيتها ، عندما كانت تروي لها قصصا من نسج خيالها لتساعدها على النوم ، ماذا جنت منها ؟ سب و قذف و تهديد بالقتل. فاطمة فقدت ثقتها في الجميع . الان هي تنتظر ضربة قاضية اخرى تكسر ظهرها، ضربة لن تترك لها المجال ان تستعيظ، فهي تنتظر الموت و اطفالها و لكن فقط لا تعرف الطريقة .
توقفت السيارة و كان بداخلها الحاج رضوان فقط ،خرج مرددا جملته المعهودة "استغفر الله و لا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم" ، كانت بيده سبحته التي لا تفارق انامله و هو يحرك قطعها بسرعة الحدث الذي هو فيه ، أحيانا تنتقل أصابعه من قطعة الى قطعة ببطء و هو يتمتم ، و حاليا كانت تتحرك بخفة لتدل على ارتباكه و خوفه من شئ ما ، ركز محمد على الأحداث و هو يحاول الوقوف مميلا ركبتيه الى الأسفل كي لا ينتبه أحد له ، بينما فاطمة كانت ممسكة بسرواله منبهة له بعدم الوقوف بشكل مستقيم. ضل على ذالك الحال الى ان انبطح بسرعة و هو يكلم أمه بخوف ممزوج بفرحة :

- إنه آت ناحيتنا يا أمي.

قبل ان تجيبه فاطمة كان صوت الحاج رضوان واضحا و هو يطرق على باب الشاحنة بلطف ، و باشر حواره قائلا:

- سيدة فاطمة ، انا الحاج رضوان ، سوف أفتح الباب ، اريد ان اكلمك.

إجابته فاطمة و هي تثبت الوشاح على رأسها محاولة تغطية ما يظهر من شعرها ، و بحركة خفيفة ادخلت الشعيرات التي برزت من تحته ، دست صدرها باللحاف الازرق و قد غطت وجه سكينة هو الاخر و بعدها اجابت:

- تفضل يا حاج ، تفضل ، أتمناه خيرا .

فُتحت الباب و قد كانت لوحة فنية حزينة رآها الحاج رضوان ، ام مكلومة تجلس على مبسط الشاحنة و قدماها ممددتان، أطفالها اغلبهم نائمون ، بينما محمد كان واقفا و عيناه تنظر إليه و كأنه يقول انا رجل الأسرة . انا من يجب أن توجه لي الكلام .
كان في يد الحاج رضوان مغلف ابيض ،وضعه على حافة المبسط ، و بعدها دفعه باصابع يده و قال و هو يحاول أن يتجنب النظر الى عيون فاطمة احتراما لها :

- هذا مبلغ من المال قد تبدئي به حياتك الجديدة، ليس بكثير على اسرة كبيرة مثل أسرة الحاج عبد القادر ، لكنني لم أرد ان اخالف قانون القبيلة ، ما أفعله الان هو سري جدا ، ان عرفوا انني ساعدتكم فسوف يكون مصيري سيئ.

نظرت إليه فاطمة و عيناها تشكر تصرفه ، اقلها وجدت شخصا حن عليها وسط الذئاب ، جرت المغلف ناحيتها و وضعته في الجانب الايمن منها. و بعدها بدأت تركز في كلامه ، فكان يظهر انه يريد قول الكثير ، و بعدها استمر حديث الحاج رضوان:

-هؤلاء الرجال سوف يقلونكم الى منزل في الدار البيضاء، هو منزل صغير جدا و متواضع ، لقد سددت لكم كراء شهرين فقط ، الان جاء دورك كي تتكلفي بالبقية.

نظر الى محمد و طلب منه الاقتراب أكثر و بعد ان اقترب طلب منه ان ينحني ، شد عنقه بقبضة يده و قد قرب وجهه اليه اكثر و قال له بجدية :

- انت رجل الأسرة ، أعرف انك تستطيع ان تتكفل باخوتك و أمك ، اشتغل كي تعيلهم ، لكن اياك ان تقترب من الحرام ، الدار البيضاء لا تعترف الا بالرجال ، ان لم تكن فسوف تؤكل نيئا.

كلام الحاج رضوان ما زاد الطين الا بلة ، حاول محمد ان يخفي خوفه ، و اجابه بصوت رجولي و هو يداري عبرات عينيه التي كانت تتلألأ:

- حاضر يا حاج ، سوف افعل المستحيل من اجلهم .

فاطمة لم تقو على الرد ، بل تسللت فرحة في قلبها . قبل مجيئ الحاج رضوان لم تكن تعلم اين سوف تحط رحالها،كانت تضن انها سوف تترك في الشارع و اطفالها ، لم تكن تعلم المجهول ، لكن بصيص الأمل قد وجد طريقه داخلها . الحاج رضوان هو الاخر لم يكن ينتظر ردها ، فهو عهدها المرأة الخجولة التي لا ترفع عيناها لغريب و لا قريب . حاول اغلاق باب الشاحنة و قد تراجع محمد الى الوراء و بعدها دار حوار بين الحاج رضوان و الرجال المتواجدين. ثم انطلقت الشاحنة مبتعدة عن سيارة الحاج رضوان و عن القبيلة.
ساد الصمت من جديد ، و عادت فاطمة الى مخيلتها و هي تسترجع حوار الحاج رضوان و كل الأسئلة التي كان يجب ان تطرحها سلفا و لكن لم تقو على ذالك ، فهي الان تحس بالبرد و اطفالها ،فهل في ذالك المنزل أفرشة ؟

بأي ذنب عُذبت؟Où les histoires vivent. Découvrez maintenant