الفصل الثامن : مرور سنة

478 36 11
                                    

تم دفن عبد العزيز و القلوب كانت منكسرة على وداعه، خرج العديد في جنازته رغم عدم معرفتهم به، لكن اخبار الاسرة اصبحت ذكرا على كل لسان ( أسرة عبد الله الفقيرة ، زوجته فاطمة التي يتوجب عليها رعاية اثنا عشرة طفلا ، عبد الله مات بسكتة قلبية و انتقلت أسرته للدار البيضاء كي تعيش بعيدا عن ذكراه، فاطمة لا تستطيع ان تشتغل و تترك اطفالها في البيت ، محمد هو اكبر أخوته و كان يشتغل قبلا مع والده ، عصام و فريد هما ايضا يستطيعان العمل ، الاطفال الاصغر سنا لم يدخلوا المدرسة ، سكينة الطفلة المشؤومة .)

هكذا كانت تتردد الاخبار بين اهل الحي الذي تسكنه فاطمة و ايضا الاحياء المجاورة ، فاطمة لم تحب فكرة ان يقال على ابنتها انها مشؤومة ، كانت تنهر كل من يردد ذالك ، لكن كانت اجابات بعض النسوة قليلات الأدب المعروفات بالوقاحة بحجة الصراحة :

-انت من قلت ذالك .
-سمعت ان مجيئ سكينة سبب للأسرة مشاكلا مادية.
-يقال ان الرضيعة جاءت و جلبت معها الموت.

تتغامز النسوة فيما بينهن و تقفز احداهن لاظهار شجاعتها في الكلام جهرا :

-يجب ان ترقيها عند الشيخ الحسين ، فلربما هي ممسوسة .

كانت فاطمة تسمع حواراتهن و تتعوذ من الشيطان الرجيم ، لا تجيبهن في أغلب الأحيان ، تاركة المهمة للياقوت التي كانت تنهرهن و تطلب منهن السكوت و فض الاجتماعات التي لن تفيد الأسرة بأي شيء ، و كانت تأمرهن بمساعدة الأسرة فعلا و ليس قولا ، ابتداءا بجلب اواني المطبخ و الأفرشة و الملابس للأطفال ، كن يمتثلن لامرها فتجدهن يأتينا محملات بما زاد عن حاجياتهن، الى ان امتلأ منزل فاطمة بالاثاث و الاواني ، مما كان يثلج قلبها و تتغاضى عن سم كلامهن ، فخيرهن كان يغطي جانبهن السئ ، بل و يمحيه في غالب الأحيان ، فهي الان وحيدة بينهن ، و تحاول أن ترضى بكل شئ من أجل تربية أطفالها و الحفاظ على مودتهن ، خصوصا أن جارهم البقال طلب من فريد أن يشتغل معه مقابل أجر زهيد قد يكفي لشراء بعض الاكل للأسرة ، بينما محمد و عصام جرهما عبد الهادي الى صفه و عرض عليهما العمل في الحضيرة ، الاجر بدأ يرتفع بعد أن اجتمعت أجور الإخوة الثلاثة ، صار يكفي لسد ثمن الكراء و بعض الاكل ، بدأت ابواب الرزق تنفتح على هذه الأسرة البائسة ، صار الإخوة يخرجون من الساعة السادسة صباحا و لا يعودون الا عند الساعة الثامنة ، فاطمة بدأ الشوق يغلبها لغياب فلذات كبدها ، لكن كانت تتذكر كلام عبد الله الذي كان يردده على مسامع أولاده كلما سنحت له الفرصة " انتم شخصي عند غيابي ، انتم رجال الأسرة " ، و فعلا صار ما كان يردده،
مرت سنة على ايام الحزن ، و تعودت فاطمة على أهل الحي و تعودوا عليها ، عادت الى ما كانت عليه في القبيلة ، المرأة الطيبة الحنونة الكريمة التقية ،التي تحب الخير للجميع ، صار يضرب بها المثل في كل بيت ، المرأة المكافحة التي صبرت على مر الزمان لكي تقطف منه زهور الأمل. فاطمة فقدت وزنها الزائد و باتت قامتها تبدوا أطول مما كانت عليه ، برزت ثدياها اللتان كانتا تميزانها عن الاطفال في صغرها ، و مؤخرتها المنتفخة التي طالما استهوت زوجها عبد القادر ، و عيناها العسليتان باتتا أوضح مما كانتا عليه ، رموشها السوداء الطبيعية المنتصبة كانت تضفي لجمالها جمالا ، و شعرها الرطب الطويل الذي كان يتسلل من تحت وشاحها دون إرادتها ، شفتاها المكتنزتان الورديتان زادا انتفاخا عندما انصهر الشحم من وجنتيها، قدماها الغليظتان أصبحتا أرق مما كانتا عليه ، و أنفها المنتفخ اصبح مرسوما في خريطة محياها، الجميع لاحظ التغيير الذي طرأ في سنة واحدة ، و كأن الحزن اكل منها فائض اللحم و الشحم و ترك منها ما يكفي ، فظهر جمالها الذي كانت تخفيه تلك الطبقات الزائدة ، أصبحت بعض النسوة تغار منها و تتحاشى التواصل معها خوفا على أزواجهن ، خصوصا أنه تقدم لها أربعة رجال من خيرة شباب الاحياء المجاورة ، لكنها كانت ترفض و الخجل كان ينال منها ، فاضطرت أن تلبس النقاب لكي تتحاشى نضراتهم ، و ياليتها لم تفعل ، فقد زاد ذالك النقاب من جمالها ، فكيف لا و قد باتت عيناها فقط ما يظهر منها ، و هي التي تملك اجمل العيون . سكينة كانت تشبه امها لدرجة كبيرة ، نفس العيون و نفس اللون ، نفس الأنف و الشعر و دوران الوجه، نفس اليدين و الشفتين ، الكل كان يجزم أن سكينة ورثت من أمها كل تفاصيلها ، كان محمد يغضب كلما جاء رجلا يخطب أمه ، فصار يرفع صوته عند وقت العشاء و يطلب من أمه أن لا تخرج من المنزل ، و هو يتأفف من تصرفات رجال الحي ، فكانت أمه تنهره و تأمره بالتزام ادب الحوار معها ، و تبرر له أن طلب الزواج حلال عند الله ، و رفضها لكل هذه العروض ليس خوفا منه أو من المجتمع ، لكنها أعطت وعدا لنفسها أن تعيش من أجل أطفالها فقط ،كان محمد يعتذر كل مرة و يثلج قلبه ، فيقبل يداها و هو يردد على مسامعها :

- امي اعلم انك لن تتركينا و لن يملأ اي أحد مكان والدي في قلبك ، لكنني أخاف احيانا أن يؤثرون عليك .

فتطمئنه و هي تلمس شعر رأسه الاكرد ، و تعانقه و بقية إخوته ، فتسترجع ذكريات عبد الله و تجأش في البكاء، فتتركهم و تحمل سكينة بين يديها و تتجه إلى غرفتها كي تكمل غسل وجنتيها بعبرات ساخنة .

الان اصبح عمر محمد ستة عشر سنة ، عصام خمسة عشر سنة ، و فريد أربعة عشرة سنة، رغم تفاوت أعمارهم إلا أن بنية أجسادهم أصبحت متقاربة و كان يظهر عليهم النضج المبكر، صاروا يحلقون شواربهم و أمهم تبتسم من بعيد و هم يتزينون للخروج ، بوادر سن المراهقه بدأت تزحف على وجوههم ، و رائحة عرقهم باتت تطغوا عليهم ، فاطمة غالبا ما تشتم ملابسهم قبل غسلها و هي تفتخر بهم ، لكن عبد الصمد دو الثلاثة عشر سنة صار أطول منهم و وسامته باتت تتغنى بها مراهقات الحي ، كانت شخصيته قوية جدا ، فقد نظم مجموعته من صبيان الحي و بات يترأسهم ، كان يشبعهم ضربا إن لم يمتتثلو لأمره، و ضلت طرقات الباب غالبا ما تكون من مشتكيات لأمهات اطفال الحي، صار صيته على كل لسان ، و لقب بالوحش، كانت فاطمة خائفة من هذا التغيير المفاجئ لعبد الصمد ، لم تعرف هل تفرح لقوته ام تخاف من جبروته، هل تتركه يقاتل من اجل البقاء ام تسجنه لكي لا يصبح طاغيا و يجلب لها المشاكل .
عمر و وليد هما توأمان طبق الاصل ، لا يستطيع احدا أن يميز بينهما إلا فاطمة ، عمرهما الان اثنتا عشرة سنة ، هادئان جدا و يمتثلان للأوامر ، لا يحبان المشاكل و يفضلان اللعب مع بعضهما بعيدا عن الآخرين .
احمد الان عمره أحدا عشرة سنة ، مازال مشكل التأتأة يعزله عن بقية الأطفال ، يفضل أن يلعب دون أن يتكلم ، يعشق كرة القدم و يبهر أقرانه بحركات بهلوانية بكرته الصغيرة ، الكل يفضل أن يجره لفريقه عندما ينظمون مباريات بينهم ، يكون رده دائما بإشارات ، إلى أن ضن العديد أنه أصم .
عبد الجليل عمره الان عشرة سنوات ، يلقبونه بالدبوز ، لأنه غليظ جدا ، لكنه مفتخر بحجمه و يعشق اللعب مع البنات ، كانت فاطمة تنهره غالبا و تأمره باللعب مع الأولاد ، كان يمتثل لأمرها و بعد أن تتوارى عن الأنظار يعود إلى مجموعة البنات و يكمل لعبة عريس و عروسة .

بلال و مصطفى توأمان في عمر التسع سنوات ، أحدهما اطول من الاخر ، لا تتشابه ملامحهما، و لا شخصياتهما، بلال يحب المصارعة، و مصطفى يعشق النوم ، ناذرا ما تجدهما في مكان واحد ، و ان كان الحال تراهما في عراك متواصل . فاطمة كان يبح صوتها لكي يكفا عن المصارعة ، بلال يحب أن يظهر القوي و المسيطر و مصطفى يحاول أن يدافع عن نفسه فقط .

ايوب الذي أصبح اصغر الذكور بعد أن رحل عبد العزيز ، لا يكف عن الضحك ، و لا تعرف صدقه من كذبه ، طفل حالم ، تارة يروي قصته التي عاشها في القمر ، و تارة يحاور سمك القرش ، و غالبا ما يبتكر شخصيات من نسج خياله و يقلد اصوات الحيوانات ، فاطمة تضحكها تصرفاته ، تقبله كل ساعة و تشم فيه رائحة عبد العزيز ، فهو يشبهه لحد كبير .

أصبح أبناء فاطمة يكبرون و يتغيرون، كانت تخاف أن تفقدهم المدينة طبعهم العفوي و طيبتهم المفرطة ، صارت تخاف من التغيير الذي أصبح يكتسحكهم كالعاصفة .

بأي ذنب عُذبت؟Où les histoires vivent. Découvrez maintenant