*العروة الوثقى*

67 9 0
                                    

وعادت السيدة عائشة إلى مكانها في بیت الرسول، تحف بها هالة من آيات النور ، و يزدهيها النصر الالهي الذي جعل براءتها قرآنا يتعبد به المسلمون ما بقيت الحياةوعادت لتستأنف حياتها الزوجية الحافلة، وتمرح ما شاء لها صباها، ودلالها في ظل الحبيب ، و تباهي ضرائرها قائلة :أية امرأة كانت أحظى عند زوج مني!ولا تفتأ تردد على مسامعهن قوله عليه الصلاة والسلام :حبك يا عائشة في قلبي كالعروة الوثقىأو تنقل اليهن ما كان من سؤال عمرو بن العاص للرسول:- یا رسول الله من أحب الناس اليك ؟أجاب عليه الصلاة والسلام :عائشة قال عمرو :انما أقول من الرجالفأجاب الرسول : أبوها ! وكان المسلمون يعلمون حب الرسول لعائشة وایثاره إیاها، فينتظرون حتى يكون في بيتها ويبعثون اليه بالهدايا. ومع أن الرسول كان يرسل لكل زوجة من زوجاته نصيبها مما يتلقى و هو في بيت عائشة،الا أن الغيرة استفزتهن، فتشاورن في وضع حد لما يلقين من بنت أبي بكر وانتهى بهن الرأي إلى أن يلتمسن من السيدة فاطمة الزهراء مخاطبة أبيها صلى الله عليه و سلم في الأمر ، و استجابت رضي الله عنها فدخلت على أبيها وعائشة عنده فقالت :يا أبي ، أن نساءك أرسلنني اليك ، وهن ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافةفسألها الرسول :أي بنية ، أتحبين ني ؟.فهتفت بملء ايمانها :بلى يا أبي ،قال :فأحبيها وعادت الزهراء إلى زوجات الرسول فنقلت اليهن ما سمعت ، فألححن عليها أن تعاود الحديث في الموضوع ثانية، لكنها أبت أن تحدث أباها عليه الصلاة والسلام بما يكره،واخترن من بینهن احدى اثنتين هما أحب نساء الرسول إليه بعد عائشة : زينب بنت جحش، أو أم سلمة. فتحدثت اليه صلى الله عليه وسلم فيما يشکو نساؤه ، مرة ثانية و ثالثة ، إلى أن قال :لا تؤذيني في عائشة...وهكذا رد الرسول عن عائشة ضرائرها،و كذلك رد عنها أبا بكر حين كان يحاول في عنف أن يخفف من غلوائها .وحين كانت الغيرة تشتط بها ، كان الرسول يوسع لها العذر فيقول :ويحها ، لو استطاعت ما فعلت ! وقد يسألها :- أغرت ؟فتجيب :- وما لي أن لا يغار مثلي على مثلك ؟ وصدقت عائشة...وكذب الذين ادعوا تجردها من البشرية وترفعها عن أهواء حواء و براءتها من فطرة الأنثى.اللهم لا ، وانما كانت عائشة أنثى سليمة الفطرة، ينزع بها ميراثهاالعاطفي إلى حواء فتستجيب له دون أن تتكلف نفاقا أو مداراةوما غيرتها المحتدمة بعد هذا كله الا مظهر حب عميق لرجلها الاوحد، ودلیل تعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام ، ورغبة لا تقاوم في الاستثثار به...ونظلمها، و نظلم نبينا الكریم، اذا تكلفنا نفي هذه الغيرة عنها و وصفنا ما بينها و بين ضرائرها بالاتفاق الرائعوما لها ألا يغار مثلها على مثله ؟!كانت السنوات التي تلت محنة الافك حافلة بجليل الأحداث وقد أقامت عائشة ما عاش الرسول تشهد أمجاده ، وتتلقاه عائدا مظفرا من غزواته ، وترقب دعوته وهي تنتشر وتمتد ،كنور الفجر يغزو الظلمات فتنجاب أمامه قطع الليل ثم أن للبطل أن يستريح بعد حياة ناصبة مناضلة مجاهدة..وآن للرسول البشر ، أن يرقد بعد طول نصب و سهاد...عاد من حجة الوداع إلى المدينة فما أقام بها غير قليل حتى أرق ذات ليلة، فخرج إلى البقيع يحيي الراقدين هناك...فلما أصبح مر بعائشة في الغداة فوجدها تشكو صداعا وتئن متوجعة:وا رأسیاه !قال وقد بدأ يحس ألم المرض :بل أنا والله يا عائشة وا رأساه !فلما کررت الشكوى داعبها بقوله :وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك ، وكفنتك ، وصليت عليك ودفنتك ؟فصاحت وقد هاجت غيرتها :ليكن ذلك حظ غيري ! والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك ، لقد رجعت الى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فأشرق وجهه صلى الله عليه و سلم بابتسامة لطيفة ، وسكن عنه الألم هونا ما ، ثم قام يطوف بزوجاته ، لكن الألم ما لبث أن عاوده واشتد عليه حتى اذا وصل في طوافه إلى بيت ميمونة لم يعد يحتمل مغالبة ألمه...فنظر إلى زوجاته وقد تجمعن حوله ، ثم قال متسائلا :أين أنا غدا ؟...أين أنا بعد غد ؟ وأدركت نساؤه على الفور ما وراء سؤاله من تطلع إلى يوم عائشة فطابت نفوسهن بأن يمرض رسول الله حيث أحب ، وقلن جميعا : یا ر سول الله ، قد وهبنا أيامنا لعائشة وانتقل الرسول إلى بيت الحبيبة ، فسهرت عليه تمرضه و بودها لو تفتديه بالروح ، وحانت لحظة الرحيل ، ورأسه صلى الله عليه وسلم في حجرها.قالت عائشة تصف اللحظة الرهيبة :وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر إلى وجهه فاذا بصره قد شخص و هو يقول :- بل الرفيق الأعلى من الجنةقلت :- خيرت فاخترت والذي بعثك بالحقوقبض رسول الله بين سحري و نحري... فمن سفهي وحداثة سني أنه صلى الله عليه و سلم قبض و هو في حجري ، ثم وضعت رأسه علىزوسادة وقمت ألتدم معالنساء وأضرب وجهي.وكادت ان تكون فتنة عصم الله المسلمين منها حين ألهم أبا بكر أن يقف في المسلمين فيقول :- أيها الناس ، أنه من كان يعبد محمدا فان محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.ثم يتلو فيهم قوله تعالى في كتابه المنزل على محمد بن عبد الله :<<وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، و سيجزي الله الشاكرین>>فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت ، حتی تلاها ابو بکر يومئذ !ودفن الرسول في بيت عائشة وتولى أبوها الخلافة من بعدهوعاشت عائشة لتكون المرجع الأول في الحديث والسنة، وليأخذ المسلمون عنها نصف دينهم كما مر رسول اللهقال الامام د الزهري « : لو جمع علم عائشة ، إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.عاشت لتصحح رأي الناس في المرأة العربية، وتعرض لها صورة أصيلة رائعة ، ستظل تبهر الدنيا ما أدبر ليل أو أقبل نهارثم ماتت في السادسة والستين من عمرها ، بعد أن تركت أعمق الآثار في الحياة الفقهية ، والاجتماعية ، والسياسية للمسلمين...وكانت وفاتها على الأرجح ليلة الثلاثاء لسبع عشرة مضين من رمضان عام ثمانية وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة ثم شیعت جنازتها في غسق الليل إلى البقيع كما أوصت - على أضواء مشاعل من جريد- مغموس في الزيت ، وسارت الجموع من ورائها باكية معولة فلم تر ليلة أكثر ناسا منها...وأودع جثمانها مع أمهات المؤمنين ، وقد ألغى الموت ما كان بينها و بينهن من غيرة وتنافس ، وأخمد الزمن ذاك اللهب الذي احتدم أعواماوفي ذلك الكيان الرفيق اللطيفونزل معها إلى القبر ولدا أختها أسماء ذات النطاقين : عبد الله وعروة ابنا الزبير... والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد ، وعبد الله ابن أخيها عبد الرحمن.و نامت أخيرا، وخلفت الدنيا من ورائها ساهرة فيها، والتاریخ مشغولا برصد دقائق حياتها منذ كانت في السادسة من عمرها، معنيا بتتبع حركاتها وسكناتها وكلماتها طوال الأعوام الستين التي عاشتها ملء الحياة!

ليهدينا اللهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن