تعرّف عليها

479 59 22
                                    

الكرسي الهزاز أمام المدفأة يعزفُ اللحن ذاته كلما تحرك منذ دقائق، وكأنه يحفظ تحركات صاحبه، إذ يجلس عليه رجلٌ ذو شعر غزاه البياض تحت وطأة الأيام والسنين، ليغدو جَدًّا في يومنا هذا. 

ملامحه هادئة وعينيه مغمضة، يغرق ببطءٍ في مزيجِ السكون وصوت ايمي واينهاوس المنبعث من الغرامافون الخشبي، رائحة القهوة التي يرسلها الكوب الكائن على المنضدة المجاورة يخترق حواسه ويساهم بإيصاله لمراحلٍ متقدمة من اللاوعي.  

إلا أن سكونه المحبب هذا -بعيدًا عن الناس وصخبهم- بُتِر بفعل مزعجةٍ ما تسمى نيرفانا، عضو فريق النقد -الذي يستخف به-.

 تفتح الباب بصخب، وهي تصرخ بالقول: جدي الحبيب، والرائع، والمبدع، والمثقـ...

تجعدت ملامح وجهه بالكامل تعبر عن انزعاجه ونفوره منها، فأسكتها بكلماته المقتضبة: كفاكِ كذبًا يا مزعجة. 

مثلت نيرفانا الصدمة بعينيها، وضعت يدها على قلبها تردف بحزن مصطنع: أتقول عن مشاعري الصادقة كذبًا؟! ألا تملك قلبًا؟! كيف تقول هذا لشخصٍ يحبك ويمدحـ...

أخذ يرتشف من قهوته المحببة، وعاد بعد رشفة يخرس أحرفها: اختصري علي بالقول، ماذا تريدين يا مزعجة؟ مدحكِ هذا؟ ما هو إلا تمهيدٌ لمصيبة وقعتِ بها!

ضيّقت عينيها الواسعة بخبثٍ وابتسمت بما لا يدل سوى على الشر، إلا أن ملامحها سرعان ما عادت للحزن المصطنع: أنت تظلمني! 
هل تتهمني بوضع مصلحتي فوق مبادئي؟ أكذب! 

وكما كانت تتوقع أجاب: نعم. 

قلبت عينيها بضجر من صراحته العجيبة هذه، ثم راحت تجلس أمام كرسيه، حيث تكون على مقربةٍ منه، تحمحم بأدب قبل أن تنطق: كونك تعرفني حقًا ولا أحتاج لأساليب الكذب واللطف معك، سأقول ما أريد؛ أنت تعلم أن فريق النقد يحضّر الآن لكتابٍ جديدٍ يتناول موضوع مهم، وأننا لن نجد شخصًا بمثلِ إبداعك وعلمك خاصةً لهذا الأمر!

نظر نحوها بملل، يقول: يا لكم من مراوغين! لا أثق بكم يا نقّاد!

صرخت تعبيرًا عن انزعاجها، ونبست: لا تقل هذا، ولا تنكر! نحن مبدعون. 

ورغم ثقتها بما قالته، أطاحها الجَد بثوانٍ: بل أنكر. 

أغمضت عينيها تحاول أن تهدئ نفسها، ثم ابتسمت وأردفت: 
حسنًا دعنا نفتح صفحة جديدة بالحب.

شرب من قهوته ثم أعادها إلى مكانها، ونطق ساخرًا: وهل تعرفين ما هو الحب؟

لمع الخبث بعينيها ثوانٍ ولكنها عادت تقول بتفاخر: بالطبع! فالحب موجودٌ في كل مكان، وتكادُ الخواطر تفيضُ به. 

ضحك باستهزاء أثناء قوله: أتعرفين ما هي الخواطر حتى؟

وأتاه ردها: بالطبع أعرف! 

ببالي خاطرة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن