في أحد أيَّامِ الخَرِيفِ حيثُ السمَاء مُلبَّدةً بالغيومِ ورذَاذُ الأمطارِ يغسلُ الوجوهِ، لم يمنع هذا الطَّقسُ رفيفًا من زيارةِ الجد الغالي.
ولجت منزله بعد طول سير، علّقتْ مِعطَفها المُبلَّل بماءِ الأمطارِ فارِكةً يدَيْها المرتجفة ببعضها، تَوَجَّهَتْ مباشرةً نحو حجْرة المَكْتَبِ الخَاص بجَدِّها بينما تستمتع بصوتِ تصادم قطراتِ المطَرِ الهادئ ورِقته على النوافذ.
اسْتَأذنتْ ودَخلَتْ فوجَدَتْهُ جالسًا على كُرسيه كما هو معتاد، يحيط به الجو نفسه.
هَشَّ لها وبشَّ فسلّمَتْ عليه دون أن يغيّر من جلستِه الأرستقراطية، واضعًا ساقًا فوق الأخرى بهيئته الكلاسيكية المعتادة، رفعَ حاجبَيهِ الغلِيظَيْنِ بدهشةٍ ونحّى كتابه الذي كان منهمكًا في قراءتِه جانبًا ثم سألها بهدوءٍ خرج منه رغمًا عنه، رغم أن رفيف من النقاد إلا أنه يستلطفها عكس نيرفانا: هل يشغلكِ أمرٌ ما؟
نظّفتْ رفيفٌ حلقها قائلة: لا يوجد ما يريبك.
فقال: إذًا هاتي ما عِندِك.
سكتتْ قليلًا ثم هتفتْ: في الواقعِ يا جَدِّي كما تعلم نحن نكتب الآن كتابًا جديدًا عن الخواطر، وقد كُلِّفتُ بهذا الفصل، لكن لا أدْرِي هل تشبه الخاطرة المقال أم الشِّعر؟ وهل لها أركانٍ عليّ الالتزام بها؟
ابتسم الجَدُّ بهدوءٍ وأجابها: عندَ قولِ خاطرة فهذا يعني ببساطة الهاجس أو ما يخطرُ في القلب من أمرٍ ما، وهو يختلفُ عن المقالِ من حيث الفكرة؛ فالخاطرة وليدة اللحظة، طارئة، مجرد لمحة لا تناقش جميع الوجوه بعكسِ المقال، ولا تحتاج إلى حججٍ أو مراجع لإثباتِ صحتها، وهي ليست شعرًا منظومًا بقافيةٍ بل نثرًا.
تساءلت باستيعاب: إذًا يا جَدّي هي قطعة نثرية تعرض فكرة واحدة وليدة اللحظة!
أجزم لها: تمامًا يا رفيف، فهي سريعة بالنسبة للإعلان عنها وعرضها، وليست بحاجةٍ إلى التَّحليلِ أو التَّأمُّلِ العميق.
اتسعتْ ابتسامتها وهتفتْ: ما أبسطها! يمكنني إذًا كتابة الكثير من الخواطر في لحظاتٍ معدودة.
مسّدَ الجَدُّ لحيته بهدوءٍ وأومأ: لكنّها يا ابنتي ليستْ مجرد كلماتٍ مرسلة بل لها مكوّنات وأجزاء وسمات محددة يجب أن تتوفر عند كاتب الخاطرة.
وما أن أنهى الجد حديثه، ردت رفيف بحيرةٍ: وما هي يا تُرى؟
تنهد الجد مسترسلًا: بدايةً يا ابنتي عليكِ معرفة ماذا ستكتبين، ثم ستعبّرين عن فكرة واحدة بأسلوبٍ مركّزٍ ولغةٍ مُكثّفةٍ مع مراعاة القِصَر والإيجاز دون الحاجةِ إلى التعمّقِ، ويُفضّل لو غلبَت عليها روحُ التَّهكُّم والسّخرية النّاعمة.
أنت تقرأ
ببالي خاطرة
Poetryتراودنا هواجس كثيرة، وتخاطرنا أفكارٌ مبعثرة، مشاعر تختلجنا وقضايا نحب أن نحكي عنها، فكيف السبيل للتعبير إن لم تكن كلماتنا؟ هل أردت يومًا أن تكتب خاطرة ولم تدرِ كيف؟ في جلسةٍ وقورة تلتحم فيها نغمات الغرامافون مع عبير رائحة القهوة، حيث الجد يجلس على ك...
