كانت النغمات تتدفق بروّيةٍ من ذاك الغرامافون القابع على الطاولة رفقة أقرانه من الجمادات، وصوتٌ رهيف يصدر من تلك الأسطوانة يتجانس مع ذاك اللحن.
كانت جلسة راقية بالنسبة لذاك العجوز المتّكئ على كرسيه بجسده الممتلئ، يرتشف قهوته ويتأمل ملامح زوجته التى قد حاك الزمن نسيجه في كل إرب من سِحنتها كرّةً وكرّةً أخرى، يطالع الكتاب المتربع أعلى كفيه، وفي الجانب الآخر يجلس صبيٌّ صغير ساكن جوار المدفأة.
ووسط تلك الأجواء الدافئة نبع صوت رقيق من تلك العجوز تقول بينما تتطلع على الكتاب الذي يربض وسط كفي زوجها:
«أتقرأ عن الخواطر؟ يذكرني ذلك بخواطرك التي اعتدت أن تنسج أحرفها لي أيام شبابك، كانت مبتذلةً حقًّا».
كان الصوت الذي نبع منها في البداية رقيقًا خجولًا، ثم انقلب بغتة لآخر مازحٍ ومُقهقهٍ، وما كان رد العجوز على ذلك إلا أن يشيح وجهه جانبًا في خجل لا يظهر إلا أمام زوجته، ويقول:
«أيام الشباب قد مضت، ولا يمكنك مقارنة بركةٍ ببحيرة، كذا لا يمكنك مقارنة معرفتي القديمة بالحالية».
كان يتنحنح بأنَفَة على كرسيّه بينما يسرد ذلك عليها، لذا ردت زوجته فورًا بينما تنتشل نظاراتها من فوق المنضدة، وتُرسخ منتصفها على أرنبة أنفها بينما تُضيق عينيها بترقب:
«إذًا احكي لي عن محتوى الكتاب هذا، لخّصه لي فضلًا».
كانت تلك فرصة مثالية للعجوز الذي ابتسم وراح يقول:
«كنت أقرأ كتابًا يُمكنني من التفريق بين الخاطرة، وقصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة».
جذب حديثهم ذاك الجسد الضئيل الجالس جانبًا وبحذو المدفأة، لكنه لم يُجذب للمعلومات التي ستُقال، وإنما كان متحمسًا لرؤية الفائز في نقاش جدَيه، أو سيثبت جده جدارته فعلًا؟! كانت الأجواء له حماسية كصبي صغير، لذا سريعًا ما دس جسده جانبًا لجدته وجلس ينصت لجده الذي قال مباشرة:
«كثيرًا ما يخطئ الأشخاص في الحكم على النص أو معرفة ماهيته، لذا اقتنيت هذا الكتاب الذي يفرق بين عدة أنواع من الأدب قد تختلط على البعض، ويسرني كونكما تصغيان إلي».
همهمت الجدة بينما تنصت أكثر لحديثه متجاهلة تحديها السابق والذي كان طُرفة لاهية فقط كي تصغي لحديث زوجها الشغوف، لكن لم يكن الأمر كذلك نسبة للصغير الذي لا زال يستمع لحديثهم بغية معرفة الفائز رغمًا عن كون المُنافسة قد حلت.
«سأشرح لكم اليوم عن الفرق بين قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، والخاطرة، لذا أنصتوا جيّدًا!»
كان العجوز يُبدى حماسًا جامًا للحديث الذي سيقصه عليهم، فقليلًا ما تطلب زوجته ذلك منه.
«سأشرح لكم في البداية عن قصيدة التفعيلة، وبلفظ آخر تدعى الشعر الحر، وهو أحد أشكال الشعر العربي الذي تميز بتحوّله من فكرة وِحدة البيت إلى وِحدة القصيدة، بالإضافة إلى عدم الانتظام باستعمال القافية فيه».
أنت تقرأ
ببالي خاطرة
Poetryتراودنا هواجس كثيرة، وتخاطرنا أفكارٌ مبعثرة، مشاعر تختلجنا وقضايا نحب أن نحكي عنها، فكيف السبيل للتعبير إن لم تكن كلماتنا؟ هل أردت يومًا أن تكتب خاطرة ولم تدرِ كيف؟ في جلسةٍ وقورة تلتحم فيها نغمات الغرامافون مع عبير رائحة القهوة، حيث الجد يجلس على ك...