ببالي خاطرة

سمات تميّزُها.

أضفت بعض الخشب كزيادة فوق الجمر الملتهب قِبالي ليمنح الليل الخالي دفئًا، أثناء ذلك علا صفير الإبريق منبّهًا أنه وقت القهوة المسائية، وأخيرًا جلست علی الكرسي الخشبي الهزّاز الذي قاوم السنين معي، ووضعت كوب القهوة علی المنضدة الصغيرة بجانبي لأحمل كتابي الذي تعبت كثيرًا للحصول عليه، كان كاتبًا عربيًّا أُعجِبتُ بكتاباته لذا اقتنيت نسخةً منها، وها أنا ذا أغرق مرةً أخری في بحر كتابه لأبدأ من حيث توقّفت.

القبر التّائه
كم ذا يقاسي العاشقون ويتألّمون
ولا يدري بهم أحد
ولا يبلغ وهم إنسان تصوّر ما يعانون.

عنوان غريب، أيمكن أن أجد أحدًا آخر قد سمّی عمله به؟ ألست تجول في قلبي العجوز يا علي وكأنّك تكتشف نقاط ضعفه؟ أُدرك أن صفات الخاطرة تقع تحت عنوانٍ ثابت، لكن أيمكن أن يسرق العنوان فقط قلب قارئه؟

كم للحب من شهداء عاشوا يائسين
وقضوا صامتين
فما حازوا مجدًا ولا فخارًا
ولا اشتروا جنةً ولا آمنوا نارًا.

لا يملكون أدلّة ولا براهين في حبهم، لا يملكون خريطةً ولا منطق يا كاتبي، فهل ملكت أنت حين كنت تكتبها؟ لا أظنّك احتجت لبرهان تتركه في كتابك لإقناع القارئ به، بسجيّتك تملكتهم فما الحاجة لبرهان لا طائل منه؟

مساكين… يعيشون في دنيا الناس وليسوا فيها
يرون بغير العيون
فلا يری الناس ما يرون
ولا يبصرون ما يری الناس
يموت عندهم كل حي ما لم يتّصل بالحبيب
ويحيا كل ذي صلة به حتّی الجماد

لا تحتاج لتخطيطٍ ولا تحديد، انفعالك الوجداني ولَّد فيها عاطفةً أودت بقلبي معها، فمن يجلس مخططًا لكلمات يود أن يعرض فيها مشاعره؟ أعلم كل العلم أنّها كانت وليدة اللّحظة، فكيف إذًا أستغرق سنينًا في تأمّلها؟ لم تُعد لها ولم تُعدَ لك، جلست لتكتبها فخرجت أجمل ما تكون، فهل كنت لأستشعر ما يصلني لو أنّك خطّطت لأحرف، ومشاعرك تطفو راحلةً آخذةً فرصتك معها.

إن فكروا ففي المحبوب
أو تكلموا فعنه
أو اشتاقوا فإليه
أو تألموا فعليه...

ألفاظ بسيطة تأخذ مجراها كسيلٍ خلال وادي خالٍ من الصخور، ما الفائدة من ألفاظ صعبة لا أفهم معناها؟ أو أقلب المعجم لأستطيع أن أصل لما تعنيه فتختفي المشاعر بعد الوقت الذي أقضيه في البحث، رغم اختصار وقصر كل خاطرة، بساطتها، عفويّتها، إلّا أنّني لا أجد عيبًا فيها، بل هذه شاكلة الخاطرة التي أود قراءتها.

فإن تكلمت لم أنطق بغيركم
وإن سكت فشغلي عنكم بكم
وإن مُنحوا الدنيا باعوها كلها بقبلة منه أو شمةٍ أو ضمة
ثم لم يأملوا إلا دوامها
أو الموت بعدها لئلا يجدوا فقدها
لا يألمون إن قال الناس مجانين
ولا يحزنون إن نالهم الأذی
بل ربما سرهم ما يسوء
إن كان فيه رضا المحبوب.

ارتبط موضوع الخاطرة معها فامتزجت عباراتها تعبر عن كلمة واحدة، بلا أي تستر أو غموض أو لفٍ ودوران، لم تطل الخاطرة بغير هدف، فكلما قرأت أكثر، غرقت أكثر، شعرتُ بشخصيتك وهواجسك فيها، وكأنّكَ هي وهي أنت، خاطرتك عبرت عنك يا علي، ليس سببًا لتعداد سطورها وإنما سببًا لقلة سطورها التي فيها النجوم تثور، لم تنتهي برتم موسيقي أو قافية، ولكنّها كالنّغمات تتقافز علی قلبي.

ويا ويلهم من العذال
يا ويل الشجي من الخلي
يلومون قيسًا، لأنهم يرون ليلاه كسائر النساء
ففي كل امرأة عوض عنها وبديل منها
ولو استعاروا عيني قيس فنظروا بهما
لرأوا ليلی هي الدنيا
وهي الأخری
وهي الروح
لولاها ما كانت الحياة
ولا أضاءت الشمس ولا أنار القمر
ولا بسم الروض ولا ضحك الينبوع
ولا همس النسيم ولا غنی الطائر
ولا كان في الدنيا جميل.

لتنتهي الخاطرة أخيرًا معلنة أنّها أوصلت هدفها وحصنت كلماتها بمشاعرها، تنتهي فيثور ذلك الشعور وكأنّه يقول (ما التالي؟)
تتعب عين العجوز الذي يقرأ يا علي لكن القلب يأبى فأيهما أساير؟ لا أود أن أنتهي فتنتهي جلساتنا فما مؤنسي بعدها؟

يحب من كسا الشيب شعره أن يناقش خواطرك، فرغم كثرة الأنواع من العاطفة: الجادة، الوطنية، الخيالية، القصيرة، المتوسطة، والطويلة، أحسست بجميعهم في خواطرك، رغم أنني أری توسط الحجم هو الأجمل، والإيجاز في الكلمات، والأسلوب الشيق في إيصال ما تريد.

ربما خططت لخواطرك عكس تنبؤي لكنّني أظن أنّه سيكون علی شكل رؤوس نقاط أو مواضيع محددة، التفكير، اختيار الألفاظ، والتخيل ثم البدء في الكتابة.

كانت مقسمة ومتسلسلة إلى مقدمة يمهد لها، وعرض يطرق فيه محوره الرئيسي، وخاتمة مؤثرة تحوي لبّ وخلاصة شعوره المتدفق.

أحببت الخاطرة، والسواد الذي في عينيّ سيغزوا المكان قريبًا ومنه أغط في نومٍ عميقٍ دون أن أعلم، لذا أودعك إلی لقاءٍ آخر، لأكتشف تراثًا لم أعلم بوجوده يومًا.

ختامًا لنلخص صفات الخاطرة التي تحدثنا عنها، في البداية اختار الكاتب عنوان مختلف للخاطرة وموضوع التزم به، كما أنه لم يضع الأدلة أو الأسباب في خاطرتها فهي تنبع من مشاعره الخاصة التي تتولّد في اللّحظة دون تخطيط أو تجهيز، بألفاظ بسيطة يسهل على الجميع فهمها، وقسمت لمقدمة ووسط ونهاية، وانتهت كما انتهي فصلنا✨

المصادر:
صور وخواطر/ علي الطنطاوي.
الكتابة الإبداعية.

كتب الفصل بواسطة العضو الوسيم حتی وهو في سن المائة.
دمتم نجومًا لمجرتنا💜